لقد اهتدى من عمل على تسمية القانون الجديد، بالضمانات الممنوحة للعسكريين، ووضعه في ماكينة التشريع، من حيث يدري ولا أخاله إلا كذلك ،على طريقة مخزية لاستفزاز الذاكرة الجماعية لضحايا الانتهاكات الجسيمة المرتكبة من طرف الدولة المغربية. ماكينة التشريع، التي اعني استعارة للضجيج وليس للمنتوج،لم تبخل بما شحذت من سنان ودبابيس لنكئ جراح تكاد تطوى تفاصيلها خارج التاريخ قبل أن يرمى بسياقاتها معلبة منسية في المتاحف إن هي أقيمت . نعم تكاد تطوى من فرط تفريط حركة الضحايا ، وليس بفعل الاستجابة لمطالب ،لا يزال صلبها وجوهرها خارج اهتمام النظام السياسي في المغرب ،المسؤول عن الجرائم السياسية التي ما انفكت تلقي بأعبائها وآثارها على نفسية الضحايا بل وعلى مسار الحركة الحقوقية برمته . لا شك أن عقد التنازلات ، أيها الرفاق،بدأ في الانفراط منذ تفرقت السبل بجموع المناضلين ضحايا سنوات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، ضحايا التعذيب والتنكيل وهدر الكرامة الإنسانية. منذ زمن غير بعيد ، وأمام مفترق طرق لا يزال ماثلا في الذاكرة الحية، اختار البعض الانخراط فيما سمي "هيئة الإنصاف والمصالحة" ، واصبغوها بمحامد الأوصاف ، وسموها لجنة للحقيقة ،بل انبروا مبشرين في حملة غير مسبوقة بانبلاج عهد خال من الانتهاكات والتجاوزات ،مطمئنين،محفزين ومقدمين شتى الإغراءات التغريرية بجماهير المكلومين والمظلومين، ماحذا بالكثيرين إلى التجرد من أسمال الضحية والتدثر بما يليق وهيئة الجلساء الجدد. لقد تأكد أن الماضي الموسوم بسواد الفظاعات المرتكبة، لم يكن رفضه والادعاء بتجاوزه سوى شعارا، لم يصمد أمام واقع لا مهرب اليوم من الإقرار بسطوته القابضة على أنفاس من ظلوا أوفياء لعقيدة الأحرار والشرفاء. فالماضي الذي انخرطنا جميعا في لعنه ووصفه بسنوات الجمر والرصاص ، لم نعمل إلا على منح إمكانية تغيير واستبدال ما علق به من أوصاف بأخرى أجمل وألطف ، قد تكون من قبيل سنوات المخمل والحرير مثلا . عفوا أيها الرفاق،إن الزمن الذي خيل إلينا دفنه ، لم نكن ندري أن ما سمي زمن الإنصاف والمصالحة سيمنح شروط استنساخ وبعث كوابيس ذاك الماضي حين يرقى الجلاد ، ويكافأ على ما اقترفت يداه بالحصانة والحماية من أية مساءلة أو متابعة، بل منع حتى التعرض ، أثناء ما سمي جلسات استماع ،لذكر أسمائهم وفقا لما فرضته هيئة الإنصاف والمصالحة في منطوق نظامها الداخلي،على الضحايا الذين حضروا أو أحضروا للبوح بشهاداتهم المبتورة قسرا . أليست الصورة أوضح لمسلسل،كانت حلقاته وكما عاشها الجميع،مخيبة لآمال الذين اعتقدوا أن للأمر علاقة بشيء اسمه "عدالة انتقالية"، واضحة بصمات المخزن غير القابل للتحول والممعن تمسكا في الاستمرار بشروطه وبأدوات الاستحواذ والهيمنة نفسها التي كانت قائمة ، إسكات كل الخصوم ترهيبا أو ترغيبا ،لا فرق،وبالمحصلة يتمخض المسلسل الجبل عن فار سمين اسمه " عدالة انتقامية" . فالحديث عن تشريع الحماية الجنائية للعسكريين، ليس سوى الفصل المتبقي من انجازات تنقية الأجواء مما علق بها وعكر صفوها من أحداث وحوادث ،أما العسكر فهو لاعب أساسي ظل ينتظر رفع العتب أو الدور في المصالحة والعودة لاحتلال موقع قادت وقائع الانقلابين بداية السبعينات إلى إخلائه ومعاقبة أصحابه ومنتسبيهم بإبعادهم تحت غطاء أمر بتنفيذ مهام جديدة،ليست سوى الاجهازعلى شعب بجيش مغضوب عليه خلاصه في سرعة الانجاز،الم يقل الحسن الثاني وقتذاك ،إذا وجدتم الاسبان فتقاسموا معهم زادكم،وان وجدتم غير الاسبان فاقتلوه . لقد تحولت،سهام الغاضبين من العسكر المبعدين ،كما سهام الغاضب عليهم ،إلى مطاردة الصحراويين ، فلم يسلم البدوي الذي يرعى قطيعه ،ولا التاجر الذي امتهن الجلوس طوال ساعات النهار متسمرا في متجره ، كما لم تنج الجموع التي أخلت المدن والبوادي هربا من الهجوم العسكري المباغت والكاسح على المدنيين الصحراويين .وكان مصيرهم القصف أثناء المطاردة والحصيلة ،حرق آلاف الخيام بمن تأوي وبأسلحة محظورة كالنابالم والفسفور الأبيض والقنابل الانشطارية،أما الذين سقطوا في أيدي العسكر،فكانت الأوامر تصدر بحفر حفر كبيرة والرمي بهم داخلها فيطمروا أحياء . لكم كانت غريبة وبشعة قصص العسكر مع الصحراويين المدنيين ، عنف وتقتيل وتدمير قدرما يؤكد أن الأمر الذي تلقوه كان يقضي بحرق الأراضي الصحراوية بمن عليها.لم يسلم البشر ولا الحيوانات كما أتلفت نقط الماء وسممت الآبار ،وحتى أشجار الطلح لم تقتلع اقتلاعا من الأرض لغاية استعمالها حطبا بل لمنع استخدامها ملاذات يستظل بها البشر أو تتغذى منها القطعان .لقد كابد الصحراويون حرب إبادة حقيقية ،بلغت حد أن من حالفه الحظ وتخلف عن موعد ركوب الهيليكوبتير،أو نجا من حفر الموت ،أو الرمي مباشرة بالرصاص ،يتم تسليمه لفرق الدرك أو الشرطة والمخازنية، التي تتكفل بتعريضه لصنوف الإذلال والاهانة والمعاملة اللاانسانية،التي ستلاحقه لسنوات طوال بالمخابئ السرية السيئة الذكر. إننا نتأسف كثيرا لما روجته "هيئة الإنصاف والمصالحة"،في معرض تقريرها عن الحالة في الصحراء الغربية، وهي تجيب بعبارات خالية من طعم الإحساس الآدمي عن مصير هؤلاء الضحايا المدنيين الصحراويين "إنهم ربما سقطوا أثناء المعارك"، وكم كانت السخافة اشد عند ردها بعدم العثور على ما يوثق الحالات التي اعتقلها العسكر،فلجأت إلى خيار إلغاء جلسات استماع كانت مقررة في الصحراء ، والحقيقة أن الهيئة المذكورة كانت أمام ملف مثقل بالجرائم السياسية ،ألم يقف رئيس الهيئة وأعضاء منها على مقبرة جماعية بالمسيد قرب الطنطان ولم يأت لها ذكر بالتقرير، لقد كان التقصير المتعمد جليا بمقابل الدفع وبسرعة بإبقاء الحالة متكتما عليها واللوذ بالصمت لقطع مسافة الأمان المتبقية في أجندة الهيئة بسلام، سلام وانتشاء يشعره أعضاء الهيئة لحظة احتفائهم بإعلان نهاية عملهم، إنها الخيبة الكبيرة التي طبعت أعمال تلك الهيئة. لقد انخرطنا كصحراويين في الحراك الحقوقي الذي عاشه المغرب مند نهاية التسعينات،عن وعي ،وبدافع الواجب الإنساني ، بضرورة المساهمة في كشف الفظا عات التي راح ضحيتها الآلاف من الصحراويين المدنيين.وحاولنا بناء تجربة تميط اللثام عن طبيعة وحجم الجرائم السياسية التي لحقت الصحراويين،وبادرنا إلى تأسيس فرع الصحراء لمنتدى الحقيقة والإنصاف،لكن أصوات المعترضين على تجربتنا وجهت صوبنا لإسكاتنا بل لم نسلم من النيران الصديقة نفسها(قيادة المنتدى آنذاك)، فصدر حكم قضائي بتشميع المقر وحل الفرع سنة واحة بعد التأسيس. لقد تولدت لدينا قناعة راسخة بان الجرائم المرتكبة ضد الصحراويين والمصنفة جرائم ضد الإنسانية، لن تجد طريقها إلى الكشف طالما تتمسك الدولة المغربية بالضم القسري لتراب الصحراء الغربية ضدا على إرادة شعبها. نستشعر خطورة القانون المرتب للحصانة والحماية ضد متابعة العسكريين،حيث إن الأمر يتعلق بإقليم يتصدر لائحة الأقاليم التي لم تقرر مصيرها بعد ،فمنذ وقف إطلاق النار بتاريخ 6سبتمبر1991 المبرم بين جبهة البوليساريو والمملكة المغربية تطبيقا لمخطط التسوية الاممي الإفريقي ، يعيش الإقليم أوضاعا شبيهة بالطوارئ العامة ، فلا تخلو مدينة أو تجمع سكاني للصحراويين من نقط تفتيش منصوبة باستمرار ودوريات تجوب الطرق والأزقة بل ومعسكرات للجيش داخل المدن حتى ضاقت بها الشوارع لتحتل مؤسسات تعليمية أو ترابط قربها لكنها تظل تشترك المرافق الصحية مع التلاميذ ،فنجم عن ذلك وضع ترهيبي سيتفاقم لا محالة حين يتحصن العسكريون بمنطوق المادة السابعة من القانون المذكور. إن الأوضاع التي تعيشها الصحراء الغربية ترتبط ارتباطا وثيقا في الحد من تردي الحالة وحماية المدنيين الصحراويين، بمضامين القانون الدولي الإنساني،الذي يفرض على الدول والأطراف احترامها ،وضمنها مقتضيات العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكول الإضافي الأول المتعلق بها ، والاتفاقية المتعلقة بمناهضة التعذيب ،والاتفاقية المتعلقة بزجر ومكافحة جريمة الإبادة. إن حقوقا مثل الحق في الحياة والحق في المعاملة الإنسانية ومنع التعذيب ،والحق في حرية الرأي والمعتقد ، والحق في محاكمة عادلة،تظل حقوقا لا تقبل الاستثناء أو التعليق تحت أي ظرف أو طارئ كيفما كان. والدستور المغربي حين يقر عدم إمكانية تعليق الحقوق الأساسية كلها ،لا بعضها فقط ،ففي ذلك رفع للتحفظ والتحلل من الاستثناءات المقررة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. كما أن مقتضيات معاهدات جنيف الأربع والبروتوكول الأول الملحق بها،تلزم المغرب الذي صادق عليها جميعا ،بتجريم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ، وهي بذلك تحرم ما تعرض له الصحراويون المدنيون من اعتداء على حياتهم ومعاملتهم معاملة لا إنسانية وهدر الكرامة وحرمانهم من المحاكمة العادلة،بل تفرض على الدولة المغربية تجريم تلك الانتهاكات والعمل على مقاضاة مرتكبيها،وقد سارت اجتهادات القانونيين،تعليقا على مقتضيات اتفاقيات جنيف،في اتجاه أن منفذ الأمر والقائد الذي يصدر الأمر مسؤولان معا،ولا توجد إمكانية للمرؤوس للتخلص من مسؤوليته بدعوى انه قام فقط بتنفيذ الأوامر الموجهة إليه.وباعتبار المغرب طرفا في معاهدة 9 دجنبر1948المتعلقة بزجر ومكافحة جريمة الإبادة ،يتعين عليه متابعة مرتكبيها أو تسليمهم لمن يطلب ذلك ، وتعتبر الدعوى المرفوعة أمام القضاء الاسباني من طرف صحراويين من ذوي ضحايا الإبادة ، ممن تم رميهم من الطائرات أو دفنهم أحياء أو اختفوا وظل مصيرهم مجهولا،والمتابع فيها مجموعة من العسكريين والجلادين المدنيين المغاربة ،تدشينا لجبهة ستتسع مع مرور الوقت ،شعارها رفض الإفلات من العقاب وسندها القانوني " الجرائم ضد الإنسانية جرائم لا تتقادم" . مساهمة من إعداد : الناشط الحقوقي الصحراوي محمد المتوكل عضو المكتب التنفيذي لتجمع المدافعين الصحراويين عن حقوق الإنسان في ندوة الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ، الرباط تاريخ: 14 يونيو 2012 .