في الحملة الانتخابية الأخيرة ، وفي منسبات حزبية أخرى يستفزني خطاب الأحزاب السياسية على اختلاف مواقعها ومشاربها الفكرية بذلك الميل" الغريزي "نحو التعصب الأهوج لمنظومة الحزب الفكرية ولمرجعيته السياسية ولقيادته الحزبية ، فالخطباء والمتدخلون في غالبيتهم الساحقة يرفعون أحزابهم في مرتبة " المقدس " وينزلون بخصومهم إلى "درك المدنس ". إن هذا الخطاب بقدر ما هو منفر ، مقزز، فهو كذلك خطير للأسباب الآتية : -1 انه يمهد الطريق لقادة الأحزاب ليتحولوا إلى "طغاة " و"جبابرة " ، وبلغة أخرى إلى "ملائكة " معصومين من الخطأ ، يبحون لأنفسهم فعل ما شاءوا لذلك رأينا بعضهم يورث الموقع القيادي لنجله ، ويضع شقيقه أو قريبه أو "ذيله " وكيلا للائحة الحزب الوطنية ، أو على رأس أختها المحلية ، وفي حالات جد محتشمة يبوئهم رئاسة جمعيات تدر عليه "ريعا سياسيا " يمكنه من إعادة إنتاج مكسبه ومكانته المعنوية التي لا ينبغي أن تصادر مادام في البدن عرق نابض . -2 كان هذا النزوع وراء فذلكة خطاب يدعي أن اكتمال الدين وتمام الإيمان يرتبطان بهذا القدر أو ذاك بالتصويت على لون بعينه لأنه " الفرقة الناجية " أو خلية الله " في الأرض ، ويجرؤ هؤلاء على إصدار هذه "الفتوى "في زمن صدح فيه زعيم سياسي مشهود له دوليا بالكفاءة السياسية والنزاهة الفكرية كأردوغان بفصل الدين عن السياسة لا سميا في هذا الزمن الذي أصبح فيه التعدد سيمة بارزة ، تعدد في التيار الاشتراكي ، تنوع في التوجه الليبرالي ، اختلاف سياسي وعقدي في التيار الإسلامي ... و مع ذلك يصر كل طرف على " تقديس الذات " و"تبخيس الأخر "، ألا يدفع هذا الإلحاح المجتمع إلى أتون التطاحنات وأوحال الكراهية التي لا تفيد لا البلاد ولا العباد ؟ -3 يغيب كليا في الخطاب الحزبي حس النقد ، نقد الذات قبل الآخر ، فلا سياسية موفقة ولا بر أمان بدون عقل نقدي ، يشرح الذات الحزبية ليس فقط داخل الخلايا الحزبية ، واللقاءات الدورية ، بل أمام الملأ أي في التجمعات الانتخابية والجماهيرية ، وأن يتاح للجمهور تتبع مجريات الأحداث وكأنه منخرط في التنظيمات الحزبية ، فكفى من " تضبيع " المواطنين وتحويلهم إلى قطيع يقاد وينقاد وفق رغبات الزعيم ، فهده القيادة تقرر" التناوب" بمفردها وبعد ولاية واحدة تعود لتكشف في بروكسل عورات التجربة ، وتلك تحجم نفسها لآن وزارة الداخلية أرادت ذلك ، وهذه تتنازل عن فرسانها الرابحة لغيرها ، أما إذلال القواعد فتلك لازمة و نوطة تعزف عليها كل الأحزاب ، فيحدث أن تنتخب القواعد مرشحها لكن في رمشة عين تطيح به القيادة وتتوعد من لم ينضبط ! -4 إن المشهد السياسي يكاد يختصر في أن الأحزاب تطالب الدولة بالديمقراطية ، لكنها في علاقتها بالأحزاب الصغرى والمناضلين تمارس الدكتاتورية ، فحين نجبر على تحمل رؤية القائد الأبدي والمسئول الإقليمي ( حزبي و نقابي ) الخالد والبرلماني السرمدي والرئيس الدائم نفهم أن هذا من أمارات غياب الدموقراطية في الأحزاب ، وكذلك من دلائل ضعفها ، فالتنظيمات حين تنتهج هذا تضع القيادة نفسها " رهينة " للدوائر المختصة ، فالشخص حين " يتحنط " في كرسي ، المسؤولية ما كان ليكون له ذلك لولا أنه قبل أن يصبح " أداة " لذلك نرى أن الجهات المعنية لم تعد تعير أدنى اهتمام للأحزاب ، بل تنثر أمامها حبات القمح والذرة و...فتلتقط " الديكة " ما لذ وطاب وتوزع على الدجاج والفراخ ما فضل عن الموائد . -5 إن نفور المواطن من العمل السياسي له إذن ما يبرره ، ففي هذا الزمان أضحت لعوائق الممارسة السياسية دواعي كثيرة ، لذلك رأينا أن البعض أنكفأ على ذاته وطلق السياسة طلاق ثلاث ، وهكذا رأينا احتياطنا هاما من اليسار الثوري في زمن سنوات الرصاص يشكل عصب حزب كحزب الأصالة والمعاصرة في حين أحرجت تيارات أخرى أمام مرجعياتها التي صارت اليوم دالا بلا مدلول وعرت نفسها حين تغطت بغطاء " الحداثة والفكر الليبرالي "!