في أعقاب تطهير المعبر الحدودي بين المغرب وموريتانيا من عناصر البوليساريو، من خلال عملية عسكرية مغربية ناعمة، توجهت الأنظار صوب موريتانيا، وتناسلت التساؤلات حول موقفها الصامت والحيادي طيلة الفترات العصيبة لهذه الأزمة، باعتبارها طرفا معنيا بالصراع، وأيضا الطرف المتضرر من هذا الحصار الاقتصادي، الذي حاولت الجزائر وجماعة البوليساريو فرضه على الشعب الموريتاني. ليست المرة الأولى التي يبرز فيها هذا المشكل على سطح الأحداث بالمنطقة، فقد أصبح هذا المعبر ورقة جزائرية تستخدم من وقت لآخر ليس فقط من أجل إثارة الفتنة والشغب البوليساري، والمس بالأمن والاستقرار الإقليمي. لكن الغاية كانت أيضا محاولة إقحام وإحراج موريتانيا سياسيا في هذا الملف، عبر محاولة يائسة تهدف إلى خنق موريتانيا في اتجاه تواصلها مع أفقها الشمالي، والإمعان بإلحاق بالغ الضرر بواردات المواد الغذائية إلى موريتانيا ودول إفريقية وبصادرات الأسماك والأسمدة وغيرها نحو المغرب وأوروبا، بما يمثل حربا سياسية واقتصادية ضد نواكشوط. لتقف موريتانيا على حقيقة النوايا المبيتة المحيطة بها، ومصادر الإزعاج والمتاعب والانتهاك. غير أن القيادة الموريتانية ظلت متمسكة بمنطق الحكمة والهدوء والاتزان، منذ اندلاع أزمة العبور، محتفظة بموقف المراقب لتطورات الوضع، دون تحريك ساكن وهي المعنية مباشرة بالأزمة. حسابات موريتانيا كانت دقيقة وذكية، فهي تعي جيدا أن الأزمة عابرة وأن المغرب قادر على حسم الموقف متى أراد وكيفما أراد. وأن شغب عناصر البوليساريو طارئ لن يطول، وستعود المياه إلى مجاريها، دون التورط في مواجهة مع عناصر البوليساريو ومن يقف خلفهم. لذلك وعلى ما يبدو، مارست القيادة الموريتانية سياسة ضبط النفس، بما لا يقحمها في الاستفزازات المقصودة بها أيضا. دون أن تغفل نواكسوط عن تنبيه قيادة البوليساريو منذ البداية، بواسطة قائد عسكري، إلى خطورة ما يقدمون بالمنطقة العازلة من مس بالأمن والاستقرار. الصمت الموريتاني لم يدم طويلا، إذ سرعان ما صدرت توضيحات حول الموقف من النزاع، من جانب الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، ومن وزير الخارجية اسماعيل ولد الشيخ وأيضا من الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية سيدي ولد سالم، تشير جميعها إلى أن موريتانيا ليست طرفا في نزاع معبر الكركرات ولكنها معنية بالصراع كبلد جار، وسيتحول موقفها من الحياد إلى الحياد الايجابي، دون أن تنحاز لأي طرف، مؤكدة على أن الدبلوماسية الموريتانية تسعى من أجل إيجاد حل عادل ودائم ومقبول من لدن جميع الأطراف، بالشكل الذي يؤدي إلى رفع المعاناة عن شعوب المنطقة والدفع بعجلة اتحاد المغرب العربي. وبذلك، تظل موريتانيا منسجمة مع موقفها التاريخي، في أخذ مسافة من الصراع المغربي الجزائري بالمنطقة، كما تظل وفية لمبادئها في الحياد القابل لكل الصفات، لكن الجديد في الموقف الموريتاني ما جاء على لسان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حين قال سنرتقي بهذا الحياد إلى الحياد الايجابي، وهي خطوة مشجعة، تفيد أن موريتانيا ضاقت درعا بهذا المشكل، وترى أن الوقت قد حان لاتخاذ زمام المبادرة بالتعاون للتخفيف من حدة الصراع، كما ترى أن دبلوماسيتها باتت قادرة على لعب أدوار إيجابية في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المعنية، ولم تعد تحتمل إطالة أمد هذا النزاع الذي يستنزف المنطقة المغاربية ويعطل مسيرتها التنموية. على جانب آخر، تدرك موريتانيا جيدا أن المعبر الحدودي مع المغرب، بات يشكل شريان حياة وعصب اقتصادي هام للبلدين، المغرب في اتجاه عمقه الإفريقي وموريتانيا نحو فضائها الأوربي والشرق. فقد تعدد وتشابكت وتقوت المصالح المغربية الموريتانية في هذا الاتجاه أو ذاك على مدى سنوات طوال. وبات الحديث عن إغلاق المعبر الحدودي اليوم ضربا من الخيال، لازالت تحلم بإغلاقه سوى البوليساريو والجزائر، التي تعتقد أنها بمشروع فتح طريق جديد يربط بين الجزائروموريتانيا " تندوف، شوم، نواذيبو" إلى منفذ على المحيط الأطلسي، سيشكل بديلا عن الطريق المغربي الموريتاني. فهذا مشروع لا اعتراض عليه إن كان في الأصل ذا جدوى، لأن حساباته لا ترقى إلى حد التنافس مع طريق المغرب لاعتبارات المرودية والكلفة الاقتصادية والمالية وقوة الدفع البشرية المتحركة في كلا الاتجاهين، رغم أن الإكراه السياسي والتسابق المحموم وصراع النفوذ تعد دوافع المشروع الجزائري. وقد دخل على خط هذه الأزمة، وفي توقيت سياسي دقيق وفي غاية الأهمية، الاتصال الهاتفي الذي تم يوم 20 نوفمبر المنصرم، بين جلالة الملك محمد السادس والرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والذي كان مناسبة أكدت رغبة قائدي البلدين في تعزيز علاقات التعاون الثنائي، وتطرقا إلى آخر التطورات الإقليمية. غير أن الأمر الهام الذي انبثق عن هذا الاتصال تعبير ملك المغرب عن استعداده لزيارة موريتانيا، وتوجيه الدعوة للرئيس الموريتاني لزيارة المغرب، حسب بلاغ الديوان الملكي. وهي فرصة ثمينة كفيلة بطي تلك الصفحة في سجل زيارات قائدي البلدين، التي تركها سلفه محمد ولد عبد العزيز بيضاء. وهي مبادرة ذات دلالات عميقة، سيعقبها بكل تأكيد التحضيرات لعقد هذا اللقاء التاريخي بين قائدا البلدين الشقيقين، اللذين تحذوهما الرغبة في إعطاء جرعة قوية للعلاقات المغربية الموريتانية، للانتقال بها إلى آفاق مستقبلية واعدة. ولتحقيق انطلاقة جديدة تعكس عمق الروابط التاريخية والثقافية وهوية الانتماء القائمة بين المغاربة والموريتانيين. لاسيما وان الموقع الجغرافي للبلدين يظل مكسبا استراتيجيا وجيوسياسيا مهما، يساعد على خدمة مصالحهما المشتركة، عبر التعاون المتقارب المتعدد الأبعاد المتسم بالشراكة بين القطاعين العام والخاص وتقاسم التجارب والمشاريع والاستثمارات، فضلا عن مناقشة جوانب أخرى متعلقة بمشاكل المنطقة وبالأمن ومكافحة الإرهاب والاقتصاد والتكوين والتعليم العالي والتشغيل والثقافة وحرية التنقل والنقل البري والجوي، وصولا إلى أهداف مميزة مرتبطة بالتنمية والتعاون المفتوح الواسع الآفاق، ليس فقط بين البلدين بل ومع منطقة غرب إفريقيا برمتها. وخلاصة القول، فمن خالط الموريتانيين، يطلع على حقيقة نظرة الطبقة السياسية والمثقفة وكبار رجال العلم والفقه إلى كل من المغرب الجزائر. وكيف يتعاملون مع كل طرف ومع أزماتهما المتكررة وصراعهما المتواصل. لذلك يركنون إلى الحياد دون إزعاج هذا الطرف أو ذاك واعتماده كوسيلة للتعايش. لقناعتهم بأن التوغل في المشاكل بين الرباطوالجزائر لن يجلب سوى المتاعب. مستحضرين حجم الاختلافات والتناقض في طبيعة ومكونات كل نظام، بين جمهوري عسكري حديث العهد، وبين ملكية عريقة تعايشوا وانصهروا معها عبر التاريخ. أما بخصوص قضية الصحراء المغربية فمعظم الموريتانيين على قناعة تامة، باستحالة قيام دولة تفصل بين المملكة المغربية والجمهورية الموريتانية، بحكم إدراكهم للعزيمة والإرادة الراسخة والقوية لدى المغاربة، ملكا وشعبا، بعدم قبول كيان دخيل يفصلهم عن دولة موريتانيا وعن إفريقيا، وأن المشروع الجزائري عاجلا أم آجلا آيل للزوال بحكم عوامل الامتداد التاريخي والجغرافي والتماسك القبلي والاجتماعي والرباط القوي القائم بين المغاربة وأشقائهم الموريتانيين، وهي عقيدة راسخة مع استثناءات ذات دوافع إيديولوجية أو قرابات عائلية. لذلك فالرهان يظل على موريتانيا الوفية لمبادئها، كطرف قادر على الانتقال إلى لعب دور الحياد الإيجابي البناء في المنطقة، لاسيما بعد أن تعززت مسيرة البلاد بالديمقراطية وتطور الحياة السياسية ونزاهة الانتخابات الرئاسية والنيابية والتعددية الحزبية وحرية الرأي والتعبير والصحافة، وتواصل مسلسل الحوار السياسي وجسور بناء الثقة بين السلطة والمعارضة. كلها مؤشرات ينهجها الرئيس الحالي محمد ولد السيخ الغزواني، بعزيمة وإرادة، في مسعى للقطع مع مرحلة الماضي، لبناء موريتانيا المستقبل. عبر اتخاذ سلسلة من القرارات الحاسمة في اتجاه بناء دولة الحق والقانون والعدالة، كلها مؤشرات إيجابية تمنح موريتانيا المصداقية والقوة للعب دور طلائعي في المنطقة والتدخل للتوصل إلى تسوية لنزاع الصحراء وقضايا إقليمية أخرى بكل ثقة وثبات. دبلوماسي سابق