بنك المغرب: القروض البنكية ترتفع إلى 1.17 تريليون درهم بنهاية يوليوز    ارتفاع ثمن الدجاج والبيض بشكل غير مسبوق يلهب جيوب المغاربة    البنك الدولي يستعرض نموذج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تقريره لسنة 2025    صحافة النظام الجزائري.. هجوم على الصحفيين بدل مواجهة الحقائق    إلى متى ستظل عاصمة الغرب تتنفس هواء ملوثا؟        القمة العربية الإسلامية الطارئة تجدد التضامن مع الدوحة وتدين الاعتداء الإسرائيلي على سيادة قطر    قناة الجزيرة القطرية.. إعلام يعبث بالسيادة المغربية    فيدرالية اليسار الديمقراطي تنخرط في الإضراب العالمي عن الطعام تضامناً مع غزة    لجنة تحقيق أممية تتهم إسرائيل بارتكاب "ابادة جماعية" في غزة            منظمة النساء الاتحاديات تدعو إلى تخصيص الثلث للنساء في مجلس النواب في أفق تحقيق المناصفة            افتتاح الدورة الثانية من مهرجان بغداد السينمائي الدولي بمشاركة مغربية        بنعبد الله بترشح مايسة سلامة الناجي ضمن صفوف التقدم والاشتراكية    في ذكرى الرحيل الثلاثين.. فعاليات أمازيغية تستحضر مسار قاضي قدور    هيئة تستنكر تعنيف وقفة في أكادير‬        القمة العربية الإسلامية الطارئة تجدد التضامن مع الدوحة وإدانة الاعتداء الإسرائيلي على سيادة قطر    موسكو تعزز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع المغرب    وزيرة المالية تدعو لتعاون دولي لمكافحة الهجمات السيبرانية        أمن أولاد تايمة يحجز أزيد من 60 مليون سنتيم ومواد تستعمل في أعمال الشعوذة    المغرب يستضيف كأس العرب لكرة القدم النسوية في شتنبر 2027    النقابة الوطنية للتعليم العالي ترفع سقف التصعيد ضد مشروع قانون 59.24    القمة العربية: العدوان الإسرائيلي على قطر يقوض فرص السلام في المنطقة    ولاية أمن أكادير تفتح بحثا لكشف ظروف وملابسات انتحار ضابط شرطة ممتاز بواسطة سلاحه الوظيفي    المنتخب المغربي لكرة الطائرة ينهزم أمام نظيره الكيني    بوصوف يكتب.. رسالة ملكية لإحياء خمسة عشر قرنًا من الهدي    نتنياهو يهدد باستهداف قادة حماس "أينما كانوا" بالموازاة مع استضافة قطر القمة العربية الإسلامية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بخسارة    مونديال طوكيو… البقالي على موعد مع الذهب في مواجهة شرسة أمام حامل الرقم القياسي    الملك محمد السادس يدعو لإحياء ذكرى 15 قرناً على ميلاد الرسول بأنشطة علمية وروحية    منظمة الصحة العالمية تتجه لدعم تناول أدوية إنقاص الوزن لعلاج السمنة    من 10 إلى 33 درهما.. تفاصيل الزيادة في رسوم التحويلات البنكية    "المجلس العلمي" يثمن التوجيه الملكي    غياب أكرد عن مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    «أصابع الاتهام» اتجهت في البداية ل «البنج» وتجاوزته إلى «مسبّبات» أخرى … الرأي العام المحلي والوطني ينتظر الإعلان عن نتائج التحقيق لتحديد أسباب ارتفاع الوفيات بالمستشفى الجهوي لأكادير    الحُسيمة.. أو الخُزَامىَ مَدِينَة العِطْر حيثُ تآخَت الشّهَامَةُ والتّارِيخَ    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    طنجة تستعد لتنظيم مهرجانها السينمائي الدولي في نسخته 14            الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    "الأصلانية" منهج جديد يقارب حياة الإنسان الأمازيغي بالجنوب الشرقي للمغرب    السفينة المغربية "علاء الدين" تنطلق مع أسطول الصمود نحو ساحل غزة    الرقم الاستدلالي للإنتاج الصناعي والطاقي والمعدني خلال الفصل الثاني من 2025.. النقاط الرئيسية    البطولة الاحترافية لكرة القدم.. بداية قوية للكبار وندية من الصاعدين في أول اختبار    فيلم "مورا يشكاد" يتوج بمدينة وزان    المصادقة بتطوان على بناء محجز جماعي للكلاب والحيوانات الضالة    الكلمة أقوى من الدبابة ولا مفر من الحوار؟    أبرز الفائزين في جوائز "إيمي" بنسختها السابعة والسبعين    كوريا تؤكد أول حالة إصابة بأنفلونزا الطيور شديدة العدوى هذا العام    بعقْلية الكسل كل أيامنا عُطل !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة.. والوعي التاريخي الغائب - بقلم الطيب بوعزة
نشر في التجديد يوم 29 - 01 - 2008


كان ميلاد الحداثة الأوروبية ثمرة مخاض تاريخي طويل، أخذ يتبلور منذ عصر النهضة حيث بدأ صراع العقل مع الفكر الكنسي، وهو الصراع الذي انتهي بانتصار العقل. لكن هذا المخاض الجدلي بين الإيمان والعقل سيكون مترافقا مع سلسلة من التحولات المجتمعية العميقة التي مست بنيات المجتمعات الأوروبية، ونقلتها من النظام الزراعي الإقطاعي إلى النظام الصناعي التجاري، فولدت المدن الصناعية وبدأ فيها نمو تدريجي للطبقة البرجوازية. وسيخلص هذا المخاض المجتمعي في القرن السابع عشر إلى تأسيس فلسفي للحداثة بدأ في التبلور الفعلي مع ديكارت في كتابيه المقال في المنهج وتأملات ميتافيزيقية، وهو في هذين الكتابين المثيرين سيضع لعصر الحداثة مرجعيته المعرفية المتمثلة في العقل (أو بلغة ديكارت الأنا أفكر أو الكوجيتو) الذي كان أول حقيقة توصل ديكارت إلى تأكيد وجودها. فما معنى العقل بوصفه مرجعية وأداة لإنتاج الحقيقة؟ لقد اعتبر ديكارت العقل مرجعية معرفية، وجوهرا مفكرا قادرا على بلوغ الحقيقة بمفرده وبمعزل عن أي سند ماورائي. ورغم أن ديكارت كان رجلا متديّنا، فإنه سواء وعى ذلك أم لم يعه أرسى لأوروبا عقيدة جديدة تم فيها تأليه العقل ورفعه إلى مقام المطلق. ثم سار القرن السابع عشر في ذات المسار الذي دشنه أبو الفلسفة الحديثة (ديكارت)، فانتشر تيار ما سمي بالديكارتيين، مع دنيال ليبستورب، وجولنكس، وكريستيان فيتيش، بل حظي هذا التيار بالدفاع عنه من قبل مفكرين بارزين يمكن أن ندرج من بينهم أسماء عمالقة الفكر الأوروبي في هذا القرن بدءا من مالبرانش وانتهاء بلايبنز. فحتى عندما استهدفت الديكارتية في الصميم من قبل جون لوك، نجد لايبنز ينافح عنها بجدارة واقتدار في كتابه محاولات جديدة في الفهم الإنساني، الذي تعقب فيه كتاب لوك فقرة فقرة، منتصرا لنظرية العقل الديكارتية، مع إضافات واجتهادات جديدة. وباختصار، لقد تضافرت جهود الديكارتيين على الرفع من شأن العقل وتأكيد اعتباره مرجعية معرفية، ومعيارا للحقيقة وأداة إنتاجها، إلا أن هذه الثقة المطلقة في العقل بوصفه جوهرا ومرجعية إبستملوجية تزعزعت قليلا بفعل الفلسفة التجريبية، التي كانت التقليد الفكري الشائع في الضفة الأخرى لأوروبا، أي في إنجلترا مع فرنسيس بيكون وجون لوك ثم مع دفيد هيوم. غير أن هذا النقد التجريبي للعقلانية لم يكن نقدا لأساس الحداثة، فإذا كان ديكارت يؤسس للذاتية لجعلها أرضية للحداثة حسب تعبير هيغل فإن هذه الأرضية لم تتم الثورة عليها من خلال الفلسفة التجريبية، بل تم تأكيدها من ناحية أخرى. حيث أصبح الحس مصدر المعرفة، هذا الحس الموصول بالواقع المادي. وهكذا تمت إقامة التجربة الحسية بوصفها مرجعية معرفية بدلا من النص الذي كان في القرون الوسطى مرجع الحقيقة. فأصبح معيار الحقيقة هو التجربة لا التناغم والانسجام مع المعتقد الموروث ومفاهيمه. لقد كانت الفلسفة التجريبية في عمقها تجذيرا للحداثة من حيث علاقتها الصراعية مع الدين، وهي في حقيقتها تأكيد لذات المقولة الحداثية، أي الكائن الإنساني. إلا أن التجريبية خاصة في نموذجها الشكي مع دفيد هيوم ستدق أول ناقوس المراجعة النقدية ضد تلك الوثوقية العقلانية، في نموذجها الديكارتي واللايبنيزي. فالفلسفة الشكية التي أرساها هيوم بينت أن العقل -الذي تم تأليهه مع ديكارت- لا يستحق هذا المقام، لكن هيوم لم يقدم بديلا للوعي الأوروبي، وإنما أيقظه من وثوقيته العقلانية فقط، فكان بشكيته مزعزعا للعقلانية ويقينها! ألم يقل كانط واصفاً تأثير كتب هيوم فيه: أيقظني هيوم من سباتي الاعتقادي!! وهي كلمة وإن كان كانط يعبر بها عن صيرورة تطوره الفكري الذاتي، فهي عندنا حلقة معبرة عن صيرورة تطور المشروع الحداثي في لحظة حرجة من تاريخه، وهي لحظة بدء مراجعة أدواته ومعاييره المعرفية. كانت لحظة هيوم بداية التشكيك في المرجعية العقلانية، ولم يكن بإمكانه أن يرسي بديلا أفضل وأوثق من العقل، فالحس الذي تعلق به هيوم يؤول في النهاية إلى العقل الذي سيصوغ المعطيات الآتية من الحواس. ولذا كان من الطبيعي لهيوم الذي شك في العقل ألا يقدم أي بديل ينأى عن الشك. لكن لحظة كانط كانت لحظة مشروع أعمق وأوسع من تشكيكات هيوم، فقد كانت لحظة مساءلة شاملة لأرضية الحداثة سواء في ثوبها العقلاني أو في ثوبها التجريبي. والخلاصة التي انتهى إليها كانط هي أن العقل محدود، وليس قدرة معرفية مطلقة، إنه محدود بحدود عالم التجربة والظاهر. إلا أن هذا الفكرة المنهجية التي فجرها كانط كانت إرهاصًا بضربة ماحقة للوعي الفلسفي الحداثي. فالمراجعة النقدية التي أرادها كانط تعيينا لحدود اشتغال العقل، ستنقلب إلى التشكيك في العقل بأكمله، لتخلص إلى تخطيه مع فلسفات ما بعد الحداثة التي بدأت في التبلور في نهاية القرن التاسع عشر. إن الحداثة بوصفها إرساء لمرجعية العقل، أكدت صيرورة تطورها أن معنى الوجود أثقل من أن تحمله المرجعية العقلية. وهذا في تقديري هو جوهر الدرس الذي يمنحنا إياه التأمل في تاريخها، فيفرض علينا النظر إلى المشروع الحداثي بوعي نقدي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.