ل"الربيع المغربي"، حكم وعبر، كما أن للربيع الثورات الديمقراطي في البلدان المجاورة لنا حكمه وعبره، وهاكم بعض عبر "ربيعنا المغربي" الذي عشنا وقائعه بموازاة مع وقائع ربيع الثورات الديمقراطي المجاور لنا: العبرة الأولى: المعقوفات تقاوم لغة المسخ "ربيعنا المغربي" لم يحررنا من عقد المعقوفتين في كتاباتنا وعباراتنا الشفهية، هكذا حين نعرج في الحديث عن المغرب، نضطر إلى استدعاء هذه المعقوفات في تعابيرنا، حتى أنه يتخيل إلى قارئ هذه التعابير في مقال أن صاحبها غير "جدي"، وأنه يكتب مسودة "وسخ" وينشرها دون أن يصححها. حينما أتذكر هذه الوقائع الفريدة التي مرت بها منطقتنا أتساءل هل فعلا وقع ما وقع؟ مصر تعد لمسودة دستورها وهي على كل حال في ديناميكية مجتمعية تتنفس هواء الحرية بالرغم مما يسجل من ملاحظات وتحليلات حولها، تونس في طريقها نحو بناء تعاقد دستوري وسياسي سليم وفي هذا التعاقد مد وجزر بفعل التجادبات بين قوى مجتمعية متعطشة للحرية منذ زمان بعيد فتمارس حريتها بشيء من النشوة الزائدة عن اللزوم، في ليبيا أيضا المسار الديمقراطي الذي يجعل من الإرادة الشعبية العامة سامية تأسس وحلقاته في الطريق الواحدة تلو الأخرى، والمناوشات هنا وهناك تعبيرا عن هذه الرغبة في أن يشرك الجميع في قرارات تخدم الجميع. فماذا عن "ربيعنا المغربي"؟ هو سجين المعقوفات والاستثناءات والرمزيات والمزايدات الكلامية بقاموس يعلي من شأن نرجسية مفتعلة لخصوصية البلاد أو يستعير بعض أدبيات تربة الربيع الديمقراطي المجاور لنا لكي يغطي عن العجز والتخلف والفشل في إنجاز تجربة تحرر مغربية فريدة لها معنى بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. "ربيعنا المغربي" تحدث "المدافعون عنه" وأسهبوا في الكتابة والتصريح عن "فرادته" لأنه "نموذج" ل"الإصلاح في إطار الاستقرار"، فلقد "تجاوب" أصحاب القرار مع مطالب الشارع المغربي، وأطلق سراح "العديد من المعتقلين السياسيين"، ووضعت "سياسة استعجالية" لتشغيل المعطلين حاملي الشهادات ولتحسين الوضعية الاجتماعية للأجراء والموظفين...، وكان الإقدام على "إصلاحات دستورية وسياسية" أتت لنا ب"دستور ديمقراطي"، أشرك "الملك" كل "قوى البلاد الحية" في "صياغته"، واتسم بأنه أحدث "تحولا نوعيا" في بنية الدولة المغربية، حيث "تنازل" الملك بموجبه على "بعض من صلاحياته" لصالح رئيس الحكومة، وتمت دسترة "الحقوق والحريات"، وأصبحت للبرلمان "صلاحيات جديدة" في "التشريع" و"المراقبة"، وصوت لصالح هذا الدستور المغاربة ب"أغلبية كبيرة"، وكانت الانتخابات "النزيهة" التي شهدت لأول مرة صعود "الإسلاميين" إلى "الحكم" الذين حازوا "الشرعية الشعبية"، حيث سيعيش المغرب تجربة "الشراكة في الحكم" بين الإسلاميين الفائزين والمؤسسة الملكية... عفوا! إذا استمررت في سرد ما وقع فستتكاثر علي هذه المعقوفات وتتضاعف كلما أغرقت في تفاصيل تفاصيل "حياتنا السياسية" التي يتسم بها "ربيعنا المغربي"، فالمعقوفات شكل للرفض ولمقاومة هذا السيل الهائل من المصطلحات التي يريد مروجوها أن يهربوا النقاش إلى حيث هي نشواتهم السياسية، وهي أيضا إدانة لهذا "الربيع المغربي" الذي عاد بنا إلى لغة الإشارات والرموز في غياب الحقيقة الملموسة في الواقع الملموس. تأبى اللغة إلا أن تكون صادقة حين تنبعث من بيئتها وتربتها، ترفض أن تعبر على ما يجري بغير ما يجري، وعلى المنجزات بغير المنجزات وعلى المآسي والهزائم بغير المآسي والهزائم، أما غيرها من لغات الزيف فهي فقط قوالب وحروف يخيط بعضها بعضا لتعطينا كلمات وجمل وتعابير مصطنعة لا تلبث أن تموت مع الوقت لأنها غير طبيعية، ولذلك فصدق اللغة المعبرة أن تستدعي المعقوفات حين لا تجد لبعض الأشياء "النكرة" من تسميات تليق بها... واجب المرحلة أن تخليص وتحرير هذه اللغة من معقوفاتها لتكتب بخلفية البناء في زمن تكون فيه قد غابت قواميس التشويشات والتعابير المصطنعة، اللغة إذن هنا مقاومة لما يكتب وما يجري في زمن التشويش، بناءة ومتحررة لما قد يكتب في زمن التحرر. العبرة الثانية: حرب الاستبداد الدائمة الحكام المستبدون هم دوما في معركة مع الأحرار من شعوبهم، فلا يفكرون لا في تنمية ولا في نهضة ولا في رفاه للمجتمع، همهم الوحيد أن يحافظوا على ديمومتهم في الحكم الانفرادي، وهم لأجل ذلك يؤسسون لدولة بوليسية وعسكرية شمولية، ولأنهم يعتقدون أنهم في حرب فمعسكرهم بين مد وجزر لإحكام السيطرة أو لاحتلال و لاستعادة "مناطق" قيمية ومعرفية ومفاهيمية وسياسية وتشريعية وبرلمانية وحكومية وإعلامية ثم أمنية وعسكرية..."، وحين يثور الأحرار من شعوبهم عليهم بشكل سلمي، فهم يعززون من قوتهم الأمنية والتسلطية، وإذا ما أحسوا بزحف الأحرار على بعض من "مناطق نفوذهم" يتراجعون إلى الوراء ريثما يعيدون الكرة ل"استعادة" هذه "المناطق"، هكذا فمن تراجعهم عن بعض من نفوذهم في "المناطق المفاهيمية والقيمية" (وجود نخبة مثقفة مستقلة ومتحررة ذات مصداقية تعارض قيم الاستبداد ومفاهيمه)، إلى التراجع إلى "المناطق التشريعية والبرلمانية والحكومية"، وإذا تقوى معسكر الأحرار تراجعوا إلى بعض من المناطق التشريعية، ثم إذا استمر تقدم معسكر الأحرار في مطالبه وفي هجومه، يتراجع معسكر الاستبداد إلى بعض من المناطق الحكومية والتحكمية متخليا عن بعضها، ثم إذا استمر تقدم الأحرار، قد يتخلى معسكر الاستبداد عن "المناطق الحكومية التدبيرية" ويحتفظ بالاستراتيجية، ثم إذا تقدم معسكر الأحرار أكثر، قد يدفعه إلى التراجع إلى "مناطق أكثر أمنا" فيحتفظ ب"القوة الأمنية والعسكرية"، ثم بعدها قد يقرر معسكر الاستبداد آنذاك حين يشتد عليه الخناق الهجوم باستخدام قواته الأمنية والعسكرية لاسترجاع "مناطق نفوذه السابقة" فإن نجح في ذلك بدأ باسترجاعها "شبرا شبرا" وبشراسة، وإذا ما فشل يخسر معسكر الاستبداد ويفقد عناصره الواحد تلو الآخر وفي الأخير يسقط بغير أسف وتأسف على سقوطه، هذا هو الدرس الذي نتعلمه من ثورات الربيع الديمقراطي، الإصرار ثم الإصرار على الاستمرار في معركة استعادة السلطة كاملة للمجتمع وللشعب ودونها مراحل تراجع وتقدم ومد وجزر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا... العبرة الثالثة: الرقابة الذاتية والمصداقية (تراقب فعلك دون أن يراقبه أحد، وتمنع نفسك من فعل ما قررته سابقا دون أن يمنعك أحد...)، حين تصبح الرقابة الذاتية على التصريحات والمواقف جزءا من الهوية "الحزبية والنضالية والتدبيرية" لقوى سياسية فاقرأ عليها السلام، ثم اطو الصفحة وأعد البحث من جديد عن متغيب اسمه المصداقية في بلادنا، نقطة إلى السطر! العبرة الرابعة: الافتراس طبعٌ المفترس حينما ترعى المفترس أثناء وهنه وتسهر على حمايته من انتقام الجراح لبراثنه وتدافع عنه بشراسة غير مفهومة في وجه كل من يريد أن ينهي عهد طغيانه واسئتساده، فبعد أن يتعافى هذا المفترس من وهنه ويستعيد قوته ويطلق العنان لمحيطه من المفترسين الصغار للعودة إلى ميدان الشوكة والتغلب، لا تأت بعدها لتتباكى على الناس وتشكو افتراسه لك ولمحيطك وعائلتك والناس أجمعين، فالمفترس مفترس ولا طبيعة له غير الافتراس والنهب والاعتداء، هذا ملخص كل الحكاية... العبرة الخامسة: ولادة من رحم الشعب الكائنات البشرية تولد حرة من رحم أمهاتها فتكون تحت رعايتها في الصغر وتحت "توجيهاتها" في الكبر، والكائنات السياسية لها ولادتان، إما الولادة الطبيعية من رحم الشعب بشكل مستقل دون إملاءات من أحد فتكون خاضعة فقط لمصالح الشعب وإرادته وتوجيهاته، وإما أن تولد ولادة صناعية فتكون بمقتضى ذلك خاضعة لمن صنعها ومتحكم فيها مثل أي كائن صناعي... العبرة السادسة: لاشراكة مع الاستبداد الشراكة مع الاستبداد وناتجه من الفساد لا تنبت إلا تجديرا لبنى الاستبداد و الفساد، ذلك أن علاقة معسكر الإصلاح مع معسكر الاستبداد والفساد هي علاقة تدافع ومزاحمة وليست علاقة شراكة، إذ لايمكن أن ينتعش "الطاهر" في ركام الأزبال، والماء القليل الصافي سرعان ما تمتزج ذراته مع الكثافة "المتعفنة" فتتخذ طبعها وميزاتها، وحين تكون غالبية المحيط البيئي ملوثة فلا ينتعش فيها إلا كل من فقد "طهرانيته" و"صفاءه"، وتهوي إليه كل الجسيمات "المريضة" لتنتعش حياتها بهذا المحيط البيئي الملوث، وحدها الكائنات "الطاهرة" تقاوم الاندماج لتحتفظ بجوهرها الطيب... ...وأخيرا لن ينفع سوى توقيف عقارب الزمن إلى غاية استئنافها مع هبة إصلاحية ربيعية جديدة صادقة بدون زيف ولا تحوير ولا التفاف ولا خداع ولا انتهازية ولا خيانة، لن ينفع إلا الصمت بكلام ناطق معاكس لكل هذا اللغط الذي يريد منا أن ننحني ونقبل بكل إذعان أوهاما في ثوب الحقيقة وتمديدا للظلم في ثوب الإصلاح، وفتنة في ثوب استقرار، وإلا فليحدثنا كل صادق مع نفسه، ما معنى ربيع مغربي مع استمرار اعتقالات ظالمة ومعاناة مؤلمة ورؤوس فساد متحكمة؟ ما معنى ربيع مغربي يتوج ب"شراكة" مع أهل الفساد لمحاربة الفساد؟ وب"تقاسم للسلط" مع أهل الاستبداد لمحاربة الاستبداد؟ ما معنى ربيع مغربي لا تتضح معالم هذا "التعاقد الفريد" فيه إلا بعد المصادقة على القانون التنظيمي الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس وهلم جرا...؟ واستمروا في إحصاءها، وحذار أن تخطئوا في الإحصاء حتى متم أربع سنوات وأنتم تحصون وتنتظرون وتتوقعون وتشهدون في الحلبة معركة التيه حول ما سمي ظلما وزورا وتحويرا وتحريفا ووهما "التأويل الديمقراطي للدستور"، لينتظر الكل أين ستنتهي هذه "المعركة" حول هذا "التأويل"؟، الفرجة ستطول وجولاتها ستطول و"الربيع المغربي" متحرك عندنا!، لا وألف لا ...، هذه الفرجة بئيسة لأن نهاية "فيلمها" معروفة، لذلك لن ينفع سوى توقيف عقارب الزمن، والصمت بكلام ناطق فيه من الاستياء الكثير من زمن الاستبداد المدستر والممدد والمقنن والمنظم وكل تداعياته ومشاهده وتجلياته ، بئس التفاؤل من هذا "الخير" الذي سينعم به علينا استبداد هذا الزمن وفرقه المساعدة ونخبه المزينة له، لكن زمن الأمل سيظل متحركا، الأمل الجياش بأن كل هذا الخبث والمكر والخداع والالتفاف سيذهب جفاء وسيمكث ما ينفع الناس: حرية كرامة عدالة اجتماعية وقبل ذلك وبعده وطن حر ينعم به أبناءه ويصنعوه بسواعدهم الحرة.