الغلوسي يفضح "مافيات المال العام" بمراكش ويحذّر من محاولات تبييض الجرائم المرتكبة في حق المدينة    البناء ينتعش في المغرب وارتفاع في فرص الشغل خلال الفصل الثالث من 2025    ‬ بميزانية ‬100 ‬مليون ‬درهم ‬قيوح ‬يطلق ‬برنامجاً ‬لوجستياً ‬واعداً..‬    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    تقرير يكشف ضغط ترامب على نتنياهو بشأن غزة وسوريا    كورتوا: محظوظ لأن مبابي يلعب معي وليس ضدي    "فيفا" يعلن عن منع الزمالك من التعاقدات لثلاث فترات    قرار قضائي يهزّ جامعة الكراطي... والصباري يعيد الاعتبار لجهات الجنوب    قضية بشرى كربوبي تتفجر.. الحكمة الدولية تقاضي مسؤولا بعصبة سوس ماسة بالتشهير    قافلة نحتافلوا كاملين تحط الرحال ببرشيد    أكثر من مليار شخص يعانون السمنة.. الصحة العالمية تؤكد فاعلية أدوية "جي إل بي-1"    السكوري: ‬الهدر ‬المدرسي ‬يفاقم ‬البطالة ‬والمشاكل ‬المعقدة ‬في ‬التشغيل ‬تتطلب ‬مدونة ‬شغل ‬جديدة    الجامعة الحرة للتعليم تطالب برادة بتسوية مستحقات مفتشي الشؤون المالية وتزويدهم بالحواسب المحمولة    مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي    وقفة احتجاجية في المحمدية للتنديد بانتهاك إسرائيل لاتفاق وقف النار بغزة    الصحراء المغربية... عنوان توافق خليجي لا يتغير عبر السنين    التشريع على المقاس... حينما تتحول الأغلبية الحكومية إلى أداة طيعة في يد اللوبيات    "قمة دول الخليج" تشيد بجهود الملك    الشيخي القيادي ب"العدالة والتنمية" يوجّه رسالة شديدة اللهجة لوهبي ويتهمه ب"الإساءة للبرلمان وانحدار الخطاب السياسي"    المديرية الإقليمية للعدل بالحسيمة تنظم حفلا لتوشيح موظفين بأوسمة ملكية شريفة    إصابتان في معسكر "المنتخب الوطني" بقطر..    الرباط ومدريد تتبادلان الإشادة بالدينامية التي تميز العلاقات الاقتصادية بين البلدين    خط مباشر بين البيضاء ولوس أنجلوس    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    رصاصة تحذيرية توقف أربعيني أحدث فوضى قرب مؤسسة تعليمية باليوسفية        كيوسك الخميس | مشروع قانون المالية لسنة 2026.. التوجه نحو الدولة الاجتماعية    من مدريد.. أخنوش يطرح رؤية طموحة للربط بين إفريقيا وأوروبا عبر بوابة المغرب وإسبانيا    الصين: مدينة ايوو تسجل رقما قياسيا في حجم التجارة يتجاوز 99 مليار دولار    دراسة: الرياضة تخفف أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه    من الكروج إلى داحا.. أربعة عمال تعاقبوا ومحطة الطرقية الجديدة ما تزال مغلقة    طنجة تكبر في الصور... وتتراجع في الواقع: عمدة يطارد الأضواء ومدينة تبحث عمّن يدبّرها    الشرفي يلقي خطاب عضوية "أكاديمية المملكة" ويرصد "غزو علمنة المجتمع"    فرنسا تطالب الجزائر بالإفراج عن صحافي    العراق يفتتح مشواره في كأس العرب بفوز مهم على البحرين    تعزيز التعاون السياحي محور مباحثات بين عمّور والسفيرة الصينية بالمغرب    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    كأس العالم 2026… أبرز تفاصيل نظام القرعة    مراكش : العرض العالمي الأول لفيلم الست لمروان حامد    المدينة الحمراء : من جامع الفنا إلى قصر المؤتمرات .. ألف عام من الفرجة!    شكري في ذكرىَ رحيله.. وعزلة بُول بَاولز في طنجة وآخرين    "تبّان كقناع".. ظهور غريب لعمر لطفي في مراكش يثير جدلا واسعا    التعب أثناء السياقة يضاهي تأثير تناول الكحول        يسرا : فخري الأكبر هو الرصيد الفني الذي ستتناقله الأجيال القادمة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الأربعاء    مهرجان مراكش يكرم راوية ويمنحها "النجمة الذهبية" اعترافا بمسار حافل    الاتحاد الأوروبي يطوق الغاز الروسي    نصائح صحية: هذه الأغذية تهددك ب"النقرس"!    إسرائيل تتوصل برفات غير مطابق    سامسونغ تُفاجئ العالم بهاتف ثلاثي الطي .. والسعر يصدم الجميع!    "الصحة العالمية" توصي بأدوية "جي إل بي-1" لمكافحة السمنة    التهراوي : انخفاض حالات الإصابة الجديدة بالسيدا خلال السنوات العشر الأخيرة    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة.. والوعي التاريخي الغائب - بقلم الطيب بوعزة
نشر في التجديد يوم 29 - 01 - 2008


كان ميلاد الحداثة الأوروبية ثمرة مخاض تاريخي طويل، أخذ يتبلور منذ عصر النهضة حيث بدأ صراع العقل مع الفكر الكنسي، وهو الصراع الذي انتهي بانتصار العقل. لكن هذا المخاض الجدلي بين الإيمان والعقل سيكون مترافقا مع سلسلة من التحولات المجتمعية العميقة التي مست بنيات المجتمعات الأوروبية، ونقلتها من النظام الزراعي الإقطاعي إلى النظام الصناعي التجاري، فولدت المدن الصناعية وبدأ فيها نمو تدريجي للطبقة البرجوازية. وسيخلص هذا المخاض المجتمعي في القرن السابع عشر إلى تأسيس فلسفي للحداثة بدأ في التبلور الفعلي مع ديكارت في كتابيه المقال في المنهج وتأملات ميتافيزيقية، وهو في هذين الكتابين المثيرين سيضع لعصر الحداثة مرجعيته المعرفية المتمثلة في العقل (أو بلغة ديكارت الأنا أفكر أو الكوجيتو) الذي كان أول حقيقة توصل ديكارت إلى تأكيد وجودها. فما معنى العقل بوصفه مرجعية وأداة لإنتاج الحقيقة؟ لقد اعتبر ديكارت العقل مرجعية معرفية، وجوهرا مفكرا قادرا على بلوغ الحقيقة بمفرده وبمعزل عن أي سند ماورائي. ورغم أن ديكارت كان رجلا متديّنا، فإنه سواء وعى ذلك أم لم يعه أرسى لأوروبا عقيدة جديدة تم فيها تأليه العقل ورفعه إلى مقام المطلق. ثم سار القرن السابع عشر في ذات المسار الذي دشنه أبو الفلسفة الحديثة (ديكارت)، فانتشر تيار ما سمي بالديكارتيين، مع دنيال ليبستورب، وجولنكس، وكريستيان فيتيش، بل حظي هذا التيار بالدفاع عنه من قبل مفكرين بارزين يمكن أن ندرج من بينهم أسماء عمالقة الفكر الأوروبي في هذا القرن بدءا من مالبرانش وانتهاء بلايبنز. فحتى عندما استهدفت الديكارتية في الصميم من قبل جون لوك، نجد لايبنز ينافح عنها بجدارة واقتدار في كتابه محاولات جديدة في الفهم الإنساني، الذي تعقب فيه كتاب لوك فقرة فقرة، منتصرا لنظرية العقل الديكارتية، مع إضافات واجتهادات جديدة. وباختصار، لقد تضافرت جهود الديكارتيين على الرفع من شأن العقل وتأكيد اعتباره مرجعية معرفية، ومعيارا للحقيقة وأداة إنتاجها، إلا أن هذه الثقة المطلقة في العقل بوصفه جوهرا ومرجعية إبستملوجية تزعزعت قليلا بفعل الفلسفة التجريبية، التي كانت التقليد الفكري الشائع في الضفة الأخرى لأوروبا، أي في إنجلترا مع فرنسيس بيكون وجون لوك ثم مع دفيد هيوم. غير أن هذا النقد التجريبي للعقلانية لم يكن نقدا لأساس الحداثة، فإذا كان ديكارت يؤسس للذاتية لجعلها أرضية للحداثة حسب تعبير هيغل فإن هذه الأرضية لم تتم الثورة عليها من خلال الفلسفة التجريبية، بل تم تأكيدها من ناحية أخرى. حيث أصبح الحس مصدر المعرفة، هذا الحس الموصول بالواقع المادي. وهكذا تمت إقامة التجربة الحسية بوصفها مرجعية معرفية بدلا من النص الذي كان في القرون الوسطى مرجع الحقيقة. فأصبح معيار الحقيقة هو التجربة لا التناغم والانسجام مع المعتقد الموروث ومفاهيمه. لقد كانت الفلسفة التجريبية في عمقها تجذيرا للحداثة من حيث علاقتها الصراعية مع الدين، وهي في حقيقتها تأكيد لذات المقولة الحداثية، أي الكائن الإنساني. إلا أن التجريبية خاصة في نموذجها الشكي مع دفيد هيوم ستدق أول ناقوس المراجعة النقدية ضد تلك الوثوقية العقلانية، في نموذجها الديكارتي واللايبنيزي. فالفلسفة الشكية التي أرساها هيوم بينت أن العقل -الذي تم تأليهه مع ديكارت- لا يستحق هذا المقام، لكن هيوم لم يقدم بديلا للوعي الأوروبي، وإنما أيقظه من وثوقيته العقلانية فقط، فكان بشكيته مزعزعا للعقلانية ويقينها! ألم يقل كانط واصفاً تأثير كتب هيوم فيه: أيقظني هيوم من سباتي الاعتقادي!! وهي كلمة وإن كان كانط يعبر بها عن صيرورة تطوره الفكري الذاتي، فهي عندنا حلقة معبرة عن صيرورة تطور المشروع الحداثي في لحظة حرجة من تاريخه، وهي لحظة بدء مراجعة أدواته ومعاييره المعرفية. كانت لحظة هيوم بداية التشكيك في المرجعية العقلانية، ولم يكن بإمكانه أن يرسي بديلا أفضل وأوثق من العقل، فالحس الذي تعلق به هيوم يؤول في النهاية إلى العقل الذي سيصوغ المعطيات الآتية من الحواس. ولذا كان من الطبيعي لهيوم الذي شك في العقل ألا يقدم أي بديل ينأى عن الشك. لكن لحظة كانط كانت لحظة مشروع أعمق وأوسع من تشكيكات هيوم، فقد كانت لحظة مساءلة شاملة لأرضية الحداثة سواء في ثوبها العقلاني أو في ثوبها التجريبي. والخلاصة التي انتهى إليها كانط هي أن العقل محدود، وليس قدرة معرفية مطلقة، إنه محدود بحدود عالم التجربة والظاهر. إلا أن هذا الفكرة المنهجية التي فجرها كانط كانت إرهاصًا بضربة ماحقة للوعي الفلسفي الحداثي. فالمراجعة النقدية التي أرادها كانط تعيينا لحدود اشتغال العقل، ستنقلب إلى التشكيك في العقل بأكمله، لتخلص إلى تخطيه مع فلسفات ما بعد الحداثة التي بدأت في التبلور في نهاية القرن التاسع عشر. إن الحداثة بوصفها إرساء لمرجعية العقل، أكدت صيرورة تطورها أن معنى الوجود أثقل من أن تحمله المرجعية العقلية. وهذا في تقديري هو جوهر الدرس الذي يمنحنا إياه التأمل في تاريخها، فيفرض علينا النظر إلى المشروع الحداثي بوعي نقدي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.