لا يمكن لأي واحد إلا أن يصفق لمبادرة محمد حبيب الطالب بإثارته لهذا النقاش (الورقة المنشورة يومي 29 و30 أكتوبر بجريدة الاتحاد الاشتراكي) حول الوضع الحزبي والسياسي الراهن في هذه اللحظة بالذات، خاصة ونحن على مشارف دورة للمجلس الوطني قد تكون لها نكهة خاصة. شخصيا كنت دائما من أشد المقتنعين بأن اندماج الحبيب ورفاقه من الاشتراكي الديمقراطي سابقا في الاتحاد اشتراكي، لا بد وأن يقدم إضافة نوعية وهامة في حياتنا الحزبية افتقدنا مثلها منذ مدة طويلة، وذلك ما يتجسد بالخصوص فيما عبر هو نفسه عنه في الورقة موضوع حديثنا، بالحاجة «إلى إرجاع الاعتبار للإيديولوجيا في حياتنا الحزبية وإغناء وتجديد تفكيرنا الاشتراكي، والانكباب على عملية تثقيف واسعة ودائمة لأطرنا وقواعدنا الحزبية ..» اندماج الحبيب ورفاقه كان له أيضا، قيمة مضافة أخرى، أنه أغنى الثقافة الاتحادية بمنظور أو طريقة جديدة للنظر إلى السياسة، قد تكون مختلفة نسبيا عما تعوده الاتحاديون من قبل، هذا المنظور الذي هو ثمرة اجتهاد وتراكم فكري طويل تتبعنا أو تتلمذنا جزئيا من بعض أدبياته، وذلك منذ تجربة 23 مارس و مرورا بمنظمة العمل ثم الاشتراكي الديمقراطي إلى آخر الأدبيات المنشورة حديثا ومنها هذه الورقة نفسها. لكن هذا المنظور بالذات، هو ما يطرح نفسه للمساءلة والنقاش، باعتباره كأي منظور آخر، له ما له وله ما عليه، وأنا أستسمح هنا لأن أتجاوز مؤقتا إطار الورقة، لأقدم ملاحظات عامة عن المنظور، حتى يسهل علينا أكثر ربما، فهم المنطق الذي يوجه هذه الأخيرة . أو الباراديغم بلغة إدغار موران، أو الإبستيم بلغة فوكو ... الذي تنتسب إليه. ما يطبع هذا المنظور ، ولا أقول حصريا، انتظامه في إطار ما يعرف بأطروحة التاريخانية، كنظرية في التاريخ من وحي فلسفة هيجل، وبصياغة أولية بالنسبة للمغرب والعالم العربي من طرف عبد الله العروي. مفاد هذه النظرية بإجمال، أن جميع المجتمعات بما فيها المغرب، لا بد وأن تمر من كل المحطات التاريخية التي سبق وأن عرفها الغرب قبل وصوله إلى لحظة التطور الراهنة، أي أن تعيش هذه المجتمعات نفس التجربة أو «اللحظة الليبرالية»، كما عاشتها المجتمعات الأوروبية، أو ما نسميه نحن الآن بتجربة الانتقال الديمقراطي، أو ما يوافق في الأدبيات الماركسية القديمة مفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية. ومن المعروف أن هذه الأطروحة سبق وأن تواجهت مع أطروحتين أخريين مناقضتين لها: أطروحة يسارية كانت تدعو إلى تحقيق القطائع وحرق المراحل كما حدث في الصين أو روسيا لتحقيق المجتمع الاشتراكي بدون انتظار نضج «المجتمع البرجوازي»، أو ما كان ينعت في وقته أحيانا بالشعبوية أو الإرادوية ...، ثم أطروحة إسلاموية أو خصوصية، تعتقد أن لمجتمعاتنا العربية والاسلامية مسارا خاصا بها لا يمكن أن يحاكي بالضرورة مسار المجتمعات الغربية. وإذا كان هذا التصور للتطور التاريخي قد أثبت على العموم صحته في اعتقادي، بعد أن أثبتت العديد من التجارب سواء في الاتحاد السوفياتي أو الصين، أو حتى في إيران الخميني مؤخرا، صلابة الواقع الموضوعي وصعوبة القفز عن المنطق الخاص للتاريخ، وأظهرت كم هو واهم من يعتقد أنه يكفي بوجود إرادة ذاتية قوية أحيانا، للقفز على القوانين الموضوعية للتاريخ. غير أن التجربة أظهرت أيضا حدود هذا التصور أو بعض مجالات قصوره. يتجلى هذا القصور بالخصوص، حين يتم الاعتقاد بأن تلك «اللحظة الليبرالية» المفترض أن تمر منها كل المجتمعات، هي تجربة «ساكنة» أو مماثلة لنفسها في كل المجتمعات، أو التعامل معها وكأنها علبة سوداء لا يهم ما يحدث داخلها من تفاصيل الأمور ومنعرجات دقيقة، قد يكون للبعض منها الأثر أو القدرة الكافية حتى على قلب مسار تلك التجربة الليبرالية برمتها في هذا الاتجاه أو ذاك، أو كما يعبر عنه بالقول: «أن الشيطان قد يسكن أحيانا في التفاصيل»، أي أن هذا التصور الساكن والجامد بما يقرب في بعض المرات من فكرة «الجوهرانية» (اعتقاد وجود جوهر أو طبيعة واحدة وثابتة للتجربة الليبرالية)، هو ما يجعل أصحابه يحاولون استنساخ هذه الأخيرة حرفيا ومحاولة إسقاطها على المجتمعات الأخرى، أو ما كان مهدي عامل قد انتقده في حينه فيما سماه بمنطق المماثلة. وقد يعود السبب في هذا الاستنساخ الأعمى إلى تغافل أصحابه من بين أشياء أخرى، على معطيين أساسيين: - أن التجربة الليبرالية نفسها قد تعاش بطرق مختلفة، وذلك بحسب الشروط الخاصة بكل مجتمع. التجربة أو التجارب الأوروبية ليست هي اليابانية، وهذه الأخيرة ليست هي الهندية، بل وحتى ما عرفته روسيا أو الصين من اشتراكية دولتية، قد لا تكون هي أيضا أكثر من صيغة مشوهة عن اللحظة الليبرالية. كما أن المدى الزمني لهذه اللحظة قد يتفاوت ما بين عدة قرون في التجربة الانجليزية وبين بضعة عقود فقط في النموذج الكوري أو الماليزي. وقد يكون المحفز أحيانا لذلك هو العامل الاقتصادي، أو في حالات أخرى، تحول في الرؤية الثقافية، في حالة إصلاح ديني مثلا، أو بفعل عامل سياسي. وفي الحالة الأخيرة قد يتم ذلك بفضل تدخل خارجي استعماري أو بوصول حاكم مستبد وعادل، أو حتى بوجود نظام عشائري وقبلي له قابلية ما لأن يتحول بسهولة إلى الديمقراطية والليبرالية .... - المعطى الثاني، أن اللحظة الليبرالية حينما عرفها الأوروبيون، كانوا لا يزالون يعيشون في إطار مجتمعات مستقلة بعضها عن بعض، ولكل منها القدرة على التحكم في قرارتها الوطنية الخاصة. وقد تكون اليابان آخر من أنجزت تجربتها الليبرالية في إطار وطني مستقل. أما بعد أن تعممت الظاهرة الأمبريالية سابقا ثم العولمة حاليا، فإنه لم يبق لأي مجتمع في العالم استقلاله أو حرية التصرف في قرارته، بما فيها بعض المجتمعات المهيمنة. ولذلك فإن اللحظة الليبرالية لم يعد ممكنا إنجازها بناء فقط على المعطيات الوطنية الخاصة، ولكن بالمرور بالضرورة من تحت تأثير العوامل الدولية والكونية أو أحيانا بالتوجيه المباشر من طرف المراكز الخارجية. ونحن قد نتصور مثلا أن ما يحدث الآن في العراق أو أفغانستان من فرض خارجي للديمقراطية الليبرالية، قد يكون فرصة لهذين الشعبين أن يعيشا تحولهما الليبرالي ضدا على معطياتهما الداخلية الخاصة، وبما سيوفر عليهما ربما عقودا يسبقا بها مجتمعات أخرى شبيهة لا زالت أسيرة لعوائقها الداخلية.