إن من بين المهام الكبرى المنوطة بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان تفعيل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، في أفق الطي النهائي لصفحة "سنوات الرصاص" التي عرفها المغرب في إطار ما يعرف ب"العدالة الانتقالية". إلا أن النتائج المعلن عنها من طرف المجلس بهذا الخصوص جاءت مخيبة للآمال خاصة في ما يتعلق بالكشف أو استكمال الكشف عن مصير المفقودين الصحراويين. إننا، ومن خلال هذا المقال، سنقف علىمجموعة من الحقائق التي تفند ادعاءات المجلس بخصوص الكشف عن مصير المفقودين الصحراويين، هدفنا تنوير الرأي العام بخصوص جزء يسير من ملف الاختفاء القسري بالصحراء الغربية. تاركين الخوض في المجال الأوسع من توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة للدارسين و المهتمين بمجال العدالة الانتقالية من جهة، و للجمعيات و المنظمات المعنية بمجال حقوق الإنسان من جهة أخرى. من المعلوم أن الصحراء الغربية عرفت منذ "المسيرة الخضراء" انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، فقد أقرت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي أن ملفات الصحراويين بلغت نسبة 33.2 % من مجموع الملفات المعروضة على الهيئة. وإذا استثنينا مجموعة من الضحايا وعائلات الضحايا الذين يرفضون حل ملف حقوق الانسان خارج إطار تسوية عادلة ودائمة لمشكل الصحراء الغربية، فإن مجرد نسبة 33.2%، وما تم الكشف عنه من جرائم بشعة ارتكبتها الدولة المغربية في حق الصحراويين، لم يسلم منها حتى الأطفال، لأدلة قاطعة أن تلك الأفعال الإجرامية الممنهجة ترقى إلى ما يعرف في القانون الدولي ب "جرائم الحرب" و"جرائم ضد الانسانية". وعلى الرغم من كل ذلك، وبعد الاعلان عن تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة، استبشرت عائلات المفقودين الصحراويين، الذين اختاروا التعامل مع الهيئة، خيرا، فتعاطوا معها بجدية وبحسن نية، وزودوها بكل المعلومات والوثائق المتوفرة لديهم، منخرطين، وبكل مسؤولية، في مسلسل العدالة الانتقالية، ظنا منهم أن الهيئة قادرة فعلا على الكشف عن مصير ذويهم، و من ثم انصافهم و جبر أضرارهم. إلا أن النتائج المتوصل إليها كانت هزيلة، مبتورة و مشوهة. هيئة الانصاف والمصالحة... هذا كل ما لدينا! على الرغم من المجهودات التي بذلتها هيئة الإنصاف و المصالحة لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، فإن نتائج عملها المتعلق بالكشف عن مصير المفقودين الصحراويين جاءت ناقصة ودون المستوى المطلوب. فإذا استثنينا بعض التفاصيل المتعلقة بوفاة 27 شخصا بمركز الاحتجاز أكدز، و16 شخصا بمركز الاحتجاز قلعة مكونة، فإن التقرير الختامي للهيئة لم يكشف عن مصير مفقود صحراوي واحد. إلا أنه قدم مجموعة من المعطيات الهامة عن ثلاث مجموعات، نوردها كما جاءت في التقرير: المجموعة الأولى: تتكون من 15 شخصا توفوا وفاة طبيعية. "بعد الإطلاع على أرشيف وزارة حقوق الانسان سابقا و نتائج التحريات المجراة من قبل السلطات العمومية بخصوص الحالات المعروضة على الحكومة من قبل فريق العمل الأممي المعني بالإختفاء القسري و التي قدمت لهذا الفريق في اجتماعه المنعقد في نونبر 2005 تمكنت الهيئة من استخلاص وفاة 15 حالة بشكل طبيعي" (التقرير الختامي لهيئة الانصاف و المصالحة، الكتاب الثاني ص: 102). المجموعة الثانية: تتكون من 36 شخصا. "اطلعت الهيئة على معطيات تلقتها من مصالح الدرك الملكي بخصوص عدد من الحالات المعروضة عليها، ووقفت على معلومات تفيد وفاة 36 محتجزا، 23 منهم رهن الإعتقال التعسفي و13 منهم نفذ فيهم حكم الإعدام. غير أن الهيئة بسبب توصلها بالمعطيات المتعلقة بالحالات الأخيرة في الأسبوع الأخير من ولايتها، لم تتمكن من الحصول على الملفات القضائية ذات الصلة و تحليلها" (التقرير الختامي لهيئة الانصاف و المصالحة، الكتاب الثاني ص: 102). المجموعة الثالثة: تتكون من 211 شخصا ادعت الهيئة أنها كشفت عن مصيرهم، و قد صنفهم التقرير الختامي على الشكل التالي: - وفاة 144 شخصا خلال الاشتباكات المسلحة، تم تحديد هوية وأماكن وفاة ودفن 40 منهم، بينما تم تحديد هوية ومكان الرفات دون التمكن من التعرف على القبور بالنسبة ل 88 حالة. كما لم تتمكن الهيئة من تحديد هوية 12 شخصا من بين المتوفين، في حين تأكدت الهيئة من أن 4 أشخاص اعتقلوا ونقلوا إلى مستشفيات على إثر إصابتهم بجروح خلال الاشتباكات، وتوفوا و دفنوا بمقابر عادية. - 67 شخصا كانوا محسوبين في عداد المختفين ثبت للهيئة أنهم سلموا للجنة الصليب الأحمر بتاريخ 31 أكتوبر 1996." (التقرير الختامي لهيئة الانصاف و المصالحة، الكتاب الثاني ص: 104 - 105). وعلى الرغم من هذه التأكيدات، فإن هيئة الإنصاف و المصالحة اكتفت فقط اتصنيف هذه المجموعات دون نشر لوائح بأسماء الأشخاص المعنيين، و بذلك تكون الهيئة قد أحالت مهمة إتمام البحث و استجلاء الحقيقة بخصوص ما مجموعه 262 مفقودا صحراويا إلى المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى 66 حالة عالقة ( قد يكون من ضمنها أيضا صحراويون)، و بذلك يصل العدد الإجمالي للحالات العالقة إلى 328 حالة. تقرير متابعة توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة: القطيعة التعسفية لقد شكل محتوى التقرير الرئيسي الذي أصدره المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان في دسمبر 2009 بخصوص تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة قطيعة تعسفية بكل المقاييس مع التقرير الختامي للهيئة وبالأخص في ما يتعلق بالكشف عن مصير المفقودين الصحراويين. فإذا كانت الأمانة العلمية تقتضي من المجلس اتباع نفس المنهجية التي سلكتها الهيئة في محاولتها للكشف عن الحقيقة كاملة بخصوص المفقودين الصحراويين، فإن الأمانة الأخلاقية تستوجب احترام ارواح بريئة ذهب أصحابها ضحية سياسة إبادة جماعية ممنهجة. أما الأمانة التاريخية فتتطلب التحلي بالموضوعية و الإبتعاد عن الحسابات السياسية الضيقة التي لا نرى لها مبررا في مجالي حقوق الإنسان و العدالة الإنتقالية. إن كل المعطيات تؤكد – وللأسف الشديد – أن المجلس قد خان اماناته و عهده، فلم يكتف بمجرد عدم الكشف عن مصير المفقودين الصحراويين، بل سمح لنفسه بالوقوع في انزلاقات خطيرة ومتكررة ترجمت تلاعبه بمصير هؤلاء واستخفافه بعائلاتهم وذويهم. لقد أعاد تقرير المجلس تصنيف بعض الحالات العالقة كما وردت في التقرير الختامي للهيئة دون إعطاء أية إضافات لما أعلنت عنه الهيئة، كما هو الشأن بالنسبة للمجموعة الثالثة المذكورة آنفا، والمكونة من 211 شخصا، إلا أن المجلس قلص عدد الأشخاص الذين أكدت الهيئة في تقريرها الختامي أنهم تم أسرهم إثر اشتباكات مسلحة و تسليمهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تولت نقلهم إلى تندوف بتاريخ 31 أكتوبر 1996، من 67 شخصا إلى 66 شخصا، إنه التلاعب بأم عينه! أما المجموعة المكونة من 15 شخصا، والتي تمكنت هيئة الإنصاف والمصالحة، حسب تقريرها الختامي، من استخلاص وفاة أعضائها بشكل طبيعي، فتم إقصاؤها تعسفا من تقرير المجلس، فلم تتم الإشارة إليها بتاتا، وكذلك الشأن بالنسبة للمجموعة الثانية المكونة من 36 محتجزا، أكد التقرير الختامي للهيئة وفاة 23 منهم رهن الإعتقال التعسفي و13 نفذ فيهم حكم الإعدام. أما "جديد" التقرير فتمثل في لائحة بأسماء 47 شخصا "تأكدت وفاتهم جميعا أثناء احتجازهم بمراكز مختلفة" ( التقرير الرئيسي للمجلس، دسمبر 2009 ص 46)، دون إعطاء أية معلومات عن ظروف الإختفاء و أسباب الوفيات و مكان الدفن و كيفية تحديد هوية الرفات. وبعد قراءة أولية للأسماء الواردة في اللائحة، سجلنا الملاحظات التالية: - اللائحة تضم 36 مفقودا صحراويا. - تم تصنيف الطفل الزهو محمد ضمن لائحة الرجال بدل لائحة الأطفال. - اللائحة تؤكد وفاة كل من: مولود لحسن السيدة ومحمد سالم حمدي عبد الله أثناء احتجازهما (التقرير الرئيسي للمجلس، ص 47)، إلا أن ملحق التقرير (دسمبر 2010) أدرجهما ضمن لائحة المحكوم عليهم بالإعدام من طرف المحكمة العسكرية الدائمة، والمنفذ بتاريخ 19 أكتوبر 1976 في حق 13 صحراويا. ( الملحق الأول ص 158). إن هذه الملاحظات الأولية تنم عن لامبالاة المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان وعدم اكتراثه بالكشف عن مصير المفقودين الصحراويين، كما أنها تؤكد التمييز الممارس ضد الصحراويين حتى عندما يتعلق الأمر بمجال حقوق الإنسان. الملحق الأجوف! لقد تعمد المجلس الإستمرار في نهج "القطيعة التعسفية" الذي سلكه في تقريره الختامي فجاء ملحق التقرير أجوفا لا قيمة له ولا مصداقية، لأنه – وبكل بساطة- مبني على المغالطات والزيف والكذب. وبخصوص لوائح الضحايا الصحراويين الذين إدعى التقرير الكشف عن مصيرهم، فإننا نؤكد أن كل الصحراويين الذين وردت أسماؤهم لازالوا في تعداد المفقودين. فالمجلس الإستشاري لحقوق الإنسان لم يشرك العائلات في بحثه المشوه عن حقيقة المفقودين الصحراويين, و لم يجر أية تحاليل جينية للتأكد من هوية الرفات إن وجدت أصلا! بل اكتفى بعبارة "ثمة قرائن على أنه توفي أثناء احتجازه". تلك العبارة التي حرص المجلس على تكرارها بخصوص كل الحالات التي ادعى الكشف عن مصيرها. أما بخصوص مجموعة 13 صحراويا الذين حكم عليهم بالإعدام من طرف المحكمة العسكرية الدائمة، ونفذ في حقهم الحكم بتاريخ 19 أكتوبر 1976، فإننا نتساءل عن سر تأخير الكشف عن هذا الخبر، الذي نشكك في صدقيته، وكذلك عن سر عدم إشعار عائلات هؤلاء الضحايا الذين عبروا عن دهشتهم واستغرابهم مما جاء في الملحق! يفاجئنا المجلس كذلك ضمن مغالطاته الكثيرة بتحريف عجيب للأعداد وخلط غريب للأسماء في ملحق يحاول أن يوهم الرأي العام من خلاله أن صفحة الماضي قد طويت لو قبل قراءتها. ما هكذا تكشف الحقائق، ما هكذا تقام العدالة وما هكذا تتم المصالحة! هذه مجموعة من الحقائق المؤلمة بخصوص مسلسل علقت عليه عائلات المفقودين الصحراويين آمالا كبيرة، بدء بالكشف عن الحقيقة كاملة بخصوص ذويهم مرورا برد الإعتبار للضحايا و عائلاتهم، وانتهاء بمصالحة حقيقية، شفافة ودائمة. إلا أن تلك الآمال تبخرت على صخرة الغطرسة والحقد والتمييز الذي ظل يعاني منه الصحراويون منذ "المسيرة الخضراء". وتأسيسا على ما سبق، تظل جملة من التساؤلات المشروعة تؤرق عائلات المفقودين الصحراويين وفي مقدمتها: هل بالفعل هناك إرادة صادقة لدى كل الجهات المعنية لطي ملف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الصحراء الغربية طيا نهائيا ومشرفا؟ لماذا يكيل المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان بمكيالين في إطار تعامله مع ملف المفقودين؟ ولماذا تم إقصاء الصحراويين من الإجراءات العلمية المعمول بها بخصوص تحديد هوية رفات المتوفين؟ و لماذا لم ينشر المجلس لوائح بأسماء مجموعات الصحراويين الذين صنفتهم هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي؟ ولماذا لم يتم تصنيف الصحراويين الذين لم يكشف عن مصيرهم ضمن الحالات العالقة؟ ثم لماذا تلك القطيعة التعسفية مع الإنجازات التي حققتها هيئة الإنصاف والمصالحة؟ إن مجرد الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها، تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان قد عمد التلاعب بمصير المفقودين الصحراويين والاستخفاف بعائلاتهم، وعليه فإن مسلسل العدالة الإنتقالية، الذي روج له المجلس أكثر من اللازم، قد مني بفشل ذريع، على الأقل، في ما يتعلق بالكشف عن مصير المفقودين الصحراويين، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام العائلات للجوء إلى القضاء المغربي والدولي من أجل إنصافهم. * عضو المكتب الدولي لحماية حقوق الإنسان في الصحراء الغربية – جنيف