إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ انساق نظرية / براديغمات(1) بلغة توماس كون(2) ،يتداخل فيما بينها العلمي بالفلسفي، ففي كل مرحلة معينة ،تسود منظومة نظرية / براد يغم يحاول الإجابة عن إشكالات وهموم العلم، في محاولة لبناء يصور جديد يسعى إلى تحرير العالم ، معتمدا في ذلك على مجموعة من الأدوات والمفاهيم والمناهج ، إلا أن أي تصور /براد يغم، على الرغم من دقته ودقة أطره ومفاهيمه لا يمكنه الاستمرار إلى مالا نهاية ، فصلاحيته تكون في قدرته على حل الألغاز العلمية ، وحين تواجهه مكذبات يتم التخلي عنه لصالح تصور / براد يغم آخر ، يحاول الإجابة عما استجد من هموم العلم ، ومحاولة تملك العالم وحقيقته ، وهدا التصور الجديد يفرض سيطرته على كل مناحي التفكير بدءا من الفلسفة والعلم والسياسة و الأخلاق والأدب و الفن و الطبيعة و الميتافيزيقا والشعر والإحياء والنفس . هدا الإشكال يجرنا للحديث عن نموذجين أساسيين من المنظومات التي سادت التفكير البشري ، نخص بالذكر : البراد يغم الإغريقي ، والبراد يغم الحديث ، البراد يغم الأول يمثله النسق الفلسفي الأرسطي ، فمع أرسطو اكتملت المنظومة الإغريقية ، وفي نسقه نصادف فلسفة متكاملة تتناول نظريات عامة : السياسة ، الأخلاق ، المعرفة ، الطبيعة ، النفس ، الشعر ، الفن ، الأدب ...الخ ، ومركز هدا النسق هو الطبيعة حيث اعتبر أرسطو أنها هي المدخل لفهم الإنسان وكل ما يقيمه من بناءات ثقافية . استقر النسق الفلسفي الأرسطي واستقرت معه المنظومة الإغريقية ففرضت نفسها كإطار نظري طيلة مرحلة العصور الوسطى ، فكان أرسطو مرجعا للتفكير في هده المرحلة ،فكما يقول شوبنهاور : " يمكنك أن تكون مع كانط ، آو ضد كانط ، لكن لا يمكنك التفلسف من دون كانط "، كذلك أرسطو في هده المرحلة ، كان على الدين جاؤوا بعده سواء اتفقوا معه أو كانوا ضده أن يشتغلوا ويفكروا بمفاهيم وأدوات النسق الأرسطي ، فحتى الممكن المعرفي لم يكن يسمح لهم بتجاوز ارسطو . ينطبق هدا القول حتى على الفلاسفة العرب والمسلمين ( ابن رشد نموذجا ) ، وحتى المسيحيين الأوربيين المرتبطين بالكنيسة ، فكيف تبلور فكر نقدي عجل بانتقال أوربا إلى الحداثة ؟؟ في المجتمعات العربية لم تتبلور قيم الحداثة في سلوك أفرادها اليومي ، ودلك بسبب الأثر العميق الذي أحدثته المنظومة الإغريقية في الفكر العربي الذي دخل عصر الانحطاط الفكري والسياسي ، سياسيا لم تستطع المجتمعات العربية القطع مع البنيات الاجتماعية القديمة وبلورة نظام اجتماعي/سياسي جديد بطبقة بورجوازية صافية ، تحمل على عاتقها انجاز مهام التحرر الوطني ، و إقرار الحقوق السياسية و الاقتصادية للمواطن العربي ،فكان من الصعب بلورت مفاهيم نظرية أصلا تنظر لفكر حديث يقطع مع التفكير الغيبي وسلطة رجال الدين والمؤسسات الدينية . لقد كانت الثورة الكوبرنيكية(3) ، إيذانا بنهاية براد يغم / منظومة نظرية ، و بداية آخر ، فكوبونيك الذي أعاد بناء علم الفلك على أسس تقطع مع ما قال به أرسطو و الكنيسة . فحطم بدلك ثنائية العالم ،و القول بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها ، على عكس تصور الكنيسة . هده الثورة كانت لها نتائج همت شتى مناحي التفكير ، علميا ،أثرت في علم الفيزياء الذي اتخذ شكله الحديث مع جاليليو-جاليلي ،(كبلر ، نيوتن .) الذي قال بدوران الأرض ( مع دلك فهي تدور ) فكان من الطبيعي أن تمد هده الثورة إلى باقي مجالات التفكير الأخرى ، بدءا بالسياسة التي ستتجسد مع نيكولاي مكيافيللي(4) ، الذي سيسحب السلطة من تحت أقدام الكنيسة ليقدمها للأمير ، كما تبلورت مفاهيم جديدة من قبيل الحرية مع فولتير ، التسامح مع لوك ، والمساواة مع (ج ج روسو) ،وهي مفاهيم ستشكل فيما بعد الأساس النظري للثورة الفرنسية . الكوبرنيكية أثرت كذلك دينيا ، حيث ظهرت بأوروبا ، حركات تنادي بالإصلاح الديني ،و قطع الوساطة التي وضعتها الكنيسة بين العبد وربه ( صكوك الغفران ) ، وان العلاقة التي يجب أن تنتظم بين الخالق والمخلوق هي علاقة مباشرة دون تدخل أو وصاية من الكنيسة ،وخير من مثل هذا الاتجاه نجد ، مارتن لوثر بألمانيا ، وكالفن بانجلترا . كذلك على المستوى الفلسفي ، طرح النقاش حول الإنسان وماهيته ، وطرح السؤال ما الأنوار ؟؟ مع الفيلسوف النقدي الألماني ايمانويل كانط الذي اعتبر الأنوار : " خروج الإنسان عن وع الحجر الذي هو نفسه مسؤولا عنه ، وهذا الحجر يعني عجز الإنسان عن استعمال عقله دون وصاية غيره ، داعيا إلى تطبيق شعار التنوير الوحيد ، الذي هو الحرية ، أي حرية الاستعمال العلني للعقل ، ومواجهة الرنين الذي يتداعى في أذنك لا تفكر ، فالكاهن يقول لا تفكر لكن امن ، والمستشار المالي يقول لا تفكر لكن ادفع ، والضابط يقول لا تفكر لكن نفد العمليات ، وشخص واحد في هذا العالم يقول فكروا أنى شئتم ومتى شئتم ولكن أطيعوا "(5) .وهذا هو نفس ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كوزلك بصدد جوابه عن سؤال ما الأنوار الذي اعتبره : "عملية الجهر النقدي بهمس الضمير المتحرر من الخوف والرقابة ، وتحويل هدا الهمس إلى واقع تاريخي مأمول ،أو بتعبير آخر ، الأنوار هو أن تجهر بما يجيش في قلبك من اعتراضات على ما تعيشه وتراه ،دون أن يشتغل مقص الرقابة داخلك ". عموما ، حينما نتحدث عن الثورة الكوبرنيكية ونتائجها ، فإننا نكون بصدد الحديث عن سياق إصلاحي جذري قلب التفكير البشري ، فيه تم التخلي عن المنظومة النظرية القديمة لصالح تصور / براد يغم جديد ، تصور عمل على طرد مبادئ الفكر القديم الذي يعوق تطور التفكير الفلسفي والعلمي ، فماهي ادن أهم التحولات التي عكست البراد يغم الجديد ؟؟. كان لما قلناه سابقا من تغيرات على المستوى العلمي ، الديني ، الفلسفي ، السياسي...الخ ،نتائج رائعة أدت إلى عصر الأنوار فتغير الغرب و تغيرت نظرته إلى العالم و إلى ذاته ،فقد فهمت الأنوار نفسها أنها عصر التقدم نحو الجميل ، نحو العالم الأفضل ،و أنها عصر تحطيم الأوثان باسم العقل ، فعملت على إقصاء كل النماذج القديمة التي ثبت أنها تعرقل التطور ومسيرته ،فلسفيا . ظهر هدا مع فيلسوف الحداثة " رينيه ديكارت "،حينما أعلن صراحة على رفضه لكل ما تلقاه من معارف :" لقد كان علي مسح الطاولة "و أن غايته على حد تعبيره " لقد كانت غايتي فيما اعلم أن ابني علومي على الصخر والصلصال لا على المتحرك من الرمال "، الشيء الذي دفعه إلى وضع قواعد لحسن قيادة العقل(6) الذي يعتبره "نور فطري الهي "و على انه اعدل قسمة بين الناس .لماذا تطور الغرب ولم يتطور الفرد العربي بالمقابل ؟؟ تطور الغرب ، لأنه استطاع التخلص من النماذج القديمة على المستوى النظري ( سقوط المنظومة الإغريقية ) و على المستوى السياسي( ظهور أنظمة ديمقراطية ) ، ولان الغرب أدرك أن هذا التطور ما كان ليحصل لولا التخلص من القديم وتجديد فكرهم ، فأصبح شعارهم الوحيد : لا شيء مستحيل على العقل الإنساني بلوغه ، وفي مقابل هذا نجد ثقافتنا العربية لم تبارح مكانها وظلت وفية للمنظومة الإغريقية عاجزة عن تجاوز نسق أرسطو وبلورة قيم أخلاقية وسياسية وعلمية تقودنا إلى تحقيق عالم التقدم و التطور . فكيف يعيش الفرد العربي اليوم ؟؟ يعيش الفرد العربي مفارقات بسبب التنميط الذي يفرضه عليه الدين الإسلامي ، الأسرة البطريركية ، والمجتمع الصناعي ؛ الدين الإسلامي يفرض علي مجموعة من السلوكيات التي تتناقض و ممارساتي اليومية ،مثلا الإسلام يقول لي لا تزني ؛ لكن كيف لا ازني واللاشعور هو المتحكم حسب فرويد ؟ ومن أهم التناقضات التي يعيشها الفرد العربي بشكل يومي نجد وضع المرأة المسلمة ، التي تمارس الجنس بطرق غير شرعية في نظر الدين ؛ فهي لا تخاف من الله لكنها تخاف من المجتمع حيث تقوم ما في وسعها للحفاظ على غشاء بكارتها .كما يقول المسلم على نفسه انه متسامح لكننا يوم الجمعة نجده يسب كل من يختلف معه في الدين بنعته بالمشرك والكافر " انصرنا على القوم الكافرين "و السلام على من اتبع الهدى "...الخ . الأسرة البطريركية هي كذلك تعمل على قمع الإبداع في الفرد العربي ، مثلا هناك داخل مؤسسة الأسرة هناك دور وسلطة كبيرة للرجل ( الزوج، الابن )، بخلاف وضع المرأة المتدني ، ففي المجتمعات يتم تكريس هذا الوضع حتى في بعض المقررات الدراسية ، يخطر ببالي عبارة في إحدى مقررات السلك الأساسي تقول " كريم يلعب بالكرة ومريم تساعد أمها في المطبخ " ، أكثر من ذلك يتجرأ وزير للتربية الوطنية في بلد كالمغرب يخاطب تلميذة في السلك الأساسي " شنو كتدير هنا ؟ أنت باقي خصك غير الراجل " ما يعبر بحق عن أن العقلية الذكورية لا زالت ملازمة لتفكير الفرد العربي سواء كان مواطنا عاديا أو حتى مسؤولا ساميا . المجتمع الصناعي بدوره يفرض علينا مجموعة من السلوكيات .فقد أصبحنا استهلاكيين ، تحونا إلى إنسان دو بعد واحد بلغة "ماركيوز" ، تخلينا عن الحرية بوهم الحرية . نتملك احدث التقنيات الرقمية لكننا لا نتوفر على فلسفة تقنية ،ونحن تحت رحمتها إلى درجة تفرقنا على واقعنا الحقيقي اليومي .حينما نقول إن الفرد العربي لم يستطع بعد بلورة قيم الحداثة في سلوكا ته اليومية فهناك أدلة على مانقول : مثلا في المغرب فقط يمكنك أن تكون عند البقال تنتظر دورك للتسوق فيأتي آخرون ويتجاوزنك دون استئذان أو اعتذار ،ولأننا كذلك لم نستطع أن نبلور فكرة الحق في مجتمعاتنا ،فبلورت هدا الحق نظريا والدفاع عنه ممارساتيا يستوجب منظومة نظرية ثورية تضرب في العمق أسس النظام القائم ، وقيام نظام سياسي/ اجتماعي جديد يؤمن بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ،بخلاف النظام القائم الذي طالما طبل أن الملك الشاب حداثي وديمقراطي (...)، لكن ماتظهره لنا الكاميرات بخصوص البروتوكول يوميا من تقبيل لليد ولغة البلاط ( الله يطول فعمر سيدي) ينفي هدا الادعاء . عودة على بدء . الغرب تقدم لأنه أنهى مع الفكر الخرافي القديم ، فأنهت الحداثة الأوربية طقوس السحر والشعوذة وكرامات رجال الكنيسة ( صكوك الغفران )، وكل التقاليد المرافقة للفكر الغيبي القائم على الخوارق ، ولهدا توقفت عجلة الخرافة عن الدوران في الغرب ، لكننا حينما نتحدث عن الحداثة لا نضفي عليها طابع القداسة ، فليس تاريخ الحداثة مجرد تاريخ العقلانية التي تنزع السحر والشعوذة و القداسة عن العالم ، بل تحولت هده العقلانية إلى- عقلنة بلغة ادغار موران" تعمل على حبس العالم بشكل سحري/تماثلي في نسق من ابتكار العقل وهو ما يمكن العقل من تملك العالم الذي يتملك حقيقته "(7) - تاريخ لتأليه العقل وتحويله إلى أداة، فالأنوار لم تستطع وهي تواجه بين العقل والأسطورة ،أن تتصور إن هدا العقل نفسه (الانواري) سيتحول إلى أسطورة جديدة، وسيكون كابح لما هو خير البشرية ،فماهي أهم الانتقادات التي وجهت لهدا التصور / البراد يغم ؟ وكيف تعامل المفكرين المدافعين عن الإرث الحداثي مع هذه الانتقادات ؟ يتبع... الهوامش: *-فضلت عنونت هذا المقال ب"تاريخ الأنساق النظرية" عوض "التفكير النقدي" و المقال في الأصل هو جواب على امتحان في مادة التفكير النقدي شعبة فلسفة عامة الفصل السادس. دورة يونيو 2011/2012 ، مع بعض الإضافات والتحسينات انشره لكم على جزأين من اجل الإفادة والاستفادة من تعليقاتكم و ملاحظاتكم ، ولا اعتبر أن هدا مقال يرقى إلى مصاف المقالات الفلسفية الأكاديمية بقدر ماهو محاولة تفكير فقط . 1-مفهوم البراد يغم : يمكن ترجمة مصطلح براد يغم ( .....) بأنه النموذج الفكري أو النموذج الإرشادي وقد ظهرت هده الكلمة منذ أواخر الستينات من القرن العشرين في اللغة الانجليزية ليشير إلى مفهوم جديد، أي الى اي نمط تفكير في تخصص علمي او ميدان متصل بنظرية المعرفة او الابستيمولوجيا،اما توماس كون فقد اعطى لهذه الكلمة معنى اخر حينما استخدمها للإشارة إلى مجموعة الممارسات التي تحدد أي تخصص علمي خلال فترة معينة، وقد كان "كون" نفسه يفضل مصطلحات مثل العلم العادي أو النظرية العلمية بالشكل المتعارف عليه، ولكن في كتابه (بنية الثورات العلمية) قام كون بتعريف النموذج الفكري-البراديغم على إنه: الموضوع الذي يمكن مراقبته ونقده، الأسئلة التي من المفترض طرحها واستكشافها من أجل الحصول على إجابات فيما يتعلق بالموضوع، كيف يمكن تحديد هيكل وبنية هذه الأسئلة، كيف يمكن تفسير نتائج التحريات العلمية .. وهكذا فإنه في إطار العلم العادي، يكون النموذج الفكري هو مجموعة التجارب المتعارف عليها التي من المفترض أن يتم احتذاء حذوها. ويمثل النموذج الفكري السائد طريقة أكثر تحديدا في رؤية الواقع أو حدود ما يمكن تقبله من أبحاث في المستقبل، وذلك أكثر من مجرد المنهج العلمي العام . 2-توماس كون: ( 1922-1996) مفكر وفيسلوف امريكي مختص في تاريخ وفلسفة العلوم ، تعود شهرته الى كتابه العظيم " بنية الثورات العلمية " سنة 1962 حيث يقدم فكرة اساسية وهي ان العلم لا يتطور دائما في خط تراكمي مستمر ، بل يمر بثورات علمية (صغرى وكبرى) يسميها بتحول البراديغم ، للتوسع اكثر عد الى الكتاب المشار اليه. 3- الثورة الكوبرنيكية : نسبة الى كوبرنيكوس ، فلكي بولندي ، دافعت نظريته على مركزية الشمس عوض تصور مركزية الارض الذي كانت تدافع عنه الكنيسة و المنظومة الاغريقية ، 4-نيكولاي مكيافيللي : مفكر وفيلسوف سياسي ايطالي ابان عصر النهضة ،ولد بفلورنسا (1469-1527) يقال عنه في تاريخ الفكر السياسي انه مؤسس التنظير السياسي الواقعي، اهم مؤلفاته كتاب الامير . 5- ما الأنوار ،كانط ايمانويل ، ترجمة محمد انوار محمد ، مقال منشور على الانترنيت. 6-سأعود للتفصيل لفلسفة ديكارت وخاصة قواعد المنهج في مقال أخر . 7-ادغار موران ،المنهج : معرفة المعرفة ص 134 باللغة الفرنسية . طالب جامعي