عن مركز نماء للبحوث والدراسات وضمن سلسلة "تاريخ الفكر الفلسفي الغربي- قراءة نقدية" صدر الكتاب الأول من هذه السلسلة للدكتور الطيب بوعزة الموسوم ب" في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة (نقد التمركز الأوربي)". الدكتور الطيب بوعزة كاتب من مواليد مدينة طنجة المغربية سنة 1967 يشتغل كأستاذ للتعليم العالي بمركز تكوين المعلمين بنفس المدينة وهو حاصل على شهادة الدكتوراة من كلية الآداب بجامعة محمد الخامس في تخصص الفلسفة. صدر له سنة 1991 ضمن سلسلة حوار المغربية كتاب "مشكلة الثقافة"، وسنة 2002 عن منشورات سليكي إخوان بطنجة كتاب "قضايا الفكر الإسلامي المعاصر "، وسنة 2007 عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة كتاب "مقاربات ورؤى في الفن"وفي نفس السنة من لبنان كتاب "نقد الليبرالية"، إضافة إلى قرابة 200 مقالة ودراسة منشورة في صحف ومجلات عربية. نقرأ للطيب بوعزة في تقديمه للكتاب وللسلسلة تحت عنوان "هذه السلسلة" : -1- ما الحاجة إلى تسطير دراسة جديدة للفكر الفلسفي الغربي، مع وجود دراسات عربية عديدة تُقدم هذا الفكر وتؤرخ للحظاته وتحولاته ورموزه؟ جوابا عن هذا الاستفهام نقول: إن الدافع الذي استوجب هذه الدراسة، وحفزنا إلى إنجازها، آت من أمرين اثنين: - أحدهما، غياب الحس النقدي من كثير من التآليف المنشغلة بتقديم هذا الفكر. - وثانيهما، ضعف منهجية النقد المنتهجة في بعضها الآخر. وعندما نقول بغياب الحس النقدي وضعف منهجيته ، فإننا بذلك نعبر عن "ماصدق" شامل يستوعب مختلف أنماط البحث العربي في حقل الفلسفة. حيث يمكن تصنيف الكثير من الكتابات العربية التي تناولت الفكر الفلسفي الغربي إلى صنفين اثنين ، يشتركان على اختلافهما في غياب أو قصور الحس النقدي من الحيثيتين المعرفية والمنهجية . وأقصد بهما : - صنف التآليف العربية المنبهرة بهذا الفكر: التي تنساق إلى عرضه والدعاية لمدارسه ومذاهبه دون أدنى موقف نقدي. وبهذا لم تستطع هذه الكتابات تجاوز موقف الدعاية والإشهار إلى موقف النقد؛ فظلت وثوقية في دفاعها وتبجيلها ، مغتربة باستلابها وانبهارها. ولا ينحصر هذا الانبهار بالفكر الفلسفي تحديدا ، بل حتى بعموم الظاهرة الفكرية والأدبية الغربية ، ويكفي النظر في المنشور في وسائل إعلامنا لنلقى هذا الانبهار شارطا للرؤية والتفكير: فمقال أدبي لن يحظى بالنشر ما لم يستهل بكلمة لتودوروف، أو رولان بارت، أو كريستيفا... ومقال في علم الاجتماع لن يكون صالحا للنشر، في عرف مجلاتنا المتعالمة، ما لم يُفتتح أو يُضَمَّن عبارات لبارسونز، أو بيير بورديو، أو بول لازار سفيلد ... أما الكتابات الفلسفية فحتى تلك التي تدعو عناوينها إلى إيجاد فكر فلسفي عربي ، فلابد فيها من حضور هيدغر، ونيتشه، وفوكو، ودريدا ... حضور الأسماء المقدسة التي لا يخدشها نقد ولا يطالها تصويب! ولا ينتبه كُتَّابُ هذا النمط من الكتب المهتمة بتقديم النتاج الفلسفي الغربي، إلى أن أسلوبهم في تلقي الفلسفة مناشز لروح التفكير الفلسفي ذاته، من حيثية كونه تفكيرا مسكونا باستهجان حس التلقي والتقليد. وأن ما يغني الفكر الفلسفي ذاته هو أن يجتهد المثقف المشتغل بهذه الصناعة المعرفية في بلورة رؤية فلسفية تعكس خصوصية سياقه الثقافي والحضاري ، فيبدع ويضيف، ويترقى من العقلية الاتباعية الى العقلية الابداعية. وبناء عليه يتبدى وجوب إنجاز دراسة جديدة للفكر الفلسفي الغربي ، تتجاوز هذا القصور في النظرة الذي يسم هذا الصنف ، دراسة تعتمد منظورا نقديا لا منظورا إتباعيا. وإذ نقول ما سبق، نؤكد في ذات الوقت أن عديدا من الكتابات التي قدمت الفكر الفلسفي الغربي كانت ذات عمق ورصانة في مستواها التحليلي، ولهذا فهي، رغم افتقارها إلى الحس النقدي ، ذات قيمة بلا ريب. وتتحدد قيمتها من جهة كونها تنقل النتاج الفلسفي الأجنبي إلى اللغة العربية؛ مما يثري واقع لغتنا ويغنيه.وتفتح لنا ، من جهة أخرى، أفق التفكير أمام تجربة نظرية وبنى معرفية مغايرة، فتسهم في فهمنا لذاتنا الثقافية أيضا؛ ذلك لأننا نرى أن وعي الأنا مرهون بوعي الآخر، بوصفه مختلفا، إذ بالاختلاف والتمايز تُدرك الكينونة. ولذا نؤكد أن وجهة نظرنا النقدية السابقة ، ليس الداعي اليها هو الانغلاق عن الآخر، بل هي راجعة إلى أن الأهم ، في تقديرنا، هو استكمال نقل تجربته الفكرية ببلورة مقاربة علمية محايثة بموقف نقدي يعبر عن خصوصية فكرنا الحضاري. وهذا ما يغيب عن هذا النمط من الكتابات للأسف. لهذا ندعو إلى استكمال النقل بالنقد. لكن قد يتساءل القارئ معترضا : إذا كان من اللازم تجاوز الكتابة العربية المنبهرة بالفكر الفلسفي الغربي؛ لافتقارها إلى الموقف النقدي، فما الداعي إلى صياغة دراسة نقدية جديدة ، بينما ثمة صنف ثان من الكتابات، يتسمى بعناوين النقد والدحض ، من قبيل تلك الكتب المعنونة ب"تهافت الإيديولوجيات الغربية"،أو "نقض الفلسفة ..."، أو ما شاكل ذلك من تسميات وعناوين ؟
- إن الداعي إلى عدم الاكتفاء بهذا الصنف الثاني الذي أنتجه الخطاب الإسلامي المعاصر، هو أن نقده لما يسمى بالأيديولوجيات والمدارس الفلسفية الغربية ، يمكن أن نلحظ على معظمه أربع ملاحظات : - الأولى، السطحية في عرض مذاهب الفكر الفلسفي الغربي ، حيث يقف العرض عند الخطوط المعرفية العامة دونما غوص إلى أعماق وتفاصيل هذه المذاهب. مما يشكك ابتداء في حقيقة اقتدار هذه الكتب على أداء دورها النقدي المزعوم. ولذا دعوت مرارا إلى الاعتبار بموقف أبي حامد الغزالي، الذي لم يكتب "تهافت الفلاسفة " إلا بعد أن كتب "مقاصد الفلاسفة" ، حيث أبان فيه عن فهم متكامل لمجمل التراث الفلسفي الإغريقي المتداول في ساحة الثقافة العربية الإسلامية وقتئذ، فكان نقده لهذا الفكر بعد ذلك في كتابه "التهافت" نقدا مقتدرا في كثير من جوانبه. - والملاحظة الثانية هي: أن الكتابات التي أنجزها الخطاب الإسلامي أغلبها مثقل بلغة الهجاء، لا اللغة المعرفية القادرة على الغوص في تفاصيل هذا الفكر، والكشف النقدي عن نقائضه الداخلية. - والثالثة : اختزال هذه التآليف "الناقدة" مبادئ الفكر الفلسفي الغربي في عبارات أقرب إلى لغة الشعار ؛ مما يؤكد أن أكثر هذه الكتب يعتورها نقص كبير من حيثية إدراك دقائق وتفاصيل الفكر الغربي وتاريخه واتجاهاته. حيث لا تجد فيها إلا معلومات مبتسرة ، وانتقادات قلما تنفذ إلى العمق والصميم. فعندما تنتقد فرويد - مثلا – سرعان ما ترفع فكرة "الليبيدو الجنسي"، وتقيم الدنيا وتقعدها بكلمات وعبارات إنشائية متشنجة ، ثم تخلص مباشرة إلى إعلان تهافت فرويد، هكذا بكل بساطة، وبلا حاجة إلى إحاطة شمولية بفكره وإسهاماته، وإبراز منظومتها المفاهيمية والمعرفية ، وما يعتور بناءها الدلالي والمنهجي من اختلالات . وحين تأتي إلى نقد داروين سرعان ما تنتصب فكرة " الأصل الحيواني المشترك بين القرد و الإنسان"؛ فتنصرف عن قراءة معرفية نقدية لفكر داروين إلى نقد انفعالي لا طائل تحته. وعندما تذكر دوركايم تسارع إلى إبراز مفهومه عن كون الدين نتاجا مجتمعيا يعكس السلطة الجمعية ؛ فتغفل عن باقي أطره المعرفية والمنهجية ، فيصير نقدها له قاصرا عن شرط الإحاطة والاستيعاب . - أما الملاحظة الرابعة، الدالة على قصور نقد كثير من هذه الكتابات ، فيكفي لتتبين مراجعة هوامش هذه الكتب؛ حيث قلما نجد مراجع ومؤلفات للفيلسوف المنتقد ، بل نجد فقط بعض التصانيف الموجزة والمختصرة التي توضح ألف باء فلسفته. ومثل هذا المستند لا نراه كافيا لتأسيس الفهم بله تأسيس النقد. -2- لكن ماذا نريد ب"القراءة النقدية" البديلة التي نروم إنجازها في هذا المشروع؟ وما الموقف المعرفي الذي نرتكز عليه ؟ وما فرضياته المنهجية ؟ تتأسس رؤيتنا النقدية للفكر الغربي على فرضيتين اثنتين، نصوغهما فيما يلي صياغة غير استفهامية : - الفرضية الأولى، ناتجة عن تأملنا في صيرورة الفكر الفلسفي الأوربي، وبحث متونه، حيث انتهينا إلى فكرة صارت تشكل ناظم رؤيتنا إلى تاريخ الوعي الغربي، وهي أن علاقة هذا الوعي بالوجود شهدت ثلاثة أنماط مُمَنْهِجَةٍ لفعل التفكير في حقيقة الوجود، أصطلح عليها بما يلي: أولا: علاقة الإدراك ( وأساسها اللوغوس )، وثانيا: علاقة الحيازة (وأساسها التقنية)، وثالثا: علاقة الالتذاذ( وأساسها الإيروس ). ونرى أن طبيعة النزعة الفلسفة موصولة بالكيفية التي تنهض عليها علاقة الوعي بالوجود عندها؛ حيث أن طبيعة هذا التعالق وكيفياته تُحَدِّدُ وتَتَحَدَّدُ على نحو يناغم طبيعة ذلك النزوع الفلسفي. فإذا نظرنا بلحاظ المقاربة المُوجِزَةِ لخصائص المركَّب المعرفي الذي تبلور في تاريخ الفلسفة الغربية، سنلاحظ أن التقليد الفلسفي، منذ الإغريق حتى ديكارت، قام في رؤيته للوجود على أساس علاقة إبستيمولوجية تتقصد الإدراك المعرفي؛ وهذا ما اتضح لنا عند تحليلنا لصيرورة وتحولات فعل التفكير الفلسفي الأوربي، كما تم إرساؤه مع أفلاطون وأرسطو، بناء على توليفهما بين الفلسفتين البارمينيدية والهيراقليطية، واعتمادهما مفهوم الحد الماهوي السقراطي؛ ثم تبين لنا بتتبع تلك الصيرورة، انتقال الجهاز المفاهيمي المؤسس للنظر إلى الوجود، وتحوله من نمط العلاقة الإدراكية، كما تم تثبيتها منطقيا مع الأرسطية، إلى نمط العلاقة الحيازية مع ديكارت وفرنسيس بيكون. أجل ، بدءا من ديكارت انتظمت العلاقة الإدراكية وفق مقصد السيادة على الكون. وهنا لابد، لفهم حقيقة هذه العلاقة، من عدم الاقتصار في تحليل الفكر الديكارتي على مقولة الكوجيتو "أنا أفكر"، حيث يجب إدراك حقيقة أخرى ثاوية في الفكر الديكارتي هي "أنا أقدر"، التي إن ظهرت لاحقا، كأساس لمبحث القدرة الإبستيمولوجية عند كانط ، فإنه مجرد مظهر خادع لحقيقتها كتغول تقني، وهي الحقيقة التي تبدو قبل الكانطية واضحة في "الأورغانون الجديد" لفرنسيس بيكون، وفي نزعة السيادة الأنثروبولوجية في الفلسفة الديكارتية. ولذا نعتقد أن ال"أنا أفكر" موصول في قراءة ديكارت للوجود بمقصد ال"أنا أقدر"، وهذا ما يفسر تحول مطلب إدراك الوجود من إشباع معرفي إلى قراءة تقنية للوجود تسعى إلى ضبط قوانينه بهدف السيطرة عليه؛تلك السيطرة التي ستنتظم وفق علاقة الحيازة والسيادة على الكون بواسطة المنظومة التقنية؛ التي ستؤول في النهاية إلى الإخلال بنظامي الوجود الطبيعي والإنساني معا. كيف نفسر عجز التفكير الفلسفي عن الاستمرار في تأسيس العلاقة الإدراكية ، وانتهائه إلى العدمية ، ثم المقام في تعالق جديد مع الوجود ، يتمثل في "علاقة الالتذاذ" ؟ يمكن تلخيص فرضيتنا التفسيرية في كون الفكر الفلسفي المعاصر يفتقد إلى الأساس الديني؛ وبيان ذلك: أن ديكارت لما وضع العقل كمرجعية معرفية، بمعناه كجوهر مفكر قادر على بلوغ الحقيقة بمفرده وبمعزل عن أي سند ماورائي، فإنه - سواء وعى ذلك أم لم يع- أرسى لأوروبا عقيدة جديدة تم فيها تأليه العقل ورفعه إلى مقام المطلق. لكن هذا المقام لن يستطيع العقل البقاء فيه طويلا، إذ سرعان ما بدأ النقد الإبستيمولوجي يشكك في قدرته وإمكانه المعرفي. وبيان ذلك أنه إذا تتبعنا صيرورة الفكر الفلسفي من بعد ديكارت، سنلاحظ أن القرن السابع عشر سار في ذات المسار الذي دشنه صاحب الكوجيتو ؛ فانتشر تيار ما سمي بالديكارتيين، مع دنيال ليبستورب، وجولنكس، وكريستيان فيتيش...بل حظي هذا التيار بدعم مفكرين بارزين، يمكن أن ندرج من بينهم أسماء عمالقة الفكر الفلسفي في هذا القرن بدءا من مالبرانش وانتهاء بلايبنز. إلا أن هذه الثقة المطلقة في العقل بوصفه جوهرا ومرجعا إبستيمولوجيا ، التي أرستها الديكارتية، سيتم زعزعتها قليلا بفعل الفلسفة التجريبية، خاصة في نموذجها الشكي مع دفيد هيوم،الذي أظهر أن العقل، هذا الذي تم تأليهه مع ديكارت، لا يستحق هذا المقام. لكن هيوم لم يقدم بديلا للوعي الأوروبي، وإنما أيقظه من وثوقيته العقلانية فقط، فكان بشكيته مزعزعا للعقلانية ويقينها! ألم يقل كانط واصفاً تأثير كتب هيوم فيه: "أيقظني هيوم من سباتي الاعتقادي"! وهي كلمة إن كان كانط يعبر بها عن لحظات تطوره الفكري الذاتي، فهي عندنا حلقة معبرة عن صيرورة تطور فعل التفكير الفلسفي في لحظة حرجة من تاريخه، وهي لحظة بدء مراجعة أدواته ومعاييره المعرفية. لقد كانت لحظة هيوم بداية التشكيك الفعلي في المرجعية العقلانية، لكنه لم يكن بإمكانه أن يرسي بديلا أفضل وأوثق من العقل، فالحس الذي تعلق به هيوم يؤول في النهاية إلى العقل الذي سيصوغ المعطيات الآتية من الحواس؛ ولذا كان من الطبيعي لهيوم الذي شك في العقل ألا يقدم أي بديل ينأى عن الشك. إلا أن لحظة كانط كانت لحظة مشروع إبستيملوجي أعمق ، حيث كانت لحظة مساءلة شاملة لأرضية الحداثة سواء في مسندها العقلاني أو في مسندها التجريبي. والخلاصة التي انتهى إليها كانط هي أن العقل محدود بحدود عالم التجربة والظاهر، وليس قدرة معرفية مطلقة. وهنا وجد الفكر الفلسفي الأوربي ذاته أمام أزمة عميقة لا تطال فكرة أومبحثا من مباحثه فحسب، بل تطال الأساس الذي ينهض عليه . فمع بدء النقد الكانطي لم يعد للعلاقة الإدراكية أي أساس يُنهضها، فرغم أن هذه العلاقة تم الاعتناء بتأسيسها منذ الأفلاطونية والأرسطية، وتم توثيقها وتوجيهها مع الديكارتية ، نحو التأسيس لممارسة السيادة على الوجود، فإن النظر الكانطي في إمكان المعرفة أفقدها السند. وقد كانت الفكرة المنهجية التي قدمها كانط في كتابه "نقد العقل الخالص"، إرهاصاً بتبلور نقد جذري للوعي الفلسفي الحداثي، إذ أن المراجعة النقدية التي أرادها صاحب مشروع "النقد"، أن تكون مجرد تعيين لحدود اشتغال القدرة الفاهمة ، ستنقلب إلى التشكيك في العقل بأكمله، لتخلص إلى تخطيه مع فلسفات ما بعد الحداثة التي بدأت في التبلور في نهاية القرن التاسع عشر. حيث انقلب الأمر إلى تأسيس علاقة إيروسية تتقصد الالتذاذ. والانقلاب من علاقة الإدراك والحيازة إلى علاقة الالتذاذ هو في نظري نقلة جذرية في تمثل الوجود، وأسلوب التفاعل معه. غير أن الأمر ليس مجرد انتقال إلى صيغة جديدة في التعالق مع الوجود، بل هو في العمق تعبير عن أزمة عميقة تثوي داخل الفكر الفلسفي ناتجة عن فقدان الإمكان الميتافيزيقي لتأسيس العلاقة الإدراكية. فالتراجع عن العلاقة الإدراكية إلى العلاقة الالتذاذية الإيروسية يجد تفسيره في أزمة الحقيقة، وفقدان المعنى نتيجة تقويض الميتافيزيقا، سواء في أبنيتها الفلسفية التقليدية أو بنائها الديني. ولذا لم تجد فلسفة ما بعد الحداثة من مسلك سوى التوصية بالاكتفاء بالالتذاذ بالوجود، بعد أن عجز اللوغوس الفلسفي عن محاولة إدراكه وفهمه. ومن ثم فمدخل الإيروس ليس مدخلا إبستملوجيا ، بل مدخلا للالتذاذ ، بسبب ما يستشعره المتفلسف المعاصر من فراغ المفاهيم المؤسسة للتفكير ، وعدم إمكان اليقين بوجود الحقيقة؛ وهو فراغ لا يمكن تعويضه – من منظورنا - إلا بإعادة تجديد الوعي الفلسفي تجديدا دينيا. هذه باختزال وتكثيف فرضيتي الأولى، التي أشتغل بها في تحليل تطور فعل التفكير الفلسفي في السياق التاريخي الأوربي. أما الفرضية الثانية ، فألخصها بالقول: إن الإحالة إلى الماوراء شرط لضمان المعنى وتأسيس الإمكان الأنطولوجي للحقيقة، ومن ثم تسويغ بحث إمكانها الابستيملوجي. وهذا ما ينبغي أن تستفيده الفلسفة من الدين؛ إذ نعتقد أن ليس ثمة إمكان إبستيملوجي لتأسيس الوعي الفلسفي خارج الدين. وقد أظهر لنا نظرنا في سعي الوعي الفلسفي ونمط المعرفة الدينية نحو بلورة دلالة الوجود، أن ثمة ثابتا منهجيا في عملية التأسيس الدلالي لهذا المعنى الكلي؛ وهو أن كل وعي مؤمن بوجود الحقيقة يلزمه ولابد شرط الإحالة إلى الغيب الماورائي لتعيين أنطولوجيتها، وتأسيس مبرر البحث عنها؛ سواء كان هذا الماوراء تعاليا ومفارقة – كما يذهب الفكر الإسلامي- أو كان محايثة ووحدة وجود كما يذهب إلى ذلك بعض توجهات الفكر الفلسفي والتأويل الصوفي... إن شرط الإحالة إلى الماوراء بدا منذ أولى تجليات الوعيين الديني والفلسفي، حيث رفع الكائن الإنساني نظره إلى السماء لتفسير الأرض؛ لأنه أدرك أن الوجود بفعل تغيره وعرضيته غير مكتف بذاته ، ولا يمكن أن يستمد معناه من كينونته المحكومة بالصيرورة والفناء. فكان لا بد للوعي من أن يحيل إلى الماوراء. وهذه الإحالة المتعالية (الترنسندنتالية) هي في نظرنا جوهر وأساس الوعي الديني ، كما أنها أساس إمكان قيام الوعي الفلسفي. غير أنه ببدء انهيار أقانيم المؤسسة الدينية الغربية مع المقاربات النقدية التي أنجزها فكر الحداثة والأنوار، انهارت إمكانية الإحالة، فانهار بذلك الإمكان الأنطولوجي للمعنى وليس فقط إمكانه الإبستمولوجي. ونقصد بالإمكان الأنطولوجي الاعتقاد بكينونة ماورائية نفسر بالإحالة عليها . وبانهيار هذا الإمكان آل الفكر الفلسفي ،في سياق ما بعد الحداثة، إلى العدمية. هذا بإيجاز جوهر نظريتنا ومحصول قراءتنا لتاريخ الفكر الفلسفي. لكن لا نقصد بأبحاث هذه السلسلة أن نصادر على هذه النظرية، ونطوع المادة الفلسفية لتوكيدها عسفا ، بل سننفتح على الميراث الفلسفي الغربي بأداة التحليل المفاهيمي والاشكالي لبنيته ونظمه المعرفية، جاعلين من هذه النظرية فرضية للاختبار لا مقياسا جاهزا نستدخل فيه المادة الفلسفية المدروسة. -3- هذا على مستوى البعد الفرضي للرؤية النظرية ، أما من حيثية الشكل الأسلوبي فقد حرصت على الإقلال من استعمال اللفظ الفلسفي برسمه الأجنبي ، اللهم من بعض الحدود المتداولة في مختلف اللغات ، كالأنطولوجيا ، والإبستيمولوجيا ، والميتودولوجيا ، والترنسندنتالي ، واللوغوس... ونحوها. وإيرادنا لهذه الحدود اللفظية بمنطوقها الأجنبي راجع من جهة إلى شهرتها، كما يرجع من جهة ثانية إلى أن مقابلها العربي المتداول لا نراه يحتوي ماصدقها الدلالي. مثلا فلفظ "الترنسندنتالي" يترجم ب"المتعالي"، ومعلوم أن هذه الترجمة لا تستطيع حمل الدلالة المقصودة فلسفيا من لفظ "الترنسندنتالي"، الذي يفيد ،مثلا عند كانط "القبلي" بما هو شرط مقولي سابق وناظم للتفكير، بينما يوحي اللفظ العربي (المتعالي) إلى معنى أخلاقي كالكبرياء والتكبر، مما يؤدي إلى غبش المعنى الأصلي للفظ. وقس على هذا بعض الحدود الاصطلاحية الأخرى. لكن، عند استعمالنا لهذه الحدود اللفظية بمنطوقها الأجنبي، سنحرص على إيضاح معناها في سياق ورودها. -4- ثم إن كتب هذه السلسلة تخاطب غير المتخصص في الفكر الفلسفي ؛ لذا كان لابد من أن تكون أداة إجرائية توفر له من المعطيات ما يسمح بتكوين رؤية واضحة لتطور التفكير الفلسفي الغربي . لذا كان لازما أن نقف أحيانا كثيرة عند بعض الأبجديات التي قد يستثقل الوقوف عندها من له سابق اختصاص في المعرفة الفلسفية. -5- ولقد كان هذا المشروع يسكن تفكيري منذ مدة ، لكن القيام إلى إنجازه يرجع الفضل فيه الى الأخ العزيز فضيلة الدكتور ياسر المطرفي المدير العام لمركز نماء للدراسات والبحوث. فقد كانت لقاءاتي به مناسبة لتجاذب حورات موسعة في واقع الفكر الاسلامي ، واحتياجاته ... فانتهى الأمر الى مقترح عَمَليٍّ بتحويل هذه النظرات النقدية التي أبديتها خلال بعض تلك اللقاءات الى كتاب أراجع فيه تاريخ الفكر الفلسفي الأوربي من نشأته حتى لحظته المعاصرة ، على أن يكون الكتاب مناسبا للمثقف غير المتخصص في الحقل الفلسفي لتكون فائدته أعم وأوسع.