بعد أن نجح الشهيد البطل محمد البوعزيزي في تفجير ثورة تونس,وبعد أن أفلح الشعب التونسي الشجاع في كسر قيد الغل الذي كبله به الديكتاتور بن علي لما يزيد عن 23 سنة,وبعد أن سقط النظام الديكتاتوري في تونس,فتحت الأفواه وكثرت الأقلام وكثر معها القيل والقال وتهافت المتهافتين,وهم في الغالب من المنافقين المتملقين,وكذا المسترزقين الساعين للركوب على نضالات الشعب التونسي,فقد تحول بقدرة قادر أولئك الذين كانوا بالأمس القريب رضعا من ثدي نظام بن علي المبجلين,المقدسين له,والمادحين لسياسته,إلى أكبر الناقمين عليه,الشاتمين له ولعائلته, وأصبحوا يباركون ثورة الشعب التونسي ويحيونه على شجاعته وبسالته أمام الآلة القمعية لآل طرابلسي وبن علي,في حين كانوا قبل ذلك على علاقة وطيدة و"حميمة" مع هذا النظام الفاسد,لم يحدث هذا في تونس فقط مع رفاق بن علي في حزب التجمع من أجل الفساد والنهب,بل تعداه إلى خارجها,ففرنسا حليفة الديكتاتوريين وأكبر مساند للديكتاتورية في البلدان المستضعفة والمغلوبة على نفسها,وعلى رأسها تونس,وقفت أيام الثورة موقف المتفرج مما يحدث ولم يصدر منها موقف حاسم وشجاع إلا بعد أن رأت أن توانسة قضوا أمرا كان مقضيا,وأن الثورة نجحت,فتدخلت كما تتحدث عن ذلك بعض المصادر لتوفير الحماية لبن علي وتسهيل عملية هروبه,وفي مرحلة موالية لإعلان وقوفها إلى جانب توانسة ودعم مطالبهم,وفي المغرب وكالعادة عندما يتعلق الأمر بقضية ما,يكون هو آخر من يقول كلمته لأنه ينتظر دائما ما سيقوله الآخرون ليبني موقفه ورأيه على رأيهم,حيث أعلن عن موقفه المؤيد والمساند للشعب التونسي وهو رأي الأغلبية طبعا,لأنه ضرورة حتمية,إذ لا جدوى بعد من التضامن ومساندة بن علي الذي أزيل من مكانه,فلم يكن بذلك موقف كل المتملقين,المنافقين,من الثورة التونسية سوى تحصيل حاصل,حيث أن الوقوف إلى جانب الرئيس الهارب يعتبر في هذه الحالة موقفا شاذا وغريبا. يدخل في إطار هؤلاء المتهافتين كذلك في تونس أو خارجها,سواء في المغرب أو في الجزائر أو مصر أو لبنان أو إيران...مجموعة من المسترزقين وأشباه المثقفين من المحللين والصحافيين والكتاب وزعماء أحزاب,كل يحاول الحديث عن ثورة الياسمين على هواه,وكل هؤلاء لا ينطلقون في تحليلاتهم ومواقفهم من منطلق علمي محايد,بل من منظور إديولوجي سياسوي ضيق,إذ من الغريب حقا أن تجد بعض الإسلامويين يفسرون تلك الثورة التاريخية بأنها غضب الله وسخطه على بن علي الطاغية العلماني الحداثي كما تزعم هذه الآراء,ومن الغريب كذلك أن تجد بعض المتمركسين و الاشتراكيين والشيوعيين يحاولون الركوب على دماء الشهداء التونسيين,فتجدهم يتحدثون عن ثورة تونس كأنها الثورة الاشتراكية أو البولشفية أو أنها ثورة البلوريتاريا ضد البورجوازية,والصحيح أن لا شيء من ذلك صحيح!! الصحيح أن البوعزيزي ومعه كل الشعب التونسي لم يحركه نزوع إسلامي ضد العلمانية أو الحداثة اللتان يضعهما المغلفة عقولهم خصما وعدوا للإسلام,بل إن بن علي نفسه لم يكن لا علمانيا ولا حداثيا ولا هم يحزنون,ولا يشرف العلمانيون الأحرار أن يكون منهم,بل كان ديكتاتورا متغطرسا,فلو كان حقا علمانيا و حداثيا متنورا لاستمع لصوت الشعب الذي عمل على تفقيره واضطهاده لمدة تزيد عن عشرين سنة,ولمنح كامل الحريات لمختلف أبناء الشعب بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم,فالعلمانية تضمن حق الاعتقاد والتدين و تحث على ضرورة احترام معتقدات كل المواطنين ولا تحاربها كما فعل بن علي مع المحجبات وكما كان يفعل مع بعض أئمة المساجد الرافضين لغطرسته وجبروته,فأية حداثة وأية علمانية هذه؟ إن محاولة المسترزقين الاسلامويين أن يصبغوا ثورة تونس المجيدة بصبغة إسلامية على شاكلة الثورة الإيرانية,لهو كذب وبهتان,إذ أن الثورة التونسية الخالدة شارك فيها العلماني والعلمانية إلى جانب جميع فئات الشعب دون تمييز,في توحد واتحاد قل نظيرهما,وفي ملحمة أعطى فيها الشعب التونسي لكل الشعوب درسا من دروس التضامن والتعاون والإتحاد,وليسع المرء إلا أن يقف وقفة إجلال وإكبار تحية لهذا الشعب الذي تحول في ظرف وجيز إلى أشبه بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى والثورة والغليان. ما قيل عن الاسلامويين يصح قوله عن المتمركسين الاشتراكيين والشيوعيين الذين يحاولون التسلق على ظهر البوعزيزي وعشرات الشهداء التونسيين الذين لم تكن تحركهم أفكار ماركسية لينينية,ولم يكونوا ينتمون إلى ما يسمى بالطبقة العاملة في الفكر الماركسي,ولم تكن ثورتهم ضد طبقة بورجوازية يعملون أجراء عندها وتستغلهم,كما لم تكن ثورتهم شرقية ولا غربية,ولا استوردوها من الخميني ولا من لينين,ولم تكن بتأطير من نقابة أو حركة أو حزب من الأحزاب,بل كانت ثورة تونسية شعبية ضد الظلم والطغيان,وضد الاستبداد والمحسوبية و الزبونية,فثار الفقير إلى جانب الغني ومتوسط الحال,والمثقفين من صحافيين ومحامين وأساتذة جامعيين ودكاترة ومن هم "أقل ثقافة" ضد الديكتاتورية والنظام القمعي,في ملحمة ستبقى في التاريخ شاهدة على وحدة واعتصام جميع أطياف الشعب التونسي بمختلف تنوعاته الفكرية والمذهبية والطبقية بعضهم ببعض,ولعل أصدق ما قيل عن ثورة تونس ما جاء في مقال"مات الملك...عاش الملك" لحمدي مسيهلي,حيث يقول"لا أحد يملك الحق في التكلم باسم الشعب الذي قلب نظاما خانقا بقبضته ودماءه..لا أحد فينا يملك شرعية الركوب على الحدث واعتبار هذه الثورة عطية من الآخرين..فالشعب قرر مصيره بغض النظر عن نتيجة ذلك وعلى المتملقين والمنافقين الاعتراف بخذلاننا لسنوات وسنوات بعد أن عاشوا في دفئ السلطة وتحت رعايتها..وعلى الآخرين ممن اتخذوا موقف الحياد خوفا أو خشية تحرير عقولهم من تلك الرقابة والتقدم لبناء البلد من جديد فبلادنا في حاجة ماسة لكل أبنائها وعلينا الكف عن مزايدات الوطنية والتحريض على الفوضى فبعد أشهر سيقول الشعب كلمته وسيجني ثمار ثورته وسنستنشق لأول مرة بعضا من الحرية..التي استطعنا إليها سبيلا",يتضح إذن أن محاولة الكثيرين-حتى خارج تونس-الإسراع إلى استغلال دماء التوانسة الذين سقطوا في هذه الثورة,على منابرهم وفي خطبهم خدمة لمصالحهم وسعيا منهم لنيل الزعامة والظهور بمظهر البطولة ونسب ما تحقق لأنفسهم وكسب عواطف الناس لأغراض سياسوية انتخابية محضة هي محاولة استرزاق مفضوحة. إن السؤال الجوهري الذي لم يتجرأ أحد من هؤلاء المنافقين على طرحه هو متى ستثور بقية الشعوب المقهورة وتحدو بذلك حدوا تونس الشجاعة؟ الملاحظ هنا أن أغلب المثقفين والنخب والشعوب التي تعيش تحت الأنظمة الديكتاتورية لا تمتلك الشجاعة للتعبير عن آرائها اتجاه الطغاة الحاكمين لأنها تعرف مسبقا ماذا سيكون مصيرها إن هي تجرأت على ذلك,وتبقى تلك الأقلية القليلة ممن يمتلكون الشجاعة معرضة لشتى أنواع التعذيب والتنكيل والنفي,لذلك نجد أن الأغلبية المثقفة تنتظر دائما سقوط الطغاة أو موتهم حتى يعلنوا عن مواقفهم المكبوتة ويفرجوا عن آرائهم ومواقفهم الحقيقية,قبل أن كانوا مجرد مادحين مجاملين وخداما أوفياء للبلاطات الديكتاتورية,فمن كان يجرأ في عهد هتلر و موسوليني على وصفهما بالديكتاتوريين؟ومن من العراقيين في عهد صدام كانت له الشجاعة على وصفه بالديكتاتور ماعدا الأقلية القليلة جدا التي نعرف مصيرها؟ومن في المغرب كان قادرا على الإشارة بأصبعه إلى أوفقير و من بعده البصري؟ ومن في تونس كان قادرا على الوقوف في وجه بن علي؟ ومن اليوم يستطيع نعت مجموعة من الديكتاتوريين بالديكتاتورية؟ وإلى متى ستبقى هذه النخب تنتظر موت ديكتاتور أو هروبه لتفتح لها الأفواه وتتفتق قرائحها وتفرج عن مواقفها المنافقة؟ ومتى ستتشجع الشعوب المقهورة على الخروج في مظاهرات احتجاجية وهي ترتدي أقنعة "كاريكاتورية" ساخرة من حكامها كما يحدث في الدول الديمقراطية؟ومتى يسأل الديكتاتوريون أنفسهم؛هل تلك النخبة المجاملة المادحة الضاحكة المحيطة بهم تحبهم فعلا أم أنها تفعل ذلك نفاقا واسترزاقا وتكسبا وضمانا للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها كما حدث مع بن علي الذي أصبح الكثير من أكبر رفاقه و"أحبائه" البارحة يتبرؤون منه ومن أفعاله اليوم؟؟ الثورة أمر حتمي وحقيقة لا مفر منها إذا استمر مسلسل النهب و التفقير والاستبداد والفساد؛فعندما يصل الإنسان إلى مرحلة اللاعودة من اليأس,فإنه يصبح مستعدا للقيام بكل ما تمليه عليه نفسه,من إحراق للذات,أو تفجيرها, وارتكاب الجرائم...لأن الثائر على الوضع في هذه الحالة يصل به اليأس وفقدان الأمل إلى حقيقة مفادها أن لاشيء لديه سيخسره,وأن كل ما سيقوم به سينير الطريق للآخرين,وهذا ما حدث فعلا مع الشهيد البوعزيزي الذي ألهم وألهب حماس الجماهير في كل المدن التونسية,بناء عليه فإن تلك التحليلات المجاملة المصطنعة التي طلعت علينا هذه الأيام,والمخالفة تماما للواقع,والتي تحاول جعل المغرب في منأى عن الاحتجاجات مثل تلك التي حدثت في تونس,تبقى تحليلات منافقة وكاذبة,وقد ألفنا مثل هذه الخرجات والإحصائيات المدفوعة الأجر,حيث أنه في عز أيام الأزمة الاقتصادية التي هزت أقوى الاقتصاديات العالمية طلت علينا نفس التحليلات تقول بأن المغرب لن تعرف إليه تلك الأزمة سبيلا,في حين أن الواقع عكس ذلك تماما,فالأزمة والفساد هما عنوان كل القطاعات,والمواطن المغربي هو الضحية,فقد عهد تلك الحسابات المخادعة التي تقدم المغرب على أنه أقل من ألمانيا من حيث نسبة البطالة,وأفضل من السويد من حيث الدخل,وأقل فقرا من الدنمارك!!! الواقع أن مثل هذه التحليلات و الخرجات لن تغطي الشمس بالغربال,فالكل يعرف أن الشباب المغربي يعيش على فوهة بركان وأن في المغرب مئات وربما آلاف "البوعزيزيين",وأن الأوضاع سيئة للغاية وما إقدام مجموعة من المعطلين على إحراق جماعي لذواتهم أمام البرلمان وركوب الآلاف لقوارب الموت لأفضل مثال,وما انتفاضة صفرو,و إفني ,و بوكيدارن ,و بومالن دادس و تنغير,لخير دليل على الوضع الحقيقي المزري للمواطن المغربي,هذا الوضع الذي تحاول أن تخفيه الإحصائيات الرسمية والتحليلات المأجورة,والذي ترتعد له فرائص بعض المسؤولين الذين أسرعوا لوضع مهدئات للمعطلين بفتح الباب لولوج بعض الوظائف,وإن كانت تلك المبادرات مجرد محاولات لدر الرماد في العيون,وتهدئة خواطر المعطلين والمواطنين الملتهبة مباشرة بعد ثورة تونس مخافة أن تنتقل "العدوى" إلى المغرب,لذلك نجد أن هؤلاء المسؤولين يعلمون علم اليقين أكثر من غيرهم وأكثر من أولئك المحللين الذين يسخرونهم أن الثورة قادمة في كل ساعة ودقيقة,لذلك فهم يصارعون الزمن لكي ليروا الجحيم ثم ليرونها عين اليقين,لكل هؤلاء نقول حل واحد وأوحد يكفينا شر الخصام؛توزيع الثروات بشكل عادل بين مختلف أبناء الشعب,وإشراك جميع أبنائه في دوائر صنع القرار دون تمييز أو إقصاء,أما ما دون ذلك من حلول ترقيعية وتحليلات مسخرة وخطب كاذبة لخطباء مأجورين,فلن تزيد الأمور إلا تعقيدا,امنحوا الناس حقوقهم وحرياتهم كاملة وكفى من القمع والنهب والفساد و التفقير,وبادروا إلى التغيير قبل فوات الأوان,بادروا إلى التغيير قبل أن تغيروا وتتغيروا مجبرين مضطرين خاسئين كما وقع لبن علي,وأما الإحصائيات والتحليلات الفارغة و "الهضرة" كما يقول المثل المغربي" ما تشري خضرة ما تعمر كدرة",فبادروا إلى التغيير قبل أن تقع الواقعة ليس لواقعتها كاذبة خافضة رافعة,وعندما تمنح كامل الحقوق لكل المواطنين فكونوا على يقين أن لا أحد بعدها سيفكر في الثورة,بل لن يكون له وقت لذلك,أما توجيه أنظاره واهتمامه صوب قضايا بعيدة عنه لإلهائه عن همومه وقضاياه الحقيقية فتجارة بائرة وأسلوب فاشل,واعلموا أنه لا يوجد وطن في منأى عن الاحتجاج والثورة عكس ما تروج له تحليلاتكم الكاذبة,ماعدا الأوطان التي يحس فيها الإنسان بكرامته و إنسانيته,ويتمتع فيها بكامل حقوقه وحرياته بعيدا عن الأكاذيب والشعارات الزائفة البراقة وبعيدا عن استغلال المستغلين وتهافت المتاهفتين وتزوير المزورين من المحللين المأجورين,فالشعب عندما يبلغ صبره حده فسينتفض بشكل تلقائي وحتمي,ولن يكون في حاجة إلى من يملي عليه ذلك,سواء أكان من الاسلامويين أو المتمركسين الاشتراكيين أو غيرهم من المتهافتين الذين يحاولون عند كل انتفاضة شعبية الحديث باسم الشعب وكأنه ملك لهم أوكأنهم هم من فجر تلك الانتفاضات وليس الشعب الذي يحاولون الركوب على نضالاته, فالثورة تأتي بغتة دون إملاء من أحد كما حدث في تونس,فمن كان يتوقع أن يتحول بائع بسيط إلى مفجر ثورة غاضبة أسقطت نظاما متغطرسا وقمعيا ظل جاثما على السلطة ناهبا لثروات الشعب لعقدين من الزمن؟؟ سارعوا إلى تغيير ما يمكن تغييره قبل أن تحل الكارثة عوض أن تسارعوا للكذب والضحك على الذقون فقد مل منهما الشعب,واعلموا للمرة الألف أن وطننا ليس ملقحا ضد الأزمات و الثورات كما تسوق لذلك تحليلاتكم,خاصة في ظل الفساد الذي يعلم عنه المغاربة صغيرهم وكبيرهم,فخذوها نصيحة و وصية من مواطن مغربي مقهور وغيور على وطنه ومواطنيه.