القصة الكاملة لخيانة كيليان مبابي لإبراهيم دياز … !    حادثة سير مروعة بطنجة تودي بحياة فتاتين وإصابة شابين    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    إصابة عنصر من القوات المساعدة بحروق خطيرة في حريق سوق بني مكادة بطنجة    المغرب ينجح في توقيف فرنسي من أصل جزائري مبحوث عنه دولياً في قضايا خطيرة    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    تذكير للمغاربة: العودة إلى الساعة القانونية    التحولات الهيكلية في المغرب.. تأملات في نماذج التنمية والقضايا الاجتماعية الترابية" محور أشغال الندوة الدولية الثانية    الأسير الإسرائيلي الذي قَبّل رأس مقاتلين من "القسام" من أٌصول مغربية (فيديو)    افتتاح أخنوش رفقة ماكرون للمعرض الدولي للفلاحة بباريس يشعل غضب الجزائر    نهضة بركان يحسم لقب البطولة بنسبة كبيرة بعد 10 سنوات من العمل الجاد    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    مقتل شخص وإصابة عناصر شرطة في "عمل إرهابي إسلامي" في فرنسا    تمارة.. حريق بسبب انفجار شاحن هاتف يودي بحياة خمسة أطفال    الجيش والرجاء يستعدان ل"الكلاسيكو"    التعادل يحسم مباراة آسفي والفتح    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    توقيف عميد شرطة متلبس بتسلم رشوة بعد ابتزازه لأحد أطراف قضية زجرية    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    توقعات أحوال الطقس ليوم الاحد    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومميزة في مكافحة الإرهاب    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط تهريب مفرقعات وشهب نارية وتوقيف شخص في ميناء طنجة المتوسط    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة 20 فبراير: من أجل نقاش ثقافي
نشر في أخبار بلادي يوم 07 - 04 - 2011

وماذا عن المثقف؟ سؤالٌ يتكرّر باستمرار. طُرح في أكثر من منبرٍ وتردَّد على أكثر من لسان. فالظاهر أنّ ثمة مسافةً مثيرةً للجدل اليوم بين أداء المثقف وسط هذا الحراك السياسي والاجتماعي الشامل الذي يعرفه المغرب والعالم العربي خلال ربيعه المبكّر هذا العام، وأفق انتظار المجتمع بقواه الحيّة ومنابره الإعلامية. لكن عوض أن نبادر جميعاً إلى ارتجال أجوبة حَدِّية صارمة تميل إلى تبخيس دور المثقفين لنحاول أولاً رصد حدود تحرّك المثقف المغربي وكذا الخطوات التي سعا من خلالها إلى تأكيد انخراطه في الحراك العام.
لنبدأ أولاً من البيانات. فقد حرص المثقفون المغاربة، جزءٌ منهم في الأقل، على الاصطفاف مبدئياً إلى جانب الشعوب العربية في توقها المشروع إلى التحرّر. هكذا طالعتنا في المدّة الأخيرة بيانات متلاحقة تعتزّ "بما أنجزه الشعب التونسي" في هبّته الياسمينية، ثم تدعم "الشعب المصري في كفاحه للتخلص من الاستبداد" لتدين "بشدّة القتل الجماعي للشعب الليبي الشقيق وممارسة الأرض المحروقة على الطريقة النيرونية" قبل أن تندّد "بالمجازر الوحشية التي يتعرّض لها الشعب اليمني من طرف نظام مستبدّ يستعمل الرصاص الحيّ ضدّ المدنيين الذين يطالبون بالكرامة والحرية والتغيير الديمقراطي" وتحتجّ على "اختطاف شعراء في سلطنة عمان".
البيانُ آليةٌ محدودة الأثر ورمزية بالأساس، لكنها تبقى ذات أهمية خصوصاً حينما تصدر عن نخبة فكرية وثقافية لها، نظرياً على الأقل، وضعها الاعتباري في المجتمع. لكن هل هذا يكفي؟ ذاك أن الكثير من الغمز واللمز صاحب نشر هذه البيانات خصوصا في المواقع الإلكترونية التفاعلية حيث يجد كلّ بيانٍ نُشِر هنا أو هناك ألف من يُزايد عليه في تعاليق تشكّك في قيمته وجدواه. حيث ركّزت العديد من التعليقات مثلاً على أولوية الانشغال بالشأن الداخلي الوطني على الاصطفاف مع الشعوب الشقيقة وتكرار نفس المواقف المبدئية مع كلّ بيان.
لكن، هل كان المثقفون المغاربة بعيدين تماماً عن معارك الداخل؟ لا أتحدث عملياً من داخل أية منظمة ثقافية، ولحسن الحظ أن الكثير من الأدباء والمثقفين المغاربة مازالوا يمارسون حضورهم في مشهدنا الثقافي الوطني بشكلٍ حُرٍّ ومستقل. لكن هذا لا ينفي أن لدينا في هذا البلد تنظيمات وإطارات يشتغل داخلها المثقفون. بعض هذه الإطارات منخورٌ من الداخل وبعضها مرتبكٌ أو ضعيف الفعل والحضور. فالكلّ يعرف كيف حرص محمد بنيس منذ لحظة تأسيس بيت الشعر على أن يجعل منه ذلك النادي المغلق مُصِرّاً على إبقائه موصداً في وجه أسماء لم تكن من النوع الذي يسلُس قيادُه ويسهل لربّ البيت انصياعُه. أما اتحاد الكتاب فقد كتبنا في حينه عن اللوائح الجاهزة التي كانت تتنزَّلُ كالوحي "من السماء" على مؤتمراته ليصوِّت عليها أدباؤنا المحترمون بانضباط التلاميذ، كما حرصنا على أن يكون لنا موقفٌ نقديٌّ من صراعاته الداخلية الأخيرة التي كانت صراعات مناصب ومصالح ذاتية لا صراعات أفكار وخيارات ثقافية. هذا وضعٌ خبرناه ونعرف أعطابه، لكن التوقّف عنده اليوم قد يفتحنا على نقاش آخر، أساسي طبعاً، لكنه برأيي يحتمل التأجيل. ففتحُه الآن يخدم بالأساس الأطراف التي تريد وضع هذه الدينامية في الثلاجة وتأجيل المعارك الاستعجالية التي يجب أن يخوضها المثقف المغربي الآن / هنا، وليس غداً، بالوسائل المتاحة وعبر الإطارات المتاحة أيضاً.
لذا دعُونا نعتبر بكلّ واقعيةٍ مقاطعةَ الائتلاف المغربي للثقافة والفنون واتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر فعاليات الدورة الأخيرة من معرض الدار البيضاء الدولي للنشر والكتاب، بغضِّ النظر عن تقييمنا لهذا الموقف، جزءاً من الحراك النضالي الوطني الشامل. وهو حراكٌ تواصَل من خلال وقفة 8 مارس الاحتجاجية أمام وزارة الثقافة، كما يمكن اعتبار وقفة جمعية خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أمام مقر وزارة الثقافة بشارع غاندي في فاتح أبريل امتداداً له.
لكن مرة أخرى، هل هذا كلُّ شيء؟ هناك مجالٌ آخر للنقاش الفكري انخرطت فيه الحركة الثقافية الوطنية أشهراً قبل هذا الربيع السياسي. فمنذ إطلاق نداء عبد اللطيف اللعبي "من أجل ميثاق للثقافة" والمبادرات تتلاحق: تأسيس المرصد الوطني للثقافة على خلفية احتجاجية صريحة وانخراط هذا الإطار في سلسلة من المبادرات الهادفة إلى تأطير "احتجاج" المثقفين ورصد "الاختلالات التي يعرفها مشهدنا الثقافي" وفضح "فشل الوزارة في تدبير الشأن الثقافي" في بلادنا. محمد برادة سيبادر هو الآخر إلى الدعوة إلى سلسلة من اللقاءات الحوارية حول الثقافة المغربية آخرها انعقد السبت الأخير من مارس بالرباط. وهي لقاءاتٌ تطمح بالأساس إلى بلورة "استراتيجية ثقافية"، ذاك أننا منذ الاستقلال لم نفكّر قطّ في وضع استراتيجية للثقافة في هذا البلد حسب صاحب "لعبة النسيان".
هذه المبادرات والتكتلات واللقاءات التي تَلَتْها ساهمت في طرح المسألة الثقافية بحدّة واستعجال كما فسحت المجال أمام العديد من المثقفين لمراجعة أدوارهم واستشراف آفاقَ جديدةٍ للفعل الثقافي. ديناميةٌ جعلت المثقف يعيد النظر في إنتاجه الأدبي بعيون السياسة كما حدث مؤخّراً في ندوة مختبر السرديات التي دعت نقادا مغاربة إلى جانب فاعلين سياسيين من أمثال محمد الساسي وحسن طارق إلى قراءة روايات مغربية لمحمد برادة وأحمد المديني والميلودي شغموم وشعيب حليفي اتخذت من تجربة التناوب التوافقي التي عاشها المغرب مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي موضوعاً لها. دون أن ننسى معرض الكتاب البديل الذي تشرف عليه الجمعية البيضاوية للكتبيّين وتحتضنه ساحة السراغنة في درب السلطان، أي في العمق الشعبي للدار البيضاء، وتتواصل فعالياته لثلاثة أسابيع ابتداءً من فاتح أبريل بمشاركة نخبة مهمة من الأدباء والمثقفين والناشرين المغاربة المستقلين أو المحسوبين على تيار الممانعة.
هل هذا كلُّ شيء؟ هناك أيضاً العديد من المواد الفكرية ومقالات الرأي التي ينشرها الأدباء والمثقفون المغاربة يومياً في الجرائد الوطنية مساهمةً منهم في النقاش العمومي الساخن الذي تحتضنه صحافتنا هذه الأيام. ثم هناك مبادرات أخرى متفرّقة، ذات طابع محلي ونقاشات ضيقة ومعزولة لكنها ممتدّة على طول خارطة هذا الوطن، من الصعب الإحاطة بها في هذه الورقة. فالأمر لا يتعلق هنا بتقرير نهائي ولا بجرد شامل، وإنما هي محاولة لرصد بعض أوجه الحراك التي يعتمل في المشهد الثقافي الوطني ومن المهم الاعتراف به ووضعه في سياقه، باعتباره دينامية إيجابية انطلقت قبل ثورة تونس ومازالت متواصلة حتى اليوم أي بعد 20 مارس، وذلك قبل أن نُسائل مدى تفاعله مع الحراك السياسي والاجتماعي العام الذي تعرفه بلادنا ومعها كلّ العالم العربي؟
* * * *
إن استعراض بعض ملامح الدينامية التي تعرفها الساحة الثقافية في الآونة الأخيرة لا يعكس تمام الرضا عن أداء المثقفين المغاربة بقدر ما يرمي إلى التخفيف من غلواء الخطاب الصحفي المُتحامِل الذي يَبْخَس المثقف حقّه ويتجاهل فعله ويقدمه إلى القراء كما لو كان في حالة استقالة وشرود. والحال أن العديد من المثقفين المغاربة خرجوا في المسيرات الأخيرة واشتبكوا مع أسئلة المرحلة كأفراد وكمواطنين عبر الفايسبوك وغيره من المواقع الاجتماعية. لكن النخبة المثقفة على كلّ حال ليست كبعض مكونات الطبقة السياسية والحزبية التي تحفّظت في البداية على حركة 20 فبراير ومبادراتها ومسيراتها وصادرت حقها المشروع في الاحتجاج السلمي قبل أن تعود لإنتاج خطابات تتماهى مع مطالبها خصوصاً بعدما تفاعل معها خطاب 9 مارس بإيجابية. دون أن ننسى بعض الصحف التي قالت في الحركة ما لم يقله مالك في الخمر قبل أن تغيّر مواقفها جذرياً، بكلّ براغماتية ميركانتيلية، بعدما لمسته من تجذّر الحركة الشابة وتأثيرها المتزايد في أوساط المغاربة الذين تمالئهم هذه الجرائد باعتبارهم قرّاء، أي زبائن بالأساس، فيما تختزلهم بعض الأحزاب إلى مجرّد حطبٍ لنار الانتخابات. مبدئيا على الأقل يبقى المثقف بعيداً عن حسابات الربح والخسارة بهذا الشكل الفجّ الذي ينظر به السياسي الانتهازي والصحافي الفهلوي إلى الأمور. هذا دون الحديث عن بعض رجال الأعمال الذين، بسبب الجبن الفطري لرأس المال الذي يهمّهم أكثر من غيره، وجدوا أنفسهم يهربون إلى الأمام إلى درجة أن بعضهم فاجأ الجميع بتصدُّرِه لمسيرة 20 فبراير. المثقف الحرّ المستقل ليس معنيا بهكذا حسابات. وهذه في حدّ ذاتها حصانةٌ يتوفّر عليها ويجب أن يُحسِن استغلالها. فوضعُه الهامشي والمسافة التي تفصله عن الحدث، في سخونته واشتعاله، تجعله مطالباً أكثر من غيره بالتأمل في الأحداث ومصاحبتها بحسٍّ نقدي. المثقف الذي نطمح إليه ليس مطالباً بأن "يتبع جيلالة بالنّافخ" كما هو الحال بالنسبة لمثقف "غُزَيَّة" كما يسميه الباحث الفلسطيني خالد الحروب. المثقف الذي يردّد مع دريد بن الصّمة: "وما أنا إلا من غُزَيَّة إن غوَتْ غويتُ وإن ترشُد غزيَّةُ أرشُدِ". فبقدر ما يُطلب من المثقف أخذ المسافة الكافية من النظام ليحافظ على حريته واستقلاليته، عليه أيضا ألاَّ يساير المنطق العام ويدغدغ مشاعر الأمة باسم "العضوية" والالتحام بالجماهير. لذا يصير الدور النقدي في صلب وظيفته، بل والمصدر الحقيقي لتأثيره في المجتمع وفي النخب السياسية والإعلامية التي يتفاعل معها وتتصادى معه.
هناك تحوّلات إيجابية تحصل اليوم. ولدينا ربيع ديمقراطي حقيقي يجب المساهمة في دعمِه بالتأطير وصيانته بإعمال التفكير النقدي في ديناميته. وإذا كانت الجماهير سعيدة بالشعارات التي ترفعها حركة 20 فبراير، فإن على المثقف مساءلةُ هذه الشعارات، نخلُها، تفكُيكها والاشتباك النقدي معها. ثمّ إن العبرة ليست بالشعارات، وإلاّ فالدولة المغربية ترفع رسمياً منذ عقد من الزمان شعار "من أجل مغرب ديمقراطي حداثي" الذي نطمح إليه جميعاً ويصلح عنواناً مناسباً لدينامية 20 فبراير ذاتها. لكن الشعارات وحدها لا تكفي. وإذا كانت بعض الخطابات تختزل هذه الحركة في "هبَّة شبابية عابرة تحاول استنساخ مثيلاتها في تونس ومصر مع أن المغرب ليس هو تونس ولا مصر"، فإن على المثقف تفكيك هذه الخطابات الاختزالية والتعاطي مع حركة 20 فبراير كأفقٍ حرّ، مع التفكير في الشرط الذي أنتجها والسيرورة التي أنجبتها وتحليل سياقها السياسي والسوسيوثقافي وطبيعتها الاحتجاجية والموقع الفعلي الذي تحتلّه في صيرورة النضال الديمقراطي في المغرب ومدى تفاعلها مع الأحزاب الديمقراطية والحركة النقابية والحقوقية الوطنية وكيف استفادت من دينامية المجتمع المدني وكذا الدور الحاسم الذي يمكنها أن تلعبه في مسار تجديد النّخب في بلادنا.
أيضاً، هل يكفي الاحتجاج وحده لخلق الحدث النضالي في غياب عمقٍ إيديولوجي وتأطيرٍ سياسي لا غنى عنهما لإنجاح أيّ تحوّل مجتمعي؟ إذن ما هو الموقع الحقيقي الذي تحتله الإيديولوجيا في هذا الحراك؟ وهل يمكن للحركة أن تواصل خطوها الحازم باتجاه مستقبل حداثي ديمقراطي فيما هي محاطة بإيديولوجيات لا تشاركها في العمق نفس الأفق؟ إذ ما الذي يجمع حركة شبابية حرّة عصرية مع توجُّهٍ يرفع شعار "الخلافة أو الطوفان" وآخر ما زال يحنّ إلى نموذج "ديكتاتورية البروليتاريا"؟ ومن جهة أخرى، هل يكفي الانتماء إلى فئة عمرية لإعطاء هذه الحركة معناها غير الإيديولوجي؟ أليست "الإيديولوجيا الشبابوية" التي يريد البعض التّرويج لها هذه الأيام مجرّد محاولة مرتبكة للالتفاف على أزمة غياب المعنى وتفادي طرح سؤال الوضوح الفكري والإيديولوجي اللازم لكلّ حركة لها مشروعٌ متجذّر في الساحة ممتدٌّ في المستقبل؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن يتصدّى لها المثقفون المغاربة اليوم من موقع الدّعم النقدي لحركة 20 فبراير. فمساندة المثقفين للحركة لن يتحقّق بترديد شعاراتها هكذا بِببّغائية، بل بالذهاب أبعد من الشعار إلى طرح سؤال المعنى والرؤية والخلفية والأفق لمساندة هذه الدينامية في بلورة مشروعها الذي ما زال قيد التشكّل، وهو مشروعٌ من الصعب المراهنة فقط على الغضب والاحتجاج والعنفوان الشبابي والشعارات النارية لبلورته؟ إنّ دينامية 20 فبراير الاحتجاجية الشابة في أحد أبعادها الأساسية جزءٌ لا يتجزّأ من التحوّلات التي طالت منظومة القيم لدى المغاربة؟ فمَنْ غيرُ المثقف والسوسيولوجي مثلاً يمكنهما رصد هذه التحوّلات وفهم محدّداتها الاجتماعية والثقافية وفهم طريقة تفاعل الحركة معها وأسلوبها في التعبير عنها؟ أما المقاربة الأمنية السطحية فنحن نرى كيف أنها لم تتردّد في إشهار ورقة "العدل والإحسان" بشكلٍ يخدم بمجانية هذا التيار الإسلامي مع العلم أن مجرى كل ما يحصل اليوم ينساب -ويجب أن ينساب- بعيداً عن البِركة التي يريد العدليون، وكذا الأمنيون الذين يشاطرونهم اللعبة، حصر هذه الفورة الشبابية داخلها؟
إن النقاش العمومي الذي فتحه خطاب 9 مارس، كأرضية جدّية ذات سقفٍ مفتوح، بخصوص تعديل الدستور المغربي له عمق ثقافي هو الآخر. فدسترة الأمازيغية مثلاً مطلب ثقافي وطني استعجالي. مع العلم أن هذا المقترح جعل بعض الأطراف تطالب بدسترة المكوّن الأندلسي كذلك ولها حيثياتها الثقافية والتاريخية التي تحاول أن تسنُد بها هذا المطلب. طبعاً قد يجد بعض السياسيين ممن يروم حسم النقاش الدستوري بسرعة قياسية في مثل هذه المطالب التي بدأت تتناسل نوعاً من المزايدة، فيما نتصوّر أن إجهاض مثل هذا السجال فيه نوع من المصادرة على المطلوب، وكلّ مساحات النقاش التي تعيد الاعتبار للعمق الثقافي للأشياء هي مكسبٌ لنا جميعاً. فالهوية المغربية غنية والمفروض أنّ الغنى يُحصِّنها فيما تُفقِرها كلّ محاولات اختزال شخصية المغربي في عنصر هوياتي واحد مهما بدا للمتعصّبين له أساسياً. أيضاً الخريطة الجهوية الجديدة التي تمَّ اقتراحُها يجب أن تُفتح بدورها للنقاش الثقافي. فمن حق المثقفين المغاربة، وربما من واجبهم، أن يسائلوا مدى مراعاة هذه الخريطة للمعايير الثقافية والاعتبارات التاريخية، على أساس أن الهواجس الأمنية والإدارية بل وحتى الاستراتيجيات التنموية لا ينبغي أن تتحكّم وحدها في صنع مغرب المستقبل بمعزل عن الثقافة التي يبقى دورُها محورياً في تشكيل عناصر الهوية والانتماء؟
الأسئلة كثيرةٌ متلاحقة. والإنصاف يقتضي منا التنويه بنجاح الصحافة الوطنية حتى الآن في احتضان هذه الأسئلة والنقاشات المرتبطة بها وكذا في استضافة المثقفين من مختلف الأصناف: خبراء، فقهاء، أدباء، باحثين في القانون والعلوم الإنسانية، فاعلين ثقافيين وجمعويين، وغيرهم. لكن في ظلِّ غياب تقاليد القراءة في المجتمع المغربي ومحدودية رواج الصحف في بلادنا، يجب أن يتدخّل الإعلام السمعي البصري لاستيعاب هذه الدينامية ومضاعفة مساحات الحوار الثقافي والفكري، وليس السياسي فقط، لكي نحقّق النقلة المرجوّة والمصاحَبة الضرورية للحراك الاجتماعي والسياسي الحالي، وهو حراكٌ ليس من الحكمة تجاهُلُه أو التقليل من شأنه. فإما إن يتحمّل الإعلام العمومي مسؤوليته في المواكبة واحتضان النقاش الحالي ليضطلع بدوره كشريك للدولة والمجتمع، وإلا فسيجد صعوبةً في تبرير وظيفته كمؤسسة المفروض أنها تقدّم خدمة عمومية للمجتمع المغربي.
وحتى الفضائيات العربية المتحفّظِ عليها رسمياً بقيَتْ، لحدِّ الآن، خارج كلِّ هذا السجال ليس تعفّفاً ولا تواطؤاً مع السلطات المغربية. ولكن نجاح لحظة 20 مارس جعلها تكتشف مغرباً لن نجازف بوصفه بالاستثنائي، لكن ديناميته الحالية في جميع الأحوال لا توفّر المادّة التي تطلبها هذه الفضائيات: صور الفوضى والتخريب والاشتباكات في الشوارع والاصطدامات الدامية ومشاهد القتل والدمار. فالحالات المسيئة للمغرب وللأفق الذي يمضي إليه المغاربة، وعلى رأسها التدخّل الأمني العنيف ليوم 13 مارس، لا تزال معزولةً لحدِّ الآن. ولأن هذه الفضائيات ليست معنية كثيراً، في سياستها التحريرية، بالجدل الفقهي الدستوري ولا بالحوار السياسي الرصين فإنها لم تتجاوب مع اللحظة المغربية. وهذا يعطي فرصةً ذهبيةً لإعلامنا العمومي لملء الفراغ ولعب دوره كاملاً. فحتى الآن لا أحد يشوِّش على القنوات المغربية. إنها لوحدها في الساحة الفضائية، فهل تنجح في الاستجابة لحاجة المجتمع الاستعجالية إلى جدلٍ سياسي ونقاشٍ ثقافي وحوارٍ فكريٍّ حرٍّ ومفتوحٍ على المستقبل؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.