حالة "ذاكرة السمكة" في النسيان والضعف تمثل الحالة الراهنة لمواقف بعض المسؤولين والفاعلين السياسيين في مقاربتهم لقضايا الشأن العام، وتفاعلهم مع تطورات الأحداث وانشغالات وهواجس الرأي العام. فلا تكاد تمضي سوى أيام أو شهور على إعلان أحدهم موقفه السياسي في قضايا تمس جوهر نظام الحكم حتى يَصْدُر عنه ما يَنْسَخ هذا الموقف أو يُبَدِّله ليأتي بأسوأ منه. قبل حوالي عام تقريباً، وبالتحديد في 4 مارس 2011، أطلق الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران نيران مدفعيته على صديق الملك ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة فؤاد عالي الهمة ورفيقه في الحزب إلياس العمري ومدير الكتابة الخاصة للملك محمد منير الماجيدي متهماً إياهم بالتحكم في الحكومة بالهاتف وتخويف رجال الدولة وإعطاء التوجيهات للقضاة، لأنهم "يستمدون نفوذهم من القرب من الملك وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون". وشبَّه ابن كيران هؤلاء الأشخاص، والذين يتبعون توجيهاتهم، ب"الاستعمار"، بل "يمثلون الاستعمار ويعتبرون المغاربة عناصر يجب ضبطها بالعصي والجزرة وبوسائل القمع والتجسس والأساليب البالية التي أسقطت بن علي". وهو كلام بالغ الخطورة يستدعي في أي نظام ديمقراطي التحقيق مع الأشخاص الذين وُجِّهت إليهم الاتهامات للتثبث منها أو مساءلة مُروِّجيها افتراء وبهتاناً، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. كان هذا موقف الأمين العام لحزب العدالة والتنمية وهو يتحدث عن الإصلاحات السياسية الضرورية التي ترفع الضيم عن المغاربة في سياق الحراك السياسي والاجتماعي الذي خلقته حركة 20 فبراير، والمحنة التي تعرض لها الحزب بعد اعتقال القيادي جامع المعتصم، معتبراً أن المدخل المناسب هو تصفية الاستعمار وإزاحة ممثليه ورموزه من أجل "إدارة الدولة بطريقة عادلة ومنظمة وديمقراطية". واختار ابن كيران الاحتجاج بأسلوبه الخاص على "إسقاط الفساد والاستبداد"، لأنه يخشى المغامرة بحزبه ويريد أن يحافظ على نهجه الإصلاحي وفقاً لمنطق التدرج والتراكم، وهو اختيار يترجم مقاربة الإصلاح في إطار الاستقرار وصيانة المكتسبات. هذا التشخيص لأعطال نظام الحكم والجهات التي تحاول إعادة إنتاج أساليب الاستعمار في التحكم والضبط واستخدام الأساليب البالية التي أسقطت أنظمة ديكتاتورية سيتلوَّن بتغير الموقع الذي فرض على معالي رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران نقل البندقية من كتف التنديد والشجب إلى كتف الدفاع والمنافحة، بل والمدح الذي يستثير قريحة الشاعر. فأصبح اليوم وجود فؤاد عالي الهمة في القصر "شيئاً إيجابياً. في النهاية فهو لديه مرتبته ومكانته، وهو شخص متفهم، وما وقع بيننا في المرحلة السابقة طويت صفحته، لكن ما يمكن أن أقوله لك أن علاقتنا الشخصية كانت طيبة من قبل، وطيبة الآن" و"التنافر غير موجود البتة"، لأن فؤاد رجل لطيف. سؤال لمعالي رئيس الحكومة: كيف ستؤسس لدولة الحق والقانون والمؤسسات بالتلون في المواقف وأنت تتعاون مع مسؤول اتهمته بما تشيب له رؤوس الولدان؟ ولو أن هذه الاتهامات صدرت عن أحد اليائسين أو المتشائلين لكان مصيره وراء الشمس (وبالقانون، لا يهم إن كان قانون الصحافة أو القانون الجنائي..)، ولن ينفعه تدخل وزير العدل ولا وزير الحريات. لا يمكن أن يخرج هذا التلون في المواقف عن احتمالين، إما أن معالي رئيس الحكومة "يستهبلنا" ولا يجد غضاضة في استمالة مستمعيه بالعزف على الأنغام التي تطربهم، ويبذل قصارى جهده في ضبط الإيقاعات حتى لا تبدو ألحانه نشازاً. وبعد انتهاء الحفلة يكسر أدوات العزف والطرب "ويعود العداد إلى الصفر"! ويصبح كل شيء في غاية اللطف (سبحان مغير الأحوال). وإما أن رئيس الحكومة أدرك أن "الذي يده في العصيدة ليس كمن يده خارجها"، وأن كل محاولة لمقاومة الرحى المخزنية ستكون عبثاً، لأنها تدار على قطب بيد فولاذية، وهو ما فشل فيه المناضل الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي ومول النجاة المطحون أصلاً... فلا تستنفدوا يا معالي الوزير رصيدكم هباء واستعينوا بقليل من المصداقية حتى لا تكونوا كالتي في "الصيف ضيعت اللبن".