1 - صعوبة الفصل العملي بين المحورين وان أمكن الفصل المنهجي بينهما اعتبارا لتداخل الإشكالات، ولكون أهم القضايا ونقاط الاهتمام التي نصادفها في المحور الأول تتصل مباشرة وتحيل على قضايا المحور الثاني. 2 - إن الحقل الثقافي في بلادنا هو حديث العهد بهذا النوع من التساؤلات والمساءلات التي تتصل بالوضع الاعتباري للمثقفين، مقارنة مع غيرنا- كما سأوضح فيما بعد- وذلك عكس ما قد يستنتج من ظواهر الأشياء من قبيل الندوات المتعددة التي لا مست الموضوع. 3 - في ارتباط مع هذين المقتضيين، اعتبر أن المقاربة التساؤلية- والتفكيكية حتى- هي افيد وأكثر اجرائية من تلك المقاربات التي تختار التشخيصات المطمئنة إلى منطلقاتها والتي تطل منها الخلاصات النهائية، بنبرة قطعية منذ الفقرات الأولى للتحليل والرصد والمعالجة. تأسيسا على ذلك, فإن ما يمكن ان نقدمه من استخلاصات أولية بخصوص هذين المحورين سيكون بالضرورة محدودا ومحددا بزاوية النظر التي قد نختار مقاربة الموضوع من خلالها، وأشير هنا، من باب التوضيح ان زاوية النظر التي انطلق منها في مقاربة هذين المحورين تتأسس على قراءة في العلاقة المركبة- في ظروف مغرب اليوم- بين الثقافة كعالم داخلي يحيل الى الذوات الداخلية للمثقفين بما هم منتجون للقيم، والعالم الواسع للمجتمع الذي يتواجدون به. في هذا الإطار ثلاثة قضايا تبدو جديرة بالمناقشة في الظرف الراهن أولا : المثقف الملتزم والمثقف الإعلامي وما بينهما : إذا تركنا جانبا المراحل السابقة (القرن التاسع عشر مثلا) التي هيمن فيها صنف معين من المثقف (الفقيه والعالم) حيث كان الوجهان رمزا للمعرفة وضميرا للوعي الجمعي، وانتقلنا الى مرحلة ما بعد الاستقلال، فإنه يمكن التأكيد أن هناك أربعة أصناف، أو على الأصح أربعة Postures تواجدت في الحقل الثقافي في بلادنا، تساكنت أحيانا، تقاطعت أحيانا أخرى، تلاقحت مرات وتصادمت مرات عديدة : -صنف المثقف الملتزم بالمعنى الذي كان قد تحدث عنه اميل زولا. أي التزام عام بقيم مرجعية أساسية تجعل المثقف ضمير زمانه حتى بدون حركية ميدانية يومية. -صنف المثقف العضوي بالمفهوم الكرامشي، الذي يضيف في صفته الى جانب خاصية الالتزام، خاصية الارتباط المباشر بقضايا الجماهير مع ربط هذا الالتزام في الغالب باختبار مذهبي. -نموذج المثقف بالمثقف الباحث الاكاديمي الساعي وراء صفاء «الموضوعية» و»الحياد الاديولوجي»، بما يعنيه ذلك او يتطلبه من مساحة مع المعترك السياسي والحراك الاجتماعي في تشكلاته اليومية. -نموذج المثقف الاعلامي، وهو صنف المثقف الذي بدأ يطل بقوة ابتداء من التسعينات من القرن الذي ودعناه، متأثرا ب ومستفيدا من وسائط الاتصال العصرية، وخاصة القنوات الاعلامية Intellectuel mediatique ولعل الخاصية الاساسية التي تميز هذا الصنف من المثقفين هو الرغبة والسعي الى اقلمة الخطاب الثقافي والمعرفي بمنطق الميديالوجيا بحسب تعبير ريجيس روبريه، اي جعله قابلا للتصريف وفق اجندة الزمن الاعلامي. وكان ادوارد سعيد قد اشار الى الفخاخ التي يمكن ان تنصبها الميديالوجيا في وجه الدقة والموضوعية والمعرفة، حينما ذكر كيف انه كان يطلب منه ان يتحدث في بعض القنوات الاعلامية، مثلا عن جدور ازمة الخليج والشرق الاوسط في 4 دقائق على هامش نشرات الاخبار. وبالطبع فإن الحدود بين الاصناف المذكورة ليست جدارات غير قابلة للعبور، فعندنا كما عند غيرنا سواء في البلدان العربية او في الاقطار الغربية وقفنا على حركية صنف آخر تتقاطع في ذاته، وبشكل منسجم، ملامح المثقف الملتزم او حتى العضوي وخاصيات استعدادات المثقف الاكاديمي الحريص على صفاء الموضوعية. مثال محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي يجسدان هذه الامكانية التي تلتقي فيها احترام متطلبات الحفريات المعرفية بالارتباط بنسق قيم الحداثة والعقلانية والتقدم. بعد هذا التحديد يمكن ان نطرح سؤالين : أ-لماذا أحسسنا بفداحة الخسارة (فداحة ما نحن مقبلون عليه بتعبير الأستاذ برادة في الورقة التقديمية) ونحن نرى ان الارض تفلت تدريجيا من تحت ارجل صنف المثقف الملتزم، مقلصة من نفوذه العام لحساب صنف المثقف الاعلامي الباحث عن تكييف العرض الاعلامي وفق اجندة الميديالوجيا؟ وبكل تبعات ذلك في المقام الاول على علاقة السياسي بالثقافي، او علاقة العوالم الداخلية للمثقفين والعالم الواسع للمجتمع الذي يحتضنهم كنخبة؟ ب-كيف نفسر هذا الانحسار، وما هي الدينامية التي قادت اليه؟ وأجازف جوابا على السؤال الاول بتقديم عناصر الاجابة التالية : ضمن التقاليد الثقافية العالمية، ظلت النظرة الى دور المثقف وموقعه وعلاقته بالمجتمع وبالقضايا العامة وبالسياسة محكومة بالتقليد الفرنسي الذي يحتل فيه المثقف دورا محوريا، دور الموجة المؤطر Eveilleur de conscience منتج القيم، المرشد، وبمعنى ما دور «الفقيه العصري» نموذج فوكو وسارتر وبورديو وآخرون. ومؤدى هذا الدور او هذا الموقع ان للمثقف سياسيا ميزة فوق ميزة المتوسط العام للناس. في التقليد الانكلوسكسوني والجرماني مثلا، ورغم اهمية الدور الذي يضطلع به المثقفون ضمن المؤسسة الاكاديمية والاعلامية وكخبراء في المجال السياسي, فان الفهم العام السائد لدورهم لا يجعلهم سياسيا ذوو صلاحيات او قدرات capabilities او حقوق أو تطلعات فوق المتوسط العام وهكذا مثلا فان مجلة new left review في بريطانيا بقيت طيلة عقود اطارا يجمع اصوات المثقفين والجامعيين ولم يكن لها ذاك الطموح الذي كان لمنشطي المجلة الفرنسية les temps modernes. ولذلك ففي المغرب حينما ضعف الموقف السياسي الريادي للمثقفين أحسسنا تلقائيا بفداحة الخسارة، وبنوع من الخواء الوجودي الذي كان من نتائجه المرور من النقيض الى النقيض اي من موقع المثقف موقد الضمائر الى موقع المثقف المنكفئ على الذات الصغيرة وسراديبها الداخلية . وجوابا عن السؤال الثاني اية دينامية قادت الى هذا التطور الارتدادي ?حتى لا نقول الانتكاسي- أجازف مرة اخرى بتقديم عناصر الاجابة رافعا في البداية سوء فهم مشاع والتباسا يلف الموضوع : عادة ما نربط الانزواء، انزواء المثقفين او صمتهم او انزياحهم عن مواقعهم التقليدية باطروحة نهاية الاديولوجيات او ما سمي في كتابات معينة بنهاية الحكايات الكبرى. وعادة ما يقال بان بلد التقليد الثقافي (فرنسا) الذي اثر في حقلنا نحن عرف نفس الظاهرة لكن الوقائع لا تؤكد ذلك ففي ذلك البلد تبين المعطيات الثقافية الملموسة وفي مقدمتها الانتاج الثقافي، ان جموع المثقفين الملتزمين والعضويين السابقين ( من مرحلة السبعينات والثمانينات) انتقلوا من مجال النقد السياسي والاجتماعي المباشر الى مجال التفكيك المابعد البنيوي ذي النفحة التساؤلية ومن الالتزام المباشر على النمط العضوي الى العودة شيئا ما الى الالتزام العام بالشكل الذي كان قد حدده اميل زولا. وهكذا ففي نفس الفترة التي جرى فيها الحديث مثلا عن نهاية الحكايات الكبرى شهدنا ميلاد منابر التف حولها المثقفون ناحتين اشكالا متجددة من الالتزام الجماعي بقضايا عامة لكن بمضمون تساؤلي تفكيكي، وفي كل الاحوال بنفحة غير تبشيرية او قطعية، نموذج مجلات le debat . esprit commentaire. غاب سارتر ولكن حضر بورديو بقوة. تقلص نفوذ مجلة الازمنة الحديثة وتنامى تاثير المجلات الثلاثة المذكورة كاطارات جديدة تذكي النقاش العام في مستويات جد متقدمة. عندنا غابت لا مليف والثقافة الجديدة و questions économiques et sociales والمشروع، والجسور وعوضتها عناوين تحيل فيما تحمله من مضامين اكثر فاكثر الى العوالم الداخلية للمنتجين الثقافيين, فكان ذلك الانزياح الكبير ووجدنا في صفوفنا من يبشر بان هذا الانزياح هو الاسم الجديد للالتزام في الزمن الجديد New age. ثانيا : من المثقف منتج القيم إلى المثقف الخبير بموازاة مع التطورات التي اشرنا اليها وفي اطار الانزياحات شهدنا في الحقل الثقافي المغربي ابتداء من بداية التسعينات من القرن الماضي ? ولكن المسالة تأكدت بشكل كبير 10 سنوات بعد ذلك- خروج جزء كبير من مكونات الحقل الثقافي كما عهدناه من موقع إنتاج القيم ( ولا فقول الالتزام السياسي بحصر المعنى) إلى موقع إنتاج الخبرة لطالبيها من المؤسسات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والمالية والإعلامية. وبالطبع ورفعا لكل الالتباس، فان إنتاج الخبرة بهذا الشكل قد لا يكون اشكالا في حد ذاته، ولكنه يتحول الى اشكال حقيقي حينما يصبح هو الوظيفة الاساسية والنمطية للمثقفين، واكثر من ذلك يصبح المثقف يحدد دوره المجتمعي على هذا الاساس. المبرراث التي قدمت لهذا التحول كثيرة ?أغلبها دارت حول أسباب ترتبط بالوضع الاقتصادي المادي للمنتجين الثقافيين حيث قيل مثلا ان قوانين السوق لا حقت المثقفين بدورهم كما لا حقت فئآت اجتماعية أخرى من قبلهم، وقفت التحليلات عند هذا المستوى لم تتجاوزه. وخلال هذا المد حصل تعاضد بين صنف المثقف الاعلامي وصنف المثقف مقدم الخبرة يحيل احدهما الى الاخر ويستدعيه في تبادل دوري للادوار والمواقع. ثالثا : الثقافة والسياسة : ازمة الثقافي ام انفصال السياسي. نريد ضمن هذا المنطلق التحليلي ان نساهم في توضيح بعض الاشكالات المرتبطة بانحصار دور المثقفين وانزياحهم عن مواقفهم السابقة، مع التركيز على ما هو بنيوي في الموضوع، وننطلق في هذا الصدد من طبيعة الدينامية التي تتحكم منذ عقدين من الزمن على الاقل في انتاج التنافر بين الثقافة والسياسة، بين الثقافي والسياسي. هذه الدينامية تكشف عن نفسها في شكل مفارقة يتعين ان تقف عليها تحليلا ورصدا قبل ان نفكر في امكانية تجاوزها باتجاه علاقة اسلم وانجح بين السياسي والثقافي. وبيان ذلك، في تقديرنا كما يلي : بقدر ما تنحو التطورات السياسية في بلادنا الى المؤسسة، معبرا عنها من خلال المؤسسات السياسية (برلمان، لجان ومجالس، انتخابات، وتتوسع الطبقة السياسية او النخبة أو على العاملون في الحقل السياسي personnel politique، بقدر ما يقع انفصال الممارسة السياسية عن اطارها المرجعي، ومستنبتاته الفكرية والاديولوجية ( بالمعنى الايجابي وليس بمعنى الوعي الزائف) تصير ممارسة ادارية مستغنية عن مجال القيم الموجهة. تتخصص وتنعزل عن المجال الثقافي وعالمه ورجالاته، وتدريجيا يحصل نوع من الاغتراب بين عالم الثقافة، بما هي انتاج للقيم وعالم السياسة بما هي توجيه للمسلكيات الفردية والجماعية. وتحضرني بهذا الخصوص واقعة حقيقية تؤشر عل هذه المفارقة او هذه الدينامية المطبوعة بالمفارقة : الواقعة ترتبط بتجربة احد الاصدقاء المثقفين الذي شارك في احدى الانتخابات الجماعية انتخب. واصبح عضوا في احد المجالس البلدية في مدينة كبيرة. عضويته في المكتب كانت تسمح له بالطبع بالمشاركة في اجتماعات مكتب المجلس. وحينما كان يقع التداول في نقط جدول الاعمال وكانت تطرح بعض المشاريع كان يدلي برأيه ويطرح اسئلة ومواقف تحيل مثلا الى الاطار الاجتماعي العام او المبدئي الذي تنتظم المشاريع في سياقه وكان يحصل ان ينتقد بعض الرؤى التقنية لأعضاء المكتب فيقول مثلا منتقدا تلك الرؤى : انها رؤى اقتصادوية تقنوية، غير مستحضرة للبعد الاجتماعي والقيمي. يحكي هذا الصديق ان رئيس المجلس وبعض اعضاء المكتب كانوا يقاطعونه ويردون عليه «كفا من الفلسفة نحن في مجال التسيير» بعد شهور عانى خلالها هذا الصديق المثقف الامرين كنا قد التقيناه بمناسبة انعقاد ندوة ثقافية وسألناه هل لا زالوا يطلبون منك الابتعاد عن الفلسفة باسم الفعالية التسييرية, اذكر انه كان قد اجابنا ضاحكا «لا، الامر اليوم اخطر انهم يطلبون مني عدم الخوض في السياسة ما دمنا في مجال التسيير». هي واقعة معبرة عما اود الاشارة اليه هنا : انفصال الممارسة السياسية عن اطارها المرجعي/ الثقافي/ القيمي قد يقود الى التبرم من الفلسفة في بداية الامر ليصل الى التبرم من السياسة ذاتها في مرحلة لاحقة. انطلاقا من ذلك يبدو لي ان ازمة الثقافي هي بشكل ما ومن مناح متعددة الوجه الاخر لازمة الممارسة السياسية وان تصحيح الوضع الثقافي والوضع الاعتباري للمنتجين الثقافيين لا يمكن ان ينفصلا عن الاقرار مجددا بالضرورة الاستراتيجية لحضور الثقافة قيما وأفقا ومرجعيات في اية ممارسة مجتمعية. وتلك هي مسؤولية المثقفين في الماضي كما في الحاضر. *[ ورقة قدمت في اللقاء الثاني لحوار الثقافة المغربية الرباط 26 مارس 2011]