ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الريف والقصر: من يتآمر ضد من؟
نشر في لكم يوم 24 - 08 - 2012

هذا النص السجالي كتب قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عرفها المغرب، وترددت في دفعه للنشر تفاديا لأي تأويل قد يجعله يصب في مصلحة خصوم مفترضين للأشخاص الذين ذكرتهم بالاسم في سياق مناقشة بعض"الكلام"الذي صدر عنهم قبل العملية الانتخابية بخصوص الريف ومستقبله السياسي وعلاقته بالملكية، ومنهم مرشح عن الأصالة والمعاصرة فاز في النهاية كما كان متوقعا بمعقد بمجلس النواب(محمد بودرا)، وهو الأكثر استهلاكا لخطاب المؤامرة الذي يروج في المنطقة لدى ثلة من المقربين من دوائر القرار المحلي والوطني. والآن لا بأس من إخراج ما كتبت إلى النشر تعميما للفائدة إن كان ثمة فائدة يرتئيها القارئ فيما تكلمت وخضت، خاصة وأن برلماني "البام"المشار إليه عاد مرة كثيرة لنفس الحكاية في حوار سابق مع مواقع إلكتروني محلية، وظهر أيضا رفقة شخص آخر، ناقشته هو أيضا في بعض خرجاته، في شريط مصور أذاعته ذات المواقع، وأنجزه أحدها بمناسبة زيارة طاقمه لمدينة الحسيمة على هامش ذكرى وفاة الزعيم التاريخي للمقاومة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي، ثم أخيرا يطل علينا عبر موقع"لكم"الشهير بحوار ينهل من نفس الأفكار الساذجة والبليدة التي ما فتئ يخرج بها بمناسبة أو بدونها، لكنه هذه المرة تجرأ وهاجم الحركة الاحتجاجية التي شهدها ولا يزال الريف الأوسط، خاصة ببني بوعياش وامزورن والحسيمة، متهما جهات وأحزاب لم يسميها باستغلال أبناء الريف وتسخريهم في معارك لا ناقة ليهم ولا جمل، وأنهم، بتعبيره، يستعملون شباب الريف، الذين صورهم كسذج ومندفعين، "كوقود لنار يتدفئون بها، إما لتصفية حسابات أو لابتزاز الدولة"، مؤكدا أنه بدون الملكية فإن المغاربة سيدخلون في حرب أهلية، وأنه إذا ما اختار المغرب الملكية البرلمانية، فإن سكان الريف سيطالبون بالحكم الذاتي. ويا له من استنتاج عبقري؟
مثل هذا الخطاب الساذج، بما ينطوي عليه من تذلل ورياء وتعلق بالملكية المطلقة غير مسبوق، يعتبر في الواقع أسطوانة مخزنية مشروخة يتوسل بها للتشويش على نضالات الشعب المغربي، وفي مقدمتهم نضال الريفيين في أكثر من مدينة وبلدة وقرية، ومحاولة يائسة أيضا للتضليل واستدرار عطف دوائر القرار، وتعبيد الطريق لنيل "الرضى السامي"، واستباق الزمن بتقديم السيرة لأصحاب الحل والعقد في أفق التحضر لتعيينات جديدة لعل صاحبها يفوز بنصيب منها. وسيجد القارئ الكريم في هذا النص المطول ردا على الأسطورة المخزنية التي يجترها أمثال السيد بودرا في الريف وفي بقية ربوع الوطن، المتمثلة في كون الملكية هي ملاذ المغاربة الوحيد للحفاظ على وحدة وطنهم، ومن ثم الخرافة المترتبة عن استهلاك هذه الأسطورة التي تزعم أن الريف يتعرض لمؤامرة خارجية وداخلية لدفعه للقطيعة مع الملك حسدا وغيرة من قبل أعداء يكنون للريف الكره ويتمنون تهميشه، وغيرها من الأباطيل التي عمد إلى تمريرها برلماني "البام" بلغة تنم عن عقل موغل في الغباء والبلاهة.
وقبل أن ينهي القارئ الصبور الأجزاء الثلاثة لهذا النص، أود أن أذكره بأني سبق وأن نشرت نصا سجاليا "الريف من المجد إلى المسخ:وصل المقال فيما بين الحق والباطل من انفصال": ضمنته بعض الملاحظات في مناقشة ما جاء في رسالة نشرها على موقع"لكم" نائب برلماني سابق من الريف(سعيد شعو)، فيما حاولت فقط تبليغ فكرة واحدة في غاية البساطة، وهي أن الاختباء وراء خطاب بكائي للهوية، والعزف على وتر الانتماء إلى كيان شديد الخصوصية (السوسيو- لسانية والثقافية)، ومتوج بالمجد المستوحى من التاريخ والمفاخرة بالروح الممانعة الكامنة في ثقافة أهله، لا يشفع لأحد زلاته وخطاياه، أو ما تقترفه يده من جرائم وتقع فيه نفسه من أنواع الشرور، فبالأحرى أن يرتفع بكل ذلك إلى مصاف الأبطال والمغاوير. ولم أكن أعني السيد شعو وحده، بل ألمحت في النص عينه إلى من تحاشيت تسميتهم أو اكتفيت بالإيحاء إلى بعض صفاتهم المعروفة في الأوساط العامة. وقد أصر السيد شعو في رسالة موالية على محتوى رسالته الأولى وجدد مرة أخرى اتهامه لجهات أبى تسميتها تقف وراء "محنته الشخصية" دون أن يتشجع على تقديم توضيحات بخصوص الأسئلة التي طرحتها في المقال المشار إليه كغيض من فيض أسئلة يطرحها الشارع في الريف وفي بقية ربوع الوطن.
وفي الواقع لا أحد سيلوم صاحبنا البرلماني الثري من الآن فصاعدا على نهجه ولا على صمته بشأن الاتهامات الشائعة ضده، طالما أن كثيرا مما يشاع حوله ربما يكال أضعافه لأشخاص آخرين يوجدون في مواقع حساسة من الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولكن لا حياة لمن تشكي . غير أن ما في أمر نائبنا المحترم مما يثير الاهتمام ويدفع للنقاش أنه يدفع ببراءته باستدرار العطف على الأصل:فكونه ريفي، فإن ذلك يجعله إما بمنأى عن الشبهات، أو يجعل من أي اتهام أو اشتباه يطاوله مؤامرة ضد الريف بأكمله.
و في الواقع يقدم مثال هذا الشخص نموذجا لممارسات خطابية أضحت شائعة في السنوات الأخيرة بالريف، ووجدت في الفضاء الإلكتروني متسعا لترويج رسالتها الملغزة، وهي ممارسات ترتكز على ترويج تمويهي لخطاب التعلق الجارف بالكيان الإقليمي-السياسي والثقافي للريف عامة، وبالأوسط منه على الخصوص، وبموازاته الخطاب المرتكز على نظرية المؤامرة. والحال أنه مضمون هذا الخطاب ليس بالأمر الغريب عن السلوك النفسي لمعظم الأفراد الذين تشكل وعيهم السياسي بهذه المنطقة، في خضم العقود الخمسة التي تلت الاستقلال الشكلي بالغ الكلفة على مجالها وأهلها، من جهة ما نالته من تهميش واحتقار، وطاولها من ضروب العقاب الانتقامي؛بل إنه يكاد يدخل في التكوين الغالب لشخصية الأغلبية الواسعة من الريفيين، المسيَسن وغير المسيَسن. وتفسير ذلك ربما يبدو للوهلة الأولى في متناول الكثيرين من المهتمين بالريف وتاريخه:الأثر العميق للتجربة التحررية في ذاكرة أجيال متعاقبة من الأجداد والآباء والأبناء وما تختزنه من إنجازات تعد على الصعيد الرمزي مصدر فخر واعتزاز، إنما أيضا جراح العنف الذي لحق بالمنطقة عقب التمرد الشعبي ل58\59 ، وما تلاه من عزلة قسرية وعقاب اقتصادي زادت في قوة الشعور المزدوج بالتفرد من جهة، وبتحمل ثقل النبذ والإقصاء من جهة ثانية.
ولعله نفس الخطاب الذي يتوسله اليوم أخلاط من السياسيين المفلسين، ومن أشباه المثقفين الخائبين أو مجرد مواطنين عاديين ضاقت بهم سبل الحياة، فحولوا انتمائهم للريف إلى ما يشبه سجلا تجاريا مزدوج التوظيف: للتفاخر حينا والبكاء حينا آخرا. يفتخرون ب"ريفيتهم"، و في الآن نفسه يلعنون حظهم العاثر لكون هذه الصفة هي ما يجعل الكل يتآمر ضدهم ويقف في طريق طموحهم للرقي. فثمة مشتركات كثيرة تجمع هؤلاء على اختلاف مزاعمهم السياسية، ورغم الحرب الضروس التي يخوضونها ضد بعضهم البعض في السر والعلن:أنهم جميعا من المولعين بنظرية المؤامرة، ومدينون بولاء هم ووجودهم للملك، ويشتمون أحزابا ويناصرون أحزابا أخرى. ومنطقهم عجيب أيضا:فهم جميعا يثقون في الملك ويضعون أحزابهم في خدمة نظامه، لكنهم يكرهون أحزاب الملك الأخرى التي تشاطرهم الشعور أو الموقف نفسه. وهذا ما نلفيه في الخطابات الإلكترونية التي دأب على تمريرها عدد منهم في السنوات الأخيرة بشكل منتظم حيث الفكرة أو النغمة نفسها تتكرر.
وقد اخترنا ثلاثة أسماء من مروجي هذه الخطابات لرصد وتشريح المشترك بينها في حدود ما يسمح به المقام الإلكتروني، وهم السادة :محمد بودرا منتخب حزب الأصالة والمعاصرة للبرلمان الجديد، الذي يطلع علينا منذ سنة تقريبا بإنشاءات بكائية تتردد فيها أصداء نظرية المؤامرة بصريح العبارات، وعلي الإدريسي "المثقف" الذي عمل بدبلوماسية الحسن الثاني وصار في السنوات الأخيرة يكتب مقالات رديئة تقتسم الكراهية لأحزاب"الحركة الوطنية" وتهيم في حب"الأطر الريفية"بأحزاب الإدارة الصاعدة، وبالخصوص منها حزب صديق الملك، أما الثالث فهو شخص يدعى إلياس بلكا نشر نصا متعالما لكن في غاية الركاكة يسدي فيه "النصح" لأهل الريف لعلهم يهتدون إلى الصراط المستقيم ويسلموا أمرهم للقصر غير نادمين ولا ملومين. فهم جميعا يقفون على نفس الأرضية وينهلون من ثقافة سياسية باهتة فيصلها نظرية المؤامرة والتفرد الريفي المكذوب عليه لأغراض مموهة لكن معلومة .
1- الملك طيب وحاشيته الفاسية فاسدة!
في الجزء الأول من هذا النص سنتوقف مع السيد بودرا، رئيس جهة تازة الحسيمة تاونات الحالي، ومنتخب حزب الأصالة والمعاصرة للانتخابات البرلمانية الأخيرة عن إقليم الحسيمة، الذي طلع علينا بحوار جديد مع موقع "لكم"، وقبلها كان قد خرج بتمارين إنشائية يستعيد فيه نفس الأسطوانة المشروخة لما يتصوره مؤامرة تستهدف الريف، وذلك منذ الخرجة الأولى التي أعقبت الأحداث الدامية التي كانت مسرحها مدينة الحسيمة بعد المسيرة الضخمة التي أعلنت انطلاق حركة 20 فبراير بهذه المدينة ذات التاريخ العريق في الحراك النضالي، وانتهت إلى مقتل خمسة شبان في ظروف تقول عنها عائلاتهم إنها بفعل فاعل، عكس الرواية الرسمية التي أشاعت يومها بالتهام النيران لأجساد هؤلاء الشباب أثناء عملية مداهمة إحدى الفروع البنكية بهدف السرقة، فضلا عن إحراق العديد من المنشآت العامة والممتلكات الخاصة. يومها قيل الكثير عن أطراف مشبوهة دخلت على الخط لأجل تشويه الحركة النضالية الجديدة قبل أن تترسخ في الوجدان وتستحوذ على المشاعر العامة، ويصبح من الصعب محاربتها بسلاح القمع على الطريقة القديمة في ظل زمن "ثوري" جديد ينبأ بالمزيد من الاضطرابات والتقلبات السياسية وتغيير في المزاج الشعبي، وذلك بافتعال مصادمات غير مبررة مع الشرطة وقوات التدخل السريع والهجوم غير المستساغ على منشآت عمومية ما أحرص الفاعلين في الحركة الجديدة على حمايتها وصيانتها، فكيف تسعى إلى إحراقها وإتلاف محتوياتها على نحو يلحق أضرارا بمصالح أوسع المواطنين. وشخصيا لا أشك لحظة في كون ما جرى كان بالفعل من فعل قوى رجعية مناهضة للتغيير، وأن أي تفسير سوسيولوجي للانحرافات التي تتسلط على الحركات الاحتجاجية العفوية بتواجد موسع لفئات غير منضبطة داخلها لا يستقيم مع السياق الجديد التي تبلورت فيه الحركة ولا مع خصوصية المدينة في هذا الجانب بالذات، وهو ما أكدته شهادات كثيرة للعناصر القيادية التي تحملت ونسقت فعاليات المسيرات الشعبية وسط المدينة أو بالمناطق القريبة.
وهكذا عندما بادر السيد بودرا إلى التلويح حينها بتقديم استقالته من منصبه بالجهة، قبل التراجع السريع عنها بتعليلات واهية، وخرج يشكي حاله للعامة ويدفع علنيا بالتفسير أعلاه للأحداث، صدقه الكثيرون في الحال ولو أن كثير منهم لم يشاطروه بقية "الحشو" الذي ضمنه إلى مقاله البكائي من الكلام المعسول عن العطف الملكي على الريف و"النخبة" الريفية التي يحسدها "الفاسيون" ويناصبها العداء الأشباح في وزارات أحزاب معادية للريف وأهله وهلم سفسطة، وهو ما عاد يلوكه من جديد في الحوار الأخير المشار إليه أعلاه. فمن كل تلك البكائية نسي صاحبنا أو تجاهل بالأحرى أمرا واحدا:أن هؤلاء الذين هاجمهم ولا يزال بجرأة غير معهودة فيه، وهو المسالم الوديع، هم جميعا بلا استثناء من حزب الملك ومن أكثرهم دفاعا عن إرث الملكية واستمرارها مطلقة و بلا قيود دستورية ولا حتى من دون واجهة برلمانية صورية إذا ما استتب لهم الوضع . فهل هو تنافس على القرب من الملك والمزايدة بالولاء له أم محاولة تضليل وكسب عواطف البسطاء والمخدوعين لأغراض محض انتخابية؟
وإذ أعاد الكرة مرة أخرى بتجريب عدة المؤامرة بسذاجة بالغة، مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، في "الإنشاء"الجديد الذي نشره بمواقع إلكترونية ريفية مسترجعا حكاية المؤامرة، فإن الجديد حينها المرة تمثل في إدراج واقعة ما عرف بزلزال الحسيمة صيف 2011 ضمن مسلسل من الأحداث الساخنة الممتد إلى غاية الحدث المفجع لاغتيال المناضل اليساري لآيت بوعياش كمال الحساني، مرورا بمعظم أحداث المواجهة الشعبية مع المخزن التي عرفتها مناطق مختلفة من إقليم الحسيمة. وما يلفت انتباه القارئ في إدراج حملة الاعتقال والمحاكمة التي طالت عددا من الأشخاص صيف 2011 بمناصب مدنية وعسكرية مختلفة هو وضعها تحت نفس الحكم الذي يعممه على الأحداث المختلفة التي عاشت على إيقاعها المدينة الصغيرة ونواحيها، على نحو يبدو فيه السيد المنتخب بغاية الافتتان بنظرية المؤامرة طالما وجد فيها تفسيرا لكل الأعطاب والمهازل والكوارث الاجتماعية والسياسية وكفاه شر التحليل!لكن أيضا هنا لا يقول لنا كيف لأمر ملكي أن يندرج في خانة المؤامرة، ولماذا أضرب عن الكلام حين وقوع الواقعة، وماذا عن اشتباه تورط أصحابه في الحزب من النخبة التي يتباهى بصلاته الوطيدة بها وبأفضالها عليه في الفوز بمقعد رئاسة الجهة الإدارية؟هل وعى صاحبنا التناقض الفاضح الذي يوقع فيه نفسه حين يلقي بمثل هذا التفسير المؤامراتي الباهت للحدث الأول، وفي الآن نفسه لا يكف عن التباهي بملكيته بمناسبة أو بدونها؟ أليس في علمه أن الملك كان صاحب القرار في اعتقال من اعتبرهم ضحايا تصفية حسابات؟ ومن تكون تلك الجهات التي كان لها حسابات تجمع بين أشخاص عاديين في مناصب إدارية شبه متواضعة وبين آخرين في مواقع حساسة بأجهزة السلطة ؟ هل تعرض الملك للخداع؟ ومن خدعه ولماذا لم يقدم الذين خدعوه إلى المحاسبة؟ هذه الأسئلة لا شك تتبادر إلى ذهن أي شخص متواضع القدرات العقلية ، فكيف بالأحرى لا تخطر ببال "رجل" سياسة؟
نعتقد جازمين أن السيد بودرا يفتقر تماما لأخلاق الشجاعة للبوح بمواقفه وآرائه في مثل هذه النوازل، خاصة وأنه عاجز على التحرر من قيود اللغة البائدة لأحزاب الإدارة وديماغوجيي المخزن الذين يرفضون تصديق أن العالم تغير، وأنه ما عاد بالإمكان ترهيب الناس بالتلويح باسم الملك في مواجهة النقد السياسي أو الاحتجاج الاجتماعي، أو الخروج من دائرة العبيد الذين لا يزال القصر يحفل بهم ويثبت وضعهم الدوني كخدام أوفياء للعرش ويكرس المواطنين في وضعية الرعايا مع مستملحة المشروع الحداثي الديمقراطي!
ولعل الكثيرين يتذكرون هذيان السيد بودرا في إحدى إنشاءاته الابتدائية السابقة، وهو يكرر مثل الببغاء الكلام البائت لأحزاب الإدارة، التي كان بالأمس القريب يتندر منها ومن أعيانها، عن العهد الزاهر للملك محمد السادس وعن المشاريع التي يصر على فرضها رغم رفض مزعوم لوزرائه وما إلى ذلك من الخبط والتلفيق، في محاولة يائسة للدفاع عن موقع حزبي وضعه الشارع الفبراييري في قفص الاتهام في كل يتصل بواقع الفساد السلطوي. وهو لا شك يعرف أن الجميع يعرف أنه يكذب، وأنه إذا كان من غبي-كما افترض في بعض الناس- تنطلي عليه بكائيات السيد المنتخب، بشأن المؤامرة التي تستهدف الريف وأهله، فهو بالتأكيد الذي لا زال يصدق أن من يهاجم الأحزاب باسم الملك، التي تقتضي بنظره مصلحة الريف التحالف معه ضدها ونكاية فيها، هو بالذات من شبع مدحا فيها حتى ضاقت به الجُمل، حيث أنه أينما حل ضيفا على حزب جديد إلا وشرع في كيل الشتائم للحزب "القديم"، ومدح تاريخ الحزب الجديد المعمد بالتضحيات المتخلية والبطولات الكاذبة.
فعلا إن على المرء أن يكون غبيا لكي يستمر في تحمل لغة الخشب المحشوة بالأكاذيب والالتفاف على الحقيقة التي تفقأ الأعين في سيرة منتخبينا الذين من فرط نزعتهم الانتخابية ومن فرط هيامهم في المناصب يصابون بداء التزلف حتى تراهم، مثل السيد بودرا وأنداده، يسعون في ذكر مناقب أسيادهم الجدد ليس بأقل حماسة وغلو مما كانوا يفعلون مع السابقين. ألم يكن صاحبنا يصبغ كل الأوصاف الملائكية والبطولية على "مولاه" السابق في حزب التقدم والاشتراكية؟ ومن يصدق أنه غدا سيفعل نظير ما يفعل اليوم برفاق الأمس إذا ما تبدل الحال وانتهت أكذوبة حزب الدولة الجديد؟
السيد بودرا وأمثاله من طراز المتزلفين يدافعون باستماتة عن الملكية التنفيذية، ويجدون في الملك كل ما يزعمون أنهم يسعون إليه من رخاء وتنمية لأهل الريف، لكونه يحمل عطفا خاصا للمنطقة ويبادل أهلها حبا صادقا يغيض المتآمرين الحاقدين كما يقول، لكنه في الوقت نفسه يشكو من المؤامرة التي تحاك ضد هذا "الحب"، دون أن يفسر لنا السبب الذي يمنع الملك، وهو الحاكم المطلق في البلاد الذي بيده كل السلطات، من وضع حد لهذه المؤامرة طالما هي واضحة وتهدد مصالح المنطقة التي يكن لها كل هذا "العطف" الذي يصفه بلا توقف وفي كل المناسبات. طبعا يمكن لنائبنا الجديد أن يستمر في الضحك على ذقون الريفيين بكلام تلامذته المعار من قبيل ما قال في حوار سابق مع موقع إلكتروني ريفي:"إننا نعاني نقصا حادا في الذكاء والحب"، لكن عليه فقط أن يتذكر أن حبل الكذب قصير.
أما ما ذهب إليه في الحوار الأخير من تخوين وتحقير للشباب الريفي المنتفض، واعتباره ساذجا ومتحكما فيه من قبل "مركز" لا شأن له بقضايا الريف، يستوجب محاسبة لا تساهل فيها ولا تسامح. ففضلا عن تناقض كلامه عن مركز يعاكس مصالح الريف مع دفاعه عن ملكية مطلقة تمثل أسوء أشكال المركزية والتركيز السلطويين، وأيضا كلامه الفضفاض عن جهات سياسية خارجية تأتي لاستقطاب شباب الريف مع كل ادعاءات الوحدة الوطنية، في إشارة إلى أحزاب لا يجرؤ على تسميتها، لكنه يشير إلى كونها خارجية(عن ماذا؟الله أعلم) تعمد إلى تصفية حسابات أو ابتزاز الدولة، وهو كلام في غاية الخطورة والركاكة معا، فإن السيد بودرا حين يتحدث عن استغلال من يدعوهم بالمتطرفين الأمنيين لما يجري في الريف من حراك مخدوم وموجه عن بعد على حد زعمه، فإنه ينسى أن "الأمنيين" هو أفضل رعايا الملك، وهو وليهم وبأوامره يأتمرون، وأن الحكومات التي يدعي أنها تعاكس مصالح الريف هي حكومات "صاحب الجلالة"، وأن الملك الذي "فتح قبله" للريف كما يقول السيد بودرا هو من يعين أعضائها ويشملهم بعطفه. أليس في علمه كل هذا؟ أما التلويح بمطلب الحكم الذاتي للريف، الذي يقرنه صاحبنا بتحقق مطلب الملكية البرلمانية، وبتلميح خبيث، فهو لا يعني السيد بودرا ولا حزبه لا من قريب ولا من بعيد، طالما أن حزبه على وجه التحديد تشرب ثقافة المركزية حتى النخاع نشأةً وفلسفةً وارتباطات مكشوفة مع أعلى دوائر صناعة القرار المركزي، مشفوعا قبل كل ذلك بشمولية وقدسية الملكية التي لا تستقيم مخزنيا بدون عصا الأمن المركزي، زائد المركزية للحليب ولوسيور و. . . والبقية على بالكم.
السيد بودرا ابحث لك عن أسطوانة أخرى، فالمؤامرة لم تعد تطرب، والحرب الأهلية لا تخيف إلا من لهم ما يخسرون، والملكية ليست قضاء.
2- شعبوية من أجل الملك!
إذا كان هناك من جديد في عهد الملك الحالي فهو بدون شك هذا الانتشار المخيف للشعبوية في كل الاتجاهات، ابتداء من جزء لا بأس به من الصحافة "المستقلة" إلى أحزاب ترفع لواء الملكية بلغة شعبوية فائقة لتضرب بعضها البعض من تحت الحزام. فالكل يزايد على الكل، والملك على رؤوس الجميع!ولا ندري أين المشكلة إذا في هذه البلاد:في الأحزاب أم الملكية أم الشعب؟
هذه الشعبوية هي بالذات ما يغري الفاشلين في تدبير الشأن العام، أو السياسيين العاجزين على التصرف بموجب مقتضيات الحق والحقيقة، دون خوف من أداء الثمن اللازم للمجاهرة بهما في الوقت المناسب، وهي أيضا الوصفة السحرية لإبقاء الوضع القائم كما هو لصالح قوى يسعدها التحالف مع الشياطين إذا اقتضى الحال للدفاع عن مصالح غير مشروعة التحصيل في الغالب، والاستمرار في السيطرة والحكم. ولعل أكبر مستفيد اليوم من رواج البضاعة الشعبوية على نطاق واسع، علاوة إلى القوى المافيوزية المتخفية في اقتصاد ونظام الريع، هي الملكية بالدرجة الأساسية، وخصوصا في شكلها الحالي المتحرر من القيود الديمقراطية. فالشعبوية الرائجة، أيا كان الثوب الذي ترتديه والجهة التي تنتجها، تقوم في المغرب على أسطورة أن الملك حكيم وشجاع وعطوف ونبيل وما إلى ذلك من الأوصاف الملائكية، وأن غيره-خصوصا من الأحزاب- هم بالمطلق شياطين وأنذال وجبناء وأصحاب مصالح صغيرة، وأنهم وحدهم المسئولون عن الفساد الذي يدب في أوصال الدولة وعن اليأس من الوطن الذي يستبد بأبنائه، وبالتالي فإن الحل هو ترك الملك يحكم مفردا ومطلقا. وأنه إن كان ضروريا من حكومة وبرلمان ودستور وأحزاب، فلأجل توفير أسباب البقاء للملكية وجعلها تبدو صوريا مواكبة لعصرها ومستجيبة لمطالبه. فلا يعقل أن يشترك في الحكم مع الملك من هم في حكم الرعايا. فلا المنطق يقبل هذا ولا الأخلاق!
هذه الشعبوية هي بالذات ما يغترف منها سياسيون وأشباه مثقفين من قبيل الذي تحدثنا عنه في المقال السابق، لكي نبقى دائما في إطار الريف، وهم اليوم إما أعضاء في أحزاب تقول عن نفسها إنها تناضل من أجل مشروع ديمقراطي حداثي، مثل حزب الأصالة والمعاصرة، أو متعاطفين معها أو مجرد أتباع لأعضائها الريفيين كما هو الحال مع السيدين علي الإدريسي وإلياسبلكا، اللذين لا يخفيان حقدهما الشخصي على أحزاب معينة بدعوى مسؤوليتها عن تهميش الريف وإقصاء أبنائه وتحقيرهم، في حين يضعان كل ثقتهما في أحزاب الملك الجديدة، مع أن آخر مغفل في هذا البلد يعلم جيدا أنها المسئولة، إلى جانب النظام الذي رعى ولادتها، عن كل العبث السياسي الذي يشهده المغرب، الذي يكرس الإفلات من العقاب و المحاسبة. وأما مسؤولية ما يعرف بأحزاب الحركة الوطنية فهي بلا شك ثابتة في الكثير من وقائع التقتيل التي تعرض لها رجال ونساء المقاومة، كما هي ثابتة في وقائع أخرى للتهميش والإقصاء لأبناء الريف من مواقع التسيير والمناصب العليا وغيرها. لكن ليس الشخصين المذكورين أعلاه هما الأجدر بالتحدث في هذا الشأن، لا من باب مصادرة حقهما المشروع كمواطنين في تناول الشأن العام، وإنما لأن موقعهما في سياق التطور السياسي للريف لا يفيد في نقد الآخرين ولا تجريمهم. فليس من هبَ ودبَ يلوح باسم القائد التاريخي للمقاومة الريفية، أو يسترزق بتاريخه ووثائق تجربته، يمكن أن يخدع بسهولة الناس بالعزف على أوتار العاطفة وجراح التاريخ، خاصة إذا كان يفعل ذلك من موقع رجعي ومخزني مكشوف كما الشأن مع صاحبينا. ففيما دبجاه من "مقالات" في إطار السجال الدائر حول مستقبل الريف في ضوء التحولات التي تشهدها العلاقة مع القصر، والدفاع عن "النخبة"الملكية المحلية المتحلقة حول حزب الأصالة والمعاصرة، ما يثبت الانتماء لهذا الموقع مع توابل من الشعبوية المزينة بخطاب نرجسي ومؤسطر للريف، الذي أضحى شائعا بين بعض المخادعين والمضللين من انتهازيي المرحلة الجديدة.
فهذا السيد الإدريسي، الذي يرتدي قبعة "اللاتحزَُب"، يفصح عن خلفية خرجاته وهجماته ضد أعداء الريف الذين ينسجهم خياله، وهو الذي قضى في حضن المخزن ردحا من الزمن صامتا متعبدا في محراب الديبلوماسية الفاشلة منذ عهد الحسن الثاني البائد، ومتفرجا على قتل وشتم أبنائه في أحداث كثيرة ليس آخرها انتفاضة يناير 1984، حين يسارع لتمجيد عهد خلفه، تماما كما يفعل كل الوصوليين والجبناء مع أسيادهم في عز جبروتهم وقوتهم، متنكرا لما مجده في الخفاء والعلن من عهد الحسن الثاني قبل أن ينقلب عليه مثل جميع الجاحدين الناكرين للجميل. فالذين صاروا بذكر العهد الجديد المزعوم هم في الأغلب الأعم من فعلوا الشيء نفسه مع من صار عندهم عهدا قديما في تنكر وقح لأفضاله على الكثيرين منهم. وكغيره من مداحي العهد الجديد الذين كشفوا عنهم القناع أخيرا في الريف، يخترق السيد الإدريسي، لغة الجيل الصاعد شديد التفاخر بالهوية ويستعير منها الكثير من العبارات المشحونة بالعاطفة والإباء، لكنه يجعلها في خدمة نقد متخلف للحياة السياسية ، وتأليب القارئ الريفي المفترض ضد إرث أحزاب بعينها، ولا يخفى أن من وراء كل هذا الزعيق تصريف أحقاد متراكمة ضد اليسار كمشروع قبل أن يكون ممارسة انحرفت في تجربة أحزاب اليسار المزور الذي يسهل على أمثال صاحبنا الاصطياد في مياهه العكرة. ففي النهاية سيكتشف النبيه المسكوت عنه في هذا الوصف الموارب لمن يتخيلهم مغفلين من الطلبة الريفيين الذين استغلت أحزاب معينة ومنظماتها(كذا) روحهم النضالية، "لتدفع بهم إلى الصفوف الأولى للمواجهة مع قوى الأمن، لتركب على أكتافهم وعلى ضياعهم داخل السجون والمعتقلات لتحقيق مآربها ومصالحها، ثم ترمي بهم بعد ذلك إلى الصفوف الخلفية بدعوى عدم صلاحية الريفيين لممارسة السياسة".
فقد تحولت أعداد من المناضلين الريفيين في مشاريع سياسية يسارية معلومة إلى مجرد حمقى ومغفلين في نظر صاحبنا تتلاعب بهم الأحزاب التي على باله. لكنهم مع الملك وحزب صديقه ليسوا كذلك أبدا، فقد صاروا نخبة " تسجل حضورها في المشهد السياسي للعهد الجديد اعتقادا وإيمانا منها بضرورة ممارسة اللعبة السياسية في ملعبها "! فالحزب الإداري الجديد، الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وحده من سيرفع الريفيين إلى المناصب العليا ويجعلهم سادة ويخطو بهم على درب الحظوة واقتسام الغنائم مع نخب "فاس" وأحزاب العهد القديم، لأنه الحزب الذي جاء بمشروع "تحديث المشهد السياسي للعهد الجديد" على حد زعمه. لكنه لا يرى في المقابل، كما فعل في العهد السابق، جرائم العهد "الجديد"، والعبث والفساد الذي يشيعه في الحياة العامة أركانه ورموزه من المنتفعين الجدد، وفي مقدمتهم من يعتبرون أنفسهم "نخبة ريفية"، مع أن زعيمها شبه أمي ومليونيرا صنع ثروة من مصادر مريبة. فهل ينتظر نهاية العهد الجديد ليبدأ في شتم أيامه ورجالاته كما يفعل مع عهد ملكه المفدى السابق؟
لماذا لا يرى في طريقة حشد الناس أثناء زيارات الملك لأقاليم الريف ، وهي التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مخزية وتضرب في الصميم كل المزاعم حول مجتمع المواطنة وكل الخطب الرنانة حول المشروع الحداثي الديمقراطي التي لا يمل من تكرارها النظام وحاشيته، ضربا"لأخلاق الفرسان"التي يتميز بها الريفيون على حد قوله؟
إن شعبوية الإدريسي، وغيره من أصوات ملكيي الريف الجدد، هي من النوع المتعالم الذي يتيح لصاحبه المناورة في شرط عقلي ونفسي أفضل لكسب عطف اليائسين من السياسة الحزبية التي رعاها النظام لعقود من الزمن، وقادت إلى كل هذا الفساد والعبث الذي نشهده اليوم، وذلك بالعزف على أوتار الهوية واستفزاز الذاكرة الجريحة للريفيين بغرض خدمة أجندات القصر الرامية إلى مزيد من إضعاف الأحزاب التقليدية المنافسة بالشرعية التاريخية والتكوين المستقل وتقزيمها تحسبا لأي طارئ أو انقلاب في الأحوال السياسية. وهذا هو الدور التقليدي لأولئك الذين تمت توليتهم مهام قيادة معنوية لما يعرف بالأغلبية الصامتة لشغل المقعد الشاغر، مع فرق صغير هو أن صاحبنا يعمل من أجل الوسطاء لا الأسياد مباشرة كما أنداده السابقين. وهؤلاء الوسطاء الحداثيون جدا هم من يبدي اليوم تشددا وغلوا في الدفاع عن الملكية المطلقة، بل ولا يتخلفون عن الاصطفاف مع الحاشية المحافظة التي تظهر ولائها الأعمى من خلال التشبث بأهداب الطقوس البالية وعادات العهد البائد للحسن الثاني حيث كانت وزارة الداخلية تستنفر كل أعوانها أثناء الزيارات التي يقوم بها الملك لحشد الناس وفرض إتاوات على التجار لإقامة الحفلات والولائم تعبيرا عن فرحة مصطنعة بقدوم الملك لمنطقة ما. ولعل الضجة التي أقيمت من حول إشارة صغيرة وردت بافتتاحية جريدة حزب ملكي عريق، وصمت الحداثيين اللعين عن إبداء رأي واضح بشأن استمرار طقوس الاستعباد تلك، أماطت اللثام عن وجه الشعبويين الذين ابتلعوا ألسنتهم هذه المرة، مع أن ما يجري في كل مرة يزور فيها الملك أقاليم الريف يكشف عن زيف أخلاق الشجعان التي يدعونها. فالمثير أنه على عهد الملك الراحل كانت زيارات المناطق والأقاليم قليلة، وانعدمت في الريف، وهذا لحسن حظه، في حين أنها أصبحت في عهد الملك الحالي من الكثرة حتى أن التساؤل عن جدواها أصبح يتردد على ألسنة الكثيرين. طبعا المعجبون بها أو بالأحرى المستفيدون من وراءها والباحثون عن فرص الالتقاء بالملك والتقرب من دائرته الضيقة يعتبرون الأمر حدثا استثنائيا ومكسبا لا يرد ولا يقدر بثمن، وينسجون لذلك قراءات ما جادت بها قرائح من قبل، مثل أن هذه الزيارات دليل قاطع على الحب الملكي الزائد للريف وعطفه على أهله وتصميما على تنميته بعد عقود من التجاهل من قبل والده وما إلى ذلك من الخزعبلات. لكن الملك نفسه لم يشر ولو مرة واحدة إلى الواقعة الأخيرة ولا سمعنا أن أحدا من هؤلاء الدهاقنة الجدد يتحدث في الأمر في حضرة الملك أو بمناسبة زيارته ليذكره بالدين التاريخي الذي في عنق النظام الذي ورثه من والده تجاه المنطقة، ولا ما شابه ذلك. الكل يبتلع لسانه عندما يتعلق الأمر بسرد وقائع تقود إلى التشويش على زيارة الملك، خاصة الواقعة التي تلازم الزيارة على الدوام:استنفار السلطة لأعوانها من الشيوخ والمقدمين والمخبرين لحشد الناس من البوادي والقرى بكل الطرق الترغيبية والترهيبية وحملهم على متن حافلات وسيارات خاصة يتم إرغام أصحابها على تقديم خدمة نقل هؤلاء إلى المكان المحدد لمرور أو توقف الملك أو قيامه بتدشين مشروع ما، وهي العملية التي تمر في مناطق معينة بإقليم الحسيمة تحت طائل تهديد مبطن بالمتابعة والسجن لكل من يتخلف عن الحضور والمشاركة في العملية، خاصة تلك التي تنتشر فيها زراعة القنب الهندي، حيث يتم مقايضة السماح بمزاولة نشاط الزراعة بطاعة السلطة والامتثال لأوامرها دون تردد، خاصة في اللحظات الحاسمة بالنسبة لها مثل زيارة الملك أو الاستفتاء على الدستور أو المسيرات المفبركة المناوئة للتغيير.
وكل القيامة التي تحدث أثناء الزيارات الملكية ليرى الناس في النهاية ما لا يرونه في باقي الأيام:تبليط وصباغة وتزيين الطرق والأرصفة والواجهات الخارجية للمنازل وتعبيد وتنظيف الشوارع، لأن الأمر على ما يبدو يتعلق بحدث خارق للعادة. فزيارة الملك وحدها تكفي لإطلاق المشاريع المعطلة وإخراج الميزانيات من القمقم وسقوط كل المبررات الكاذبة التي يطلقها المنتخبون الفاسدون والعجزة بشأن شح الإمكانيات والموارد المادية. من أين تأتي كل هذه المصاريف الخيالية التي تكلفها زيارة الملك لبضعة أيام؟ومن أين لنا بكل هذا السخاء الحاتمي الذي يتسابق الكل لإظهاره أمام الملك وحاشيته، بكل مظاهره المزيفة والتزوير الذي يطال الحقائق على الأرض، التي لا شك يعرفها الملك أو من المفروض أن يتوقف عندها في يوميات المواطن بوصفه الحاكم والسيد، أي الذي يسود ويحكم، وبالتالي أن يوقف هذا المسلسل الهزلي الذي لا يضحك أحدا.
فهل يجرؤ "مثقفنا" الريفي على البوح بكلام صريح عن "حصار" أهله في حاضرهم، وتزييف وقائع معاناتهم المستمرة، قبل أن يُفذلك عن تاريخهم المحاصر، أم أنه سيصوم في انتظار تغيير النظام ويستمر في دغدغة مشاعر بعض المخدوعين إلى حين؟
3- نصائح مسمومة للريفيين:
يضع السيد إلياس بلكا نفسه في موقع الناصح للريف وأهله، كما عنون مقالته المنشورة بجريدة المساء، والتي أعيد نشرها بمواقع إلكترونية ريفية، وهو بذلك يكون قد اختار موقعا متعاليا لا أرى أية صفة علمية أو سياسية أو رمزية تؤهله لهكذا اختيار، علاوة إلى كون صفة الناصح التي ارتضاها لنفسه، واللغة المتعالمة التي صاغ بها نصائحه المزعومة، تذكر في الغالب ببعض الملمح الديني الذي لا نراه مناسبا للرجل ولا لغيره، وفي هذا الوقت بالذات، عند مخاطبة أهل بلاد كالريف لا هي بالمدعية للبطولة، وإن زعم بعض أبنائها ذلك، ومن حقهم أن يفعلوا من الموقع الذي هم فيه لحظة الإدعاء، ولا هي بالمتسولة عند القصر كما يريد لها أن تكون صاحبنا الناصح، فبالأحرى أن يكون لصاحبنا كل هذا القدر من الجرأة-حتى لا أقول الوقاحة- لاستعارة سمات الوقار الديني والتعالي اللاهوتي من لغة رجال الدين في شكل سياسي مفضوح النوايا والغايات.
وفي هذا ما لا يشفع لأحد زعم الغيرة على الريف المكذوب عليها من الجهات المعلومة، وسواء تلبست شكل الدفاع عن ذاكرته الثقافية، كما يحلو للبعض المتاجرة بتاريخ الريفيين بواضحة النهار سعيا للكسب المادي واستجداء الدعم الخارجي، أو فعل ذلك البعض الآخر من زعم البحث عن موقع جدير بالريف في خارطة التنمية، أو ببساطة كما يفعل البعض الثالث، بادعاء الحب والخير لأهل الريف، وهم يسابقون الأحداث في البحث عن موقع في الغنيمة المتخيلة على مشارف الجهوية المتقدمة المبشر بها من طرف النظام وأعوانه.
ومن يقرأ مقال"النصيحة" لصاحبه بلكا يستشعر ربما كل هذه المزاعم دفعة واحدة مجتمعة وملخصة-وهي فضيلة تحسب له هذه المرة- تغني عن ضرب الأمثلة في اتجاهات الأسماء والهيئات، التي ألمحنا إليها أعلاه، فيما يرجع للسعي الدؤوب لتفكيك الريف وفك عقدته التي استعصت على الكثيرين حتى الآن، رغم تجريب كل أشكال التنكيل المادي والمحق المعنوي والتدجين الثقافي والإرشاء المخزي لبعض ذوي النفوس الضعيفة، ورغم أيضا النجاح الذي حققته سياسة الجزرة والضربات الناعمة تحت الحزام، في اختراق قوى ممانعة وتمكنها من استقطاب كثير من أعضائها أو الدائرين في فلكها، وهو النجاح الذي جعل الريف، وبعد أكثر من خمسة عقود، يبدو للوهلة الأولى وكأنه انتهى "مرضيا" عنه من طرف القصر وزبنائه في الدوائرالاقتصادية والسياسية والحزبية، الحكام الفعليين للمغرب، أو أنه تخلص إلى الأبد من المزعجين من أبنائه الذين ورَثوه صورة الريف العصي عن الخضوع أوالارتهان، وهي بالتأكيد ليست تلك الصورة المخدومة التي تحاول تأليب مغاربة المناطق الأخرى بإقناعهم باستحالة "ترويض" الريفي العنيد و"الراس القاسح"، وبالتالي إدماجه في الحياة العادية للمغرب، وذلك، في تفسيرهم العنصري المقيت، بسبب جنوح متأصل لدى هذا الأخير للانشقاق والتمرد ورفض الآخر وما إلى ذلك من الأكاذيب، ومن ثم لا خيار أمام الدولة "العتيدة" ومخزنها "الشريف" سوى أن يشمر عن ساعديه ويستنفر كل الوسائل والأدوات المتاحة لضرب هذه الرأس المتصلبة وإخراج الغول المخيف من جمجمته إلى الأبد. فلن يحتمل بقاء كائن مثل هذا الريفي العنيد والمتحجر الذي يريد نيل كل شيء مرة واحدة، والذي لا يعرف للمرونة سبيلا ، ولا للدبلوماسية مدخلا، وبالتالي فإن ضربة موجعة، لكن ذكية ومركبة هذه المرة لا أحادية كما فعل الحسن الثاني، لا بد منها للتخلص من هذا العبء الثقيل.
والحقيقة تقتضي الاعتراف بنجاح مهم حققته هذه الضربة منذ صعود محمد السادس على رأس النظام الهرم، ولا نظن أننا بحاجة في هذا المقام لتعداد أمثلة هذا النجاح، وحسبنا الاكتفاء بواحد مركب منها فقط:تزوير التاريخ وغسل دماغ واسع النطاق كان قاب قوسين أو أدنى من أن يغرق الحاضر في الريف في زيف شامل بدءا من صنع أبطال من ورق للالتفاف على صناع التاريخ وضحايا النظام وجرائم بطانته، وليس انتهاء بإطلاق اليد الطولى للمفسدين الجدد المتمترسين خلف الجمعيات الجديدة من بائعي أوهام التنمية عبر مشاريع عائلية لنشر خرافة المصالحة عبر التوظيف الرخيص لمعاناة ضحايا جرائم الماضي المخزني\والاستعماري، لأجل تبييض صورة المخزن الجديد، وتنشئة جيل جديد من الريفيين منزوعي الروح والإباء والكبرياء. وقد رأينا محاولات دنيئة لتحويل الريفيين إلى متسولين عقب الزلزال الذي ضرب الحسيمة سنة 2004، شارك فيها الكثير ممن كانوا يعدون من أوساط اليسار وأعداء المخزن، وبالفعل استطاعت تحويل الكثير من الأفراد عن قناعاتهم السياسية السابقة والزج بالبعض الآخر في دوامة البلبلة ، وتوريط الأغلبية من المخدوعين في أوهام العهد الجديد.
لكن لم كل هذا اللغط حول الريف؟ هل انفتحت فعلا مساحة التعبير على الممنوع والمحظور في موضوعه، أم أن الأمر يتعلق باستباق لخيارات تعتمل في الكيان الريفي لم تنجح "النخبة" الملكية في السيطرة عليها وتوجيهها في الاتجاهات المشبوهة المرغوب فيها لخلط الأوراق وبعثرة القوى، خاصة بعد انبثاق حركة 20 فبراير وعودة خطاب راديكالي ليس للهوية فحسب ، بل بالأساس للتحرر الاجتماعي والكفاح الطبقي؟
من سيقرأ مقال السيد بلكا بتمعن لا شك سيكشف أن الأمر فعلا يندرج في الشق الأخير من السؤال، وأن النصائح التي يبعث بها صاحب المقال تروم المحاولة فعلا في الاتجاه المشبوه، وفبركة نقاش مغلوط من أصله حول علاقات مفترضة بين الريف والقصر، لا نرى أنها تدخل في أولويات نضال الريفيين اليوم، وتقطع الطريق على أي تفكير مستقل حقيقي لبلورة إجابات في الأفق لمسائل الهوية والتاريخ والخبز والحرية، مع اقتراب تمرير مشروع جهوية ممسوخة وبالغة الرداءة الجغرافية والسياسية معا.
لا شك في أن التعويل على الذات بالكد والاجتهاد وطلب العلم لإعادة بناء المجال وتثمين الثروة البشرية وتأهيلها ، نصيحة في مكانها، وإن كنت أعتقد جازما أنها من النوع المكرور في خطابات أهل الريف عند كل مناسبة حزينة أو لحظة عصيبة يشعر فيها الناس بأن الجميع تخلى عنهم أو خذلهم. فلا بأس مع ذلك من أن نعيد مثل هذه النصيحة على مسامع أهل الريف، لكن وعلى غيرهم من المغاربة، طالما أن معظمهم ليسوا على أحسن حال من الريفيين في هذا الباب أيضا.
الأمر الذي يستوقفنا أكثر في هذا المقام يخص علاقة الريف مع القصر فيما لخصه "الناصح"بالتعويل على "علاقة هادئة وايجابية وتعاونية مع القصر تفيد تنمية المنطقة"، وذلك بزعمه أن "أفق الملكية-على خلاف بعض النخب السياسية والمالية- أوسع في التعامل مع جهات المغرب. . "، معتبرا أن "من طبيعة الحكم الملكي أنه يضرب حساب للمستقبل ويحرص على الاستمرار. . . "، قبل أن يردف بكلام فضفاض موغل في الرومانسية الزائفة من قبيل "أن الملك يحمل مودة واضحة للريف وعطفا خاصا عليه. . "، وأنه "لا يجوز إفساد ذلك. . " وما إلى ذلك من الكلام المعسول. فمن يقرأ مثل هذه السفسطة سيخال نفسه أمام خبير في النوايا الملكية وعلى دراية بما يدور في خلد الملك. والحال أن هذه هي الشعوذة بعينها وقد تلبست خطاب التذلل الذي صار مألوفا في صحافة التأليب المخزني المقنع ضد المنافسين المفترضين للقصر من الأحزاب السياسية حتى ولو تعلق الأمر بأحزاب شاخت وهرمت وصارت جزء من النظام اليوم. فيبدو أن مثل هذا الخطاب الذي يكرر الأسطوانة المخزنية المشروخة بشأن فعالية مزعومة للملك ونزاهته وكفاءته وقدرته الفائقة على الوفاء بمتطلبات العيش الكريم للمواطنين، من دون بقية خلق الله من الأحزاب والشخصيات، لا يلتفت إلى الكوارث التي أغرقت البلاد والعباد في التخلف والجهل والفقر بفضل السياسات الحكيمة للملك. أليس من المضحك أو بالأحرى من باب الاستغفال أن يعلي هذا الخطاب من الانجازات المتحققة في بعض المجالات فيضعها كلها في سلة "الحكامة"الجيدة للملكية وفوقها البركات، في حين يسعى إلى تضليل الناس بأن كل ما يتعثر وما يفشل وما يحل بالوطن من كوارث وفضائح وهزائم هو من فعل الأحزاب والبطانة الفاسدة والشياطين! وهذا الخطاب طبعا لمن لا يعرف هو الذي يسود ويروج في كل المجتمعات التي ترزح تحت نير الاستبداد وأنظمة الحكم المطلق، حيث تتردد تلك الخرافة السخيفة للحاكم الطيب الشهم العادل الذي لا يعلم بما تفعله حاشيته الفاسدة الظالمة ب"الرعية"، والذي لو يعلم لما تردد في قطع رؤوسهم!إنها الأنجع من القمع. فما يؤمن استمرار النظم المستبدة ليس فحسب اعتمادها على البطش بمعارضيها والتنكيل بهم وسحقهم بالدبابات كما تفعل اليوم في سوريا واليمن أو كما حاولت وفشلت في النهاية بكل من تونس ومصر وليبيا، وإنما بالأساس قدرتها على خداع الناس وتضليل وعيهم والسيطرة على عقولهم بجعلهم في النهاية يمتثلون إراديا للأمر الواقع، وربما الاستماتة في الدفاع عن الوضع القائم بأكثر السبل تطرفا وتوحشا.
يقول "الناصح" بأنه"ينبغي أن تصل مطالب تنمية الريف إلى القصر، فهو القادر على تحقيقها، والمهتم أيضا بتحقيقها". ومن ثم فهو يعفي الريفيين من صداع العمل السياسي بأن يطلب منهم عدم"الانغماس في الحياة السياسية المعقدة للبلاد"، والاكتفاء بالاستجداء والتوسل للأعتاب الشريفة! فهذا أفضل لهم من أن يجري توظيفهم في أجندات سياسية لقوى تبحث عن مغانم على حسابهم ولا يهمها لا تنمية الريف ولا تقدم أبنائه بقدر ما تضع عينها على مكاسب حزبية ولا تدخر جهدا في تسخير أبناء الريف في إشعال النار والثورات وعينها على مصالح ضيقة! يا له من منطق:فمرة يطلب صاحبنا وأشباهه من الريفيين بأن يتصرفوا كمواطنين مغاربة عاديين وأن لا ينظروا لأنفسهم كأبطال مغبونين، لكن فقط عندما يتعلق الأمر بتسليم أمرهم للقصر والاطمئنان للخيرات والبركات التي ستتدفق على منطقتهم، ومرة أخرى يطلب منهم أن يحذروا "الغير" الذي يريد استخدامهم كسلاح في معاركه السياسية ولحساباته الخاصة، وكأنهم من كوكب آخر أو مجرد قاصرين وعيال تنقصهم الخبرة. فبلكا العجيب يرى أنعلى الريفيين أن يخدموا أجندتهم "وليس أجندة الآخرين"، وأجندة الريفيين –تتمثل في" ضرورة اقتسام السلطة مع المركز"، على أن يعملوا جميعا على "إعادة النظر في طرق وأشكال" الاحتجاج التي لا تخدم مصالحهم، "بل على العكس تقدم للخصوم مبررات قصم ظهورنا. . " كما يقول.
ومثل هذا الخطاب هو بالذات ما بدأ ترويجه من قبل زمرة ستنتهي في النهاية في حضن حزب الدولة الجديد منذ أول زيارة قام الملك الحالي لمدينة الحسيمة وإلقائه لخطاب العرش من هناك. الزمرة ضمت بعض من يعتبرون أنفسهم مثقفين مستقلين، أو بالأحرى الحاقدين على الأحزاب السياسية أو تيارات سياسية بعينها لأسباب محض شخصية مرتبطة غالبا بفشلهم السابق في التقرب منها وخطب ودها، أو ببساطة لأن بعضهم وجد في هذه الأحزاب والتيارات ما ينغص عليه أحلامه الفردانية ويحد من طموحه في خدمة "الدولة المخزنية"، إذا ما استحضرنا أن تأثير بعض التيارات السياسية في الحسيمة كان أقوى لدرجة كان الجميع يحسب جيدا علاقاته الظاهرة مع أجهزة المخزن خوفا من النبذ الاجتماعي. وإلى جانب هؤلاء يصطف في الطابور المخزني الجديد عناصر من بعض التيارات المتياسرة المفلسة وهم الأكثر بروزا اليوم في واجهة الأحداث المرتبطة بالريف عامة، والأوسط منه بخاصة، والأكثر حرصا على تسويق هذا الخطاب البائس بحلة حداثية زائفة. وإلى الطرفين المذكورين ينضاف أولئك الذين رضعوا حليب المخزن منذ "ميلادهم" بمن فيهم تلك الكائنات السياسية التي صنعت في دهاليز الداخلية التي اعتادت هذا الخطاب إلى حد التخمة، وبعض ممن يحترف اليوم الحديث عن الماضي البطولي للريف والتاريخ المحاصر للزعيم والقائد التاريخي للمقاومة الريفية بعدما قضى عمره خادما في دار المخزن متنكرا لأصوله ومتسولا رضا أسياده في العاصمة لما كان المنصب مدرا للربح والغنائم.
جميع هؤلاء يلتقون اليوم على نفس المائدة وينهلون من نفس ثقافة البهتان والتزلف والنفاق السياسي، ويتحدثون نفس اللغة ويدبجون نفس الخطب، وليس على لسانهم سوى ما تجود به الزيارات الملكية للريف من مشاريع تنموية مزعومة، ولتذهب كل الأحزاب والأفكار والبرامج السياسية إلى الجحيم!وعاش الملك!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.