لا يمكن أن أخفي فرحتي. شعب تونس يكتب اليوم تاريخه بدمه وتضحياته. دماء محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد قبل شهر لم تذهب سدى. واهم من يعتقد أن إرادة الشعوب يقهرها الطغيان. إذا عبرت عن فرحتي فلا يعني أنني أشمت في أحد. أولئك الذين سلكوا نهج القمع وكتم الأصوات وتكميم الأفواه هم من جنوا على أنفسهم. صبر التونسيون كثيرا، تحملوا واستحملوا حتى جاء الفرج. والفرج لم يأت على ظهر دبابة قادمة من وراء الحدود، بل جاء نتيجة للتضحيات التي استمرت لأكثر من عقدين. لا يمكن أن أخفي فرحتي لأن ماجرى في تونس اليوم الرابع عشر من يناير 2011 ليس عاديا بكل المقاييس. فلأول مرة يسقط شعب مغاربي وعربي وإسلامي حاكما مستبدا بالاعتماد على دمائه وسواعده فقط، وليس عن طريق انقلابات عسكرية أو "ثورات" موهومة التهمت أبناءها وفتت أوطانها وشتت سواعدها وعقولها. ما جرى في تونس يعد سابقة في المنطقة لا ينبغي الاستهانة بها. الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه بعجالة من انتفاضة التونسيين، هو أن الاستبداد لا يدوم وتغييب الإرادة الشعبية مغامرة كبرى وأن الكرامة هي أغلى ما يملك الإنسان. ومن يحاول النيل من كرامة الإنسان كمن يطلق المارد من قمقه. قبل ثلاث سنوات تقريبا كتبت أول مقال عن تونس تناولت فيه مسألة الرقابة ومحاربة الرأي الآخر "المعارض" للخط الرسمي، وذلك على خلفية إغلاق محطة "راديو كلمة" كونها محسوبة على 'المعارضة‘ بحسب وجهة نظر السلطات التونسية. وبعذلك توالت اتصالاتي بزملاء تونسيين ينجزون مهامهم الصحفية تحت ظروف لم أكن أتخيلها. ذات مرة كنت أتواصل عبر "الشات" مع صحفي تونسي ليزودني بمعطيات كنت بحاجة إليها، فنبهني إلى أنه لا يمكن له البقاء في مكان واحد أكثر من نصف ساعة، لأن لإنترنت توجد تحت المراقبة وأن رجال السلطة قد يداهمون عليه المكان في كل لحظة. لا أخفي عليكم أنني أصبت حينئذ بالفزع. أكثر من ذلك كل من أتحدث إليهم في تونس كان لا يجرؤعلى أن ينطق اسم رئيس البلاد. لهذا الحد كان الرعب مستحكما. والمعارضة؟ كانت هناك معارضتان. المعارضة الرسمية التي تشارك في الانتخابات إلا أنها في الحقيقة بمثابة ديكور للحزب الحاكم. ومعارضة مستترة تطاردها الأجهزة الأمنية بكل الوسائل. قبل بضعة أشهر نشرت صحف عربية وغربية أن النظام التونسي أرسل مجموعة من العناصر الأمنية للتدرب في بعض الدول الأوربية على أساليب تشديد المراقبة على وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والاتصالات الهاتفية والصحافة الاجتماعية. إلا أن التونسيين طوروا أساليب أكثر فعالية للتواصل في ما بينهم وإيصال معاناتهم للخارج. والدستور؟ أكبر أكذوبة في ظل مثل هذه الأنظمة. يستند عليه الديكتاتوريون لتبرير تصرفاتهم وشرعنة قهر شعوبهم، ويمسحون به أحذيتهم في ما عدا ذلك. والبرلمان؟ جوقة مهمتها الأساسية التصفيق والتغني بمنجزات الزعيم الضرورة! والغرب؟ صمت طيلة عقود وخيرا فعل. شهر كامل والتونسيون يتساقطون على أيدي القوات "الأمنية" دون أن تهتز للغرب قصبة للتنديد بانتهاك حقوق الإنسان على يد ديكتاتور تصرف في تونس كما يتصرف عضو المافيا. الغرب ساند النظام في تونس على حساب الحقوق المدنية الأساسية للشعب التونسي وعلى حساب المواثيق الدولية التي دبجها هذا الغرب نفسه. لم يجد التونسيون من يتوجهون إليه بالشكوى، فكانت سواعدهم هي الملاذ الوحيد. الدرس الثاني الذي يجب استيعابه جيدا وخاصة من قبل السياسيين، هو أن الشعب التونسي خرج إلى الشوارع في غياب تام عن القيادات الساسية سواء في الداخل أو في الخارج. شعارات التونسيين كانت خالية من الشعارات الخشبية للسياسيين. وحتى تصريحات هؤلاء طيلة الأحداث كانت غامضة بلاطعم وبلا رائحة. وحينما بدأ الصنم يتململ حاول بعض السياسيين "المصنمينّ" أن يظهروا بصورة من حرك الشعب. تشويش لا ينطلي على أحد. والجيش؟ أكبر مجهول حتى الآن. أما بنعلي فما يزال يبحث عن مطار يستقبله.