إذا كان الساسة الذين ارتبطت أسماؤهم بالترويج للاستثناء المغربي الشهير، قد نجحوا إلى حد ما في استثمار كل الفرص التي أتيحت لهم ليتحدثوا وبإسهاب عن "صمود " ذلك الاستثناء المغربي ،الذي لا يوجد إلا في مخيلاتهم ، أمام الرياح العاتية للربيع الديمقراطي الذي يجتاح المنطقة العربية منذ السنة الفارطة .... فإن أغلب مكونات طبقة "الأنتلجونسيا "لم تدع هي الأخرى فرصة الربيع العربي تمر دون أن تقدم للمغاربة صورتها الحقيقية ، وتبين مدى انسياقها الأعمى ، بالصمت أو بالكتابة أو بالمشاركة ، وراء دعاوى هؤلاء الساسة الذين طبلوا وزمروا ل"استثنائنا المغربي " ، عبر اختيارهم أسلوب المداهنة تارة والمهادنة تارة أخرى ، وهو أسلوب ارتبط كما هو معلوم بالطبقة المثقفة العربية عموما والمغربية خصوصا ، أسلوب تتخذه هذه الطبقة وسيلة في تعاطيها مع قضايا الوطن والمواطنين ، أسلوب تحافظ به على استقرار العلاقة الرابطة بينها وبين السلطة السياسية الحاكمة على حساب الرعايا المحكومين الذين لطالما عقدوا آمالا كبيرة على طبقتهم المثقفة لإخراجهم من متاهة الذل والهوان والظلم والتجبر . إن أسلوب المداهنة والمهادنة تمظهر بوضوح في فعل الكيل بمكيالين الذي مارسته وتمارسه طبقتنا المثقفة حيث كان موقفها من الحراك الذي أحدثه الربيع العربي موقفا سلبيا ومخجلا إلى أبعد حد إلى درجة أن أحد أبرز مكونات هذه الطبقة والفائز بعدة جوائز، أبرزها جائزة "الغونكور" الفرنسية ، ترك جمل الربيع العربي بما حمل وركز كل اهتمامه على تسمية حراك هذا الربيع هل هي تسمية مناسبة له أم لا ؟ ،بينما نجد اسما بارزا آخر ترك الحراك الاجتماعي الذي أحدثه الربيع العربي في المغرب وظل يحارب الإسلام وجعل منه فوبياه التي تقض مضجعه ، وكانت هذه هي حيلته الوحيدة للتهرب والتنصل من مسؤوليته كمثقف حيال ما يعتور المجتمع المغربي جراء الربيع العربي . ومارس مثقف آخر و عالم اجتماع بارز مقولة " طلع خود الكرموس ، نزل شكون كالها ليك "؛ هذا المثقف كانت له مشاركة فعالة في صياغة بنود الدستور المعدل ، وكان أحد أبرز الذين طبلوا وزمروا لمصداقية وحداثة هذا الدستور ، ثم ما لبث أن طلع علينا ب "حقائقه" الخطيرة حول ما شاب هذا الدستورمن خروقات،من قبيل أن اللجنة التي أوكل إليها صياغة مسودة الدستور " ما كان لها أن تستجيب لأشياء لم يطلبها أحد ...." ، إضافة إلى أنها " ..كانت تحت رقابة السلطة " ، وبذلك قدم هذا المثقف مثالا صارخا عن ازدواجية الفكر والموقف لدى ثلة من مثقفينا المحترمين ، إضافة إلى عدم وقوفه إلى جانب حركة 20 فبراير،شأنه شأن العديد من مثقفينا وسياسيينا ، واختياره المشاركة في صياغة الدستور مع علمه المسبق أنه دستور سيصاغ وفق ما تريده وترغب فيه جهات نافذة في البلاد ، ولن تراعى فيه مصلحة الوطن والمواطنين على حد سواء . واختارت جوقة أخرى من مثقفينا الانتظام في "مؤسسة " اختاروا لها من الأسماء "اتحاد كتاب المغرب " ولسنا ندري هل الأمر يتعلق ب " اتحاد كتاب " أم ب"كتاب اتحاد " على اعتبار أن التسمية الأولى تشير إلى أن هناك كتابا مغاربة يتمتعون بحرية التعبير والموقف حيال ما يحدث في بلدهم ، وبالتالي كان من الطبيعي والبديهي أن نسمع صوتا مزلزلا ورأيا واضحا وحاسما لهؤلاء الكتاب في ما عرفه المغرب منذ أن انطلق حراك الربيع العربي الديمقراطي ، وهو ما لم يحدث على الإطلاق ، الأمر الذي سيجعلنا نكتفي بالحديث عن "كتاب اتحاد "ليس إلا ؛ على اعتبار أن هناك مؤسسة مُسيسة تعمل وفق أجندة سياسية ، وإملاءات تنسجم والسياسة العامة للبلاد . إن ما لا يكاد المرء يفهمه أو يستوعبه بالمقابل هو أن صنفا آخر من الطبقة المثقفة المغربية لم يحرك ساكنه ما عرفه المغرب منذ الخطاب الملكي ل 9 مارس مرورا بتعديل الدستور ووصولا إلى فوز العدالة والتنمية وتكليفها بتسيير الشأن الوطني العام ،وامتصاص الغضب العارم الذي أحدثه الحراك العربي إلى حين ، فمن مكونات هذه الطبقة ،التي من المفترض أن تكون قائدة لكل حراك سياسي أو اجتماعي ، رهط من الكتاب لم ينفع فيه ومعه ما تركه كتاب رحلوا إلى دار البقاء من قبيل ما كتبه الدكتور محمد عابد الجابري عن العقل العربي ، وما كتبه الدكتور عبد الكبير الخطيبي عن النقد المزدوج ، وما كتبه محمد زفزاف عن الثعلب الذي يختفي ويظهر، ليبين ، أي هذا الرهط ، من خلال نتاجات فكرية أو إبداعية مدى مساهمة العقل المغربي في الحراك الاجتماعي الذي أفرزه الربيع العربي ، ويبرز خطورة استفحال آفة ازدواجية الخطاب لدى ثلة من سياسيينا المغاربة حتى في ظل الهزة القوية التي أحدثها الربيع العربي في المغرب وإن كانت لم تخلف ضحايا في الأرواح والبنيات التحتية ، ولكنها خلفت ضحايا كثر في البنيات الفوقية وليجعلنا أخيرا كمغاربة نقف عند أسباب ظهور ثعلب الربيع المغربي ثم تواريه واختفائه المفاجئ . ومن مكونات طبقتنا المثقفة من أثار صمته المطبق غير المبرر عما عرفه المغرب منذ أن أعطى البوعزيزي رحمه الله الشرارة الأولى لانطلاق ربيع عربي خلخل وزلزل ومسح من على الأرض بأنظمة عربية استبدادية لطالما ساد الاعتقاد أنها خالدة في حكمها الشمولي ، وأنها باقية على حالها في استعباد الناس واحتقارهم وإهانتهم إلى أجل غير مسمى ،أثار صمت هذا المكون علامات استفهام كبرى حول علاقة قناعة المفكر ومدى انسجام هذه الأخيرة مع ما تضمنته نتاجات هذا الأخير الفكرية التي أثارت ضجة كبرى على مستوى الساحة الفكرية العربية والإسلامية والعالمية ، من قبيل ما كُتب عن الايديولوجيا ، وعن مفهوم الدولة ....، ومن هذه المكونات أيضا من أتحفنا بكتابات كثيرة في الشعر والنثر إلى حد أنه ألف أيضا في "العيطة والعيوط المغربية " لكنه في خضم الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب جف مداد قلمه ، وتاه عنه إلهامه ، وغاب عنه شيطانه ، وخانته قريحته ، ولم يُصدر ديوانا حول هذا الحراك يرصد فيه "العيطة الكبيرة " التي صدح بها الشباب المغربي التواق إلى مغرب حر أبي يصول ويجول فيه مثقف ومبدع مشاكس ومحرض للوعي الجمعي الذي بدونه لن تتحقق المطالب المشروعة للشعب المغربي ، هذا الأخير الذي سئم ومل من كتاب ومبدعين "يبدعون " إذا طُلب منهم الكتابة في النميمة أوالترويج لثقافة المداهنة والمهادنة .. ويصابون بالخرس إذا تعلق الأمر بالكتابة مثلا عن الطقوس المخزنية المهينة للكرامة المغربية ولسمعة المغرب والمغاربة ، من قبيل الركوع في البيعة وتقبيل الأيادي بدعوى الاحترام الواجب للملك ، وإن كانت الحقيقة هي عكس ذلك تماما ، لأن تقبيل اليد والركوع لغير الله تعالى ما هو إلا تجل واضح وبارز للنفاق الاجتماعي والسياسي الذي يمارسه هؤلاء الراكعون بامتياز . وهناك أيضا مكون آخر من مثقفينا من أراد أن يقول للمغاربة "أنا هنا "فقفز ، كعادته ، عن كل القضايا الساخنة التي عرفها ويعرفها المغرب ، الآن وهنا ، واختار أسهل وأقصر السبل حيث سخر كل معجمه في مجال "الحداثة " ، ليخبرنا بأن الإسلاميين أناس لا نجاح لهم في الأفق ، لأنهم ، وبالرغم مما أظهروه من انفتاح عن الآخر ، فإن قيم الحداثة ستهزمهم في نهاية المطاف ، هكذا خلص هذا الدكتور والشاعر إلى هذه النتيجة "المبهرة" وهو الذي سكت دهرا ونطق كفرا ، تماما كما فعل ذلك الذي التهمته الماكينة السياسية الصهيونية العالمية وخرج وخطب في الناس أن النظام الامبريالي الليبرالي المتوحش هو نهاية التاريخ . أما المكون العجيب الغريب من هذا العقد الفريد من مكونات طبقتنا المثقفة كان أكثر وضوحا وجرأة ممن سبقت الإشارة إليهم ، حيث سُخرت له وسيلة إعلام مغربية تُمول من جيوبنا ، لينعتنا نحن الذين نختلف معه في كيفية طرح قضايا ومعالجتها والخلاصات التي ينتهي إليها ، ب" أنصاف المثقفين " لا لشيء سوى لأننا ارتأينا أن تُسخر له هذه الوسيلة الإعلامية الممولة من جيوب المغاربة ليحدث الشعب المغربي عن قضايا مصيرية شهدها المغرب أخيرا ، وليذكر للمغاربة رأي الدين في هذه القضايا ، ويدع ، ولو إلى حين ، الحديث المطول عن أمور تعبدية يعرفها المغاربة حق المعرفة .. وإذا كان لا بد من خاتمة لحديثي هذا ، فستكون عبارة عن تذكير في طياته مطلب مشروع من منطلق " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " ، والتذكير هو أننا سنظل ننتظر صحوة مثقفينا من سباتهم العميق ليضطلعوا بدورهم "الكرامشي " والمطلب الذي نتوق إلى رؤيته محققا على أرض واقع مشهدنا الثقافي والفكري والإبداعي يكمن أساسا في قراءات لنتاجات فكرية وإبداعية حقيقية من قبيل ما قرأناه ،على سبيل التمثيل لا الحصر ،في كتابات نعوم تشومسكي ومواقفه الجريئة في جملة من القضايا التي عرفها العالم ، وأيضا مما قرأناه في إبداعات الراحل عبد الرحمان منيف ، أو محمد الماغوط أو مظفر النواب ....