الأصل في البيعة أنها التزام متبادل بين الحاكم والمحكوم، ناشئ عن إرادة حرة واعية باختياراتها، ولا معنى للبيعة إذا لم يتحقق هذا البعد التشاركي في الحكم . غير أن الممارسة التاريخية لمفهوم البيعة أسقطت هذا البعد التشاركي، وأصبحت البيعة في الأعراف السلطانية قراراً فردياً يفرضه مالك السلطة، والمتصرف فيها بقوة الإكراه، ولذلك قال ابن خلدون: "إن الإكراه في البيعة كان أكثر وأغلب". ومع ذلك ظلت البيعة كتقليد سياسي، حاضرة في الممارسة التاريخية لسلاطين المغرب، وشكلت مصدر مشروعية الحاكمين، بالرغم من أنها كانت تتخذ في أغلب الأحيان طابعاً صورياً مجرداً من صفته التعاقدية الفعلية . وقد فهم علماء المغرب في بداية القرن العشرين أن مسؤوليتهم تكمن في تدقيق مضمون البيعة والعمل على تطوير صياغتها لتستجيب لمواصفات العقد المكتوب الذي يفرض التزامات على الحاكم مقابل الطاعة من قبل المحكومين. وقد شكلت البيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ التي كتبت بفاس قبل معاهدة الحماية ميثاقاً دستورياً مهماً، إلى حد أنه لو لم يحصل نظام الحماية لربما تطور هذا النوع من البيعة تطوراً طبيعياً إلى دستور مكتوب في الشكل الحديث كما ذهب إلى ذلك عبد الله العروي. ومن المؤكد أن هنالك علاقة واضحة بين تلك النخبة المثقفة التي تحملت المسؤولية في تحرير البيعة المشروطة للسلطان المولى عبد الحفيظ وبين محرري مشروع دستور 1908 الذين صاغوا مشروعاً دستورياً يتلمس معالم النظام البرلماني في المغرب ويحد من السلطة المطلقة للملك. ولذلك فإن أفق التنظيم الدستوري الذي كان تطمح النخبة العالمة إلى تحقيقه في تلك المرحلة كان يتجه نحو ملكية دستورية ذات طبيعة برلمانية، ويظهر ذلك جلياً من خلال اختصاصات منتدى الشورى ودوره في تنصيب الحكومة. البعض يعتقد اليوم أن البيعة فوق الدستور ويريد أن يعود بنا إلى الوراء، والصواب أن البيعة ليست فوق الدستور ولا تحته، وإنما هي الدستور نفسه. فقد اقتضى تطور التنظيمات السياسية الحديثة والانتقال من محورية الفرد الحاكم إلى نظام المؤسسات، أن يتم تطوير التعاقد السياسي الذي يربط الحاكمين بالمحكومين في شكل وثيقة قانونية تكتسب صفة السمو بعد قبولها من طرف المواطنين في استفتاء شعبي ديموقراطي. غير أن الحسن الثاني رحمه الله نجح في رسم أسلوب في الحكم يعتمد على التوظيف المكثف لمفهوم البيعة ولمفهوم إمارة المؤمنين، وجعل لهما الأسبقية على النص الدستوري، وذلك في سياق الصراع مع المعارضة اليسارية في السابق. أما مفهوم أمير المؤمنين الذي استقر في الدستور المغربي منذ 1962، فلم يقصد منه تمكين رئيس الدولة (الملك) من سلطات خارقة تستمد عظمتها من "التفويض الإلهي"، بقدر ما كان إقحام "أمير المؤمنين" في الدستور تأكيداً على إسلامية الدولة، وعلى ضرورة التزام الملك بصفته "أميراً للمؤمنين" ، بحراسة الدين وحماية مصالح المسلمين. ونعتقد أن كلا من علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب رحمهما الله كانا على علم بأن صفة "أمير المؤمنين" هي عبارة عن لقب تاريخي، وليس من شأن هذا اللقب الذي ظهر في مرحلة حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يضفي على قرارات رئيس الدولة أي نوع من القداسة أو تمكينه من سلطات إضافية كما حصل فيما بعد، ولم يكن ينظر إليه سوى كلقب تشريفي يرمي إلى التذكير بالطابع الإسلامي للمغرب وللمؤسسات التي تحكمه. غير أن الأمور تطورت فيما بعد وأصبح هذا المفهوم يشكل أساساً لتجاوز باقي المؤسسات من حكومة وبرلمان، وتم توظيف الفصل 19 من الدستور السابق ل"الترامي" على اختصاصات الحكومة والبرلمان. وقد جرى استخدامه بشكل أكثر كثافة في عهد الملك محمد السادس. البعض يتحدث عن مفهوم البيعة اليوم ويشحنها بالكثير من المعاني الدينية التي تجعلها أقرب إلى النظام الثيوقراطي، والثيوقراطية هي ادعاء الحكم باسم تفويض إلهي.. تاريخيا كانت أسوء أنواع الحكم هي التي تمارس الاستبداد باسم الدين أو القداسة أو ادعاء احتكار الفهم الصحيح للدين، والتاريخ الإسلامي مليء بنماذج عديدة تصب في هذا الاتجاه كانت من نتاج هذا التماهي بين "الديني" و"السياسي" سواء في السلطة أو في المعارضة، وهو ما جعل كل فريق يمارس عملية تنظير شرعي وحشد للنصوص لإثبات صحة الموقف السياسي و"لا شرعية" موقف الآخر المخالف. الأمر الذي أدى إلى نشوء مذاهب وعقائد واتجاهات فكرية وفلسفية كان الدافع السياسي عاملاً مهماً في نشوئها وتكونها. فى تاريخ المسلمين كان هناك من الساسة من صور كل قرار يتخذه وكأنه إعمال لإرادة الله النافذة التي لا تجوز مخالفتها وهو ما بدأ شيوعه مع حكم معاوية بن أبى سفيان (رضى الله عنه) ومن ذلك قول واليه على البصرة زياد بن أبيه حين خطب فى أهلها: "أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطانا، ونذود عنكم بفىء الله الذى خولنا". إذن هناك مخزون تاريخي لا يبعث على الاطمئنان و من المشروع جدا أن تثير قضية العلاقة بين الدين والدولة تخوفات حقيقية لدى جميع الديموقراطيين من جميع المشارب والاتجاهات. اليوم وقع تطور كبير، وانطلقت الموجة الديمقراطية الرابعة في العالم العربي، واشتعلت ثورات واحتجاجات في الساحات العامة للمطالبة بالديموقراطية الحقيقية التي تتنافس في إطارها الأحزاب السياسية من أجل الحصول على سلطة حقيقية تمكنها من تدبير الشأن العام انطلاقاً من الاختيارات والمشاريع المجتمعية التي ارتضاها المواطنون في انتخابات حرة ونزيهة، وهنا بالضبط تكمن وظيفة الملك الأساسية، وهي حماية قواعد التنافس السياسي والاحتفاظ بموقع التحكيم في لحظات الخلاف الكبرى، والنأي عن التدخل في التدبير اليومي للسياسة، الذي يتطلب - بطبيعته- المراقبة والمساءلة والمحاسبة..وفسح المجال أمام باقي المؤسسات لتقوم بأدوارها كاملة. هذا هو سر نجاح الأنظمة الملكية في أوربا وسر استمرارها، وهو أمل الشعوب التي تطالب بالديموقراطية الكاملة اليوم.. فهل نأخذ العبرة؟