فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال البدائل المجتمعية بعد نجاح الثورات العربية
نشر في المساء يوم 26 - 03 - 2011

إن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي تبنته الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن، هو شعار -إذا ما تأملناه- لا يحمل في طياته أي بدائل، فهو لا يتضمن البدائل
السياسية المعروفة في العالم العربي، ونقصد البديل الذي يستند إلى الخصوصية الدينية، المتمثل في تطبيق الشريعة، ولا يحمل أيضا إشارات إلى البديل الذي تقدمه الماركسية، والمتمثل في ديكتاتورية البروليتاريا، ولا يحمل أيضا إشارة إلى البديل الذي تقدمه النظرية الليبرالية، والمتمثل في الدولة الديمقراطية، فلم نسمع ولم نقرأ ولم نشاهد شعارا في شوارع الدول العربية السابقة يشير -صراحة- إلى بديل من البدائل التي تموج بها الحرجات السياسية التقليدية في العالم العربي، بل رأينا خروج الماركسيين والإسلاميين والعلمانيين والمسلمين والمسيحيين، جنبا إلى جنب، يرفعون الشعاراتِ نفسَها، فماذا يعني هذا؟ هل يعني أن البديل محسوم؟
سؤال المرجعية في البلدان العربية
في المقابل، إذا ما تتبعنا البديل الذي بدأ يتشكل في مصر وتونس، بعد انتصار ثورتيهما، سنجد أن مرجعية واحدة كانت هي المسيطرة، ونقصد المرجعية الليبرالية، ولكنْ دون أن يتم التصريح بها، فإذا رجعنا تحديدا إلى نص التعديل الدستوري الذي وافق عليه الشعب المصري بأغلبية كبيرة، سنقف بوضوح على هذه المرجعية، إذ إن المواد المعدلة (75، 76، 77، 88، 93، 139، 148، 189) هي دليل على أن مصر -ما بعد الثورة اختارت نمطا من الحكم السياسي ذا مرجعية ليبرالية غربية، مع إشارة مهمة، وهي المشاركة اللافتة للماركسيين والعلمانيين والإخوان المسلمين المصريين في المصادقة على هذا التعديل. فهذه المواد تشترط تمتع المترشح إلى الرئاسة ب«حقوقه المدنية والسياسية»، وهو مفهوم ليبرالي محض، أنتجته ثقافة حقوق الإنسان، ذات المرجعية الأنوارية، وأن ينال هذا المترشح «موافقة» عدد معين من أصوات المنتخبين، وصفة الانتخاب أيضا تمتح من نفس المرجعية. ويتناول التعديل، أيضا، أن يكون المترشح منتميا إلى الأحزاب السياسية «المشتغلة»، والاعتراف بالتعددية الحزبية هو، أيضا، جزء من المقاربة الليبرالية للنظام السياسي.
بالإضافة إلى هذه التعديلات، نجد دورا مهما لمؤسسة القضاء، وبالتالي فهذا إقرار باستقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية والتشريعية، وهذا هو جوهر تصور مونتسكيو، كما نعلم، لطبيعة السلطة السياسية، ونقط أخرى كلها تشير إلى المرجعية ذاتها، ولاسيما مدة الرئاسة وطريقة الاقتراع، والتي تُرجِع السيادة إلى الشعب، وهذا من جوهر الديمقراطية، ذات المرجعية الليبرالية.
الأمر نفسه نجده في تونس، التي بدأت منها الشرارة الأولى للثورات العربية، فالإجراءات التي أقدم عليها الرئيس المؤقت كلها تغليب لقيم الانتخاب والمشاركة الشعبية، ناهيك عن ضمان التعددية السياسية ونزع كل القيود عن العمل السياسي وضمان الحريات، بما في ذلك حرية الإعلام والصحافة، فهذه الاختيارات، التي لاقت ترحيبا من طرف جميع القوى السياسية والإيديولوجية التونسية، دليل على أن هناك إجماعا على الإيديولوجيا الليبرالية.
وينسحب الأمر نفسه على المغرب، فكل الشعارات التي رفعها شباب 20 فبراير، حتى أكثرها جرأة، كحل الحكومة وحل البرلمان والأحزاب والتنديد بالاعتقالات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان، أو تلك التي تطالب بالقضاء على الفساد وبمحاكمة المفسدين وتسريع وتيرة الإصلاحات وغيرها من الشعارات، لا تشير إلى مرجعية سياسية معينة، رغم ألوان الطيف السياسي المتعددة التي شاركت في حركة الاحتجاجات، فقد خرج اشتراكيون وإسلاميون وماركسيون وأمازيغيون وشباب بدون هوية إيديولوجية، ومع ذلك لم يُلاحَظ أي شعار يحيل على مرجعية إيديولوجية معينة، بل رأينا إسلاميين يطالبون بشعارات هي من صميم المرجعية الديمقراطية، فهل يعني هذا أن المرجعية الإسلامية لا تتعارض مع المرجعية الديمقراطية الليبرالية؟ هل يعني، فعلا، أن هذه المرجعية قد استطاعت خلق توافق كلي ومطلق بين مختلف مكونات مشهدنا السياسي؟
إن هذه الملاحظة تستحق التأمل بعناية فائقة، خصوصا أن خطاب 9 فبراير كان ذكيا في الإشارة إلى المرجعيات، عندما نص على مسالة «إمارة المؤمنين» صراحة. صحيح أنها مؤسسة شرعية وتاريخية ذات إجماع، لكنها رسالة واضحة: لا أحد في المغرب يمكنه أن يزايد في الوضعية الدينية لشخصية الملك، وهي رسالة موجهة طبعا للذين يطالبون بعلمانية الدولة، وفي نفس الوقت، نجد «الفصل بين السلط» و«استقلال القضاء» و«الجهوية الموسعة» و«الديمقراطية البرلمانية» و«الحكامة» و«الاستفتاء» كطريقة في إقرار الدستور، إلى غير ذلك من الخطوات التي سيتضمنها التعديل الدستوري المقبل، وهي إجراءات
-كما نعلم- تتجه رأسا، في حالة تم إقرارها والعمل بها، نحو ترسيخ دعائم دولة حديثة «كاملة الأوصاف»، فكما أن تنصيص الخطاب على قاعدة إمارة المؤمنين هو رسالة للمطالبين بعلمنة الدولة، فإن الإجراءات الأخرى هي رسالة للإسلاميين.
ما نريد التنبيه إليه، والتفكير فيه أيضا، هو أن حرص الخطاب الملكي على استباق التعديل الدستوري بذكر المسلَّمات التي لا ينبغي التفريط فيها والتزحزح عنها، هو إجابة واضحة على مسألة المرجعية، فالملك يريد مرجعية تضرب بجذورها في الخصوصية في ما يتعلق بشخص الملك وبالحداثة الكاملة في ما يتعلق بالدولة ونظام الحكم فيها، فهل يفهم المغاربة هذا التوفيق العجيب بين الهوية والمغايرة؟ وفي نفس الوقت، هل الحسم في المرجعية الحديثة لنظام الحكم في الدولة يعفينا من طرح سؤال المرجعية الهوياتية، وخاصة المتعلقة بحقوق الإنسان؟
لا شك أن هذه المسألة، أي مسألة التوفيق بين المرجعيتين الحديثة والهوياتية، في مسألة حقوق الإنسان تحديدا، تفرض علينا، جميعا، التفكير في صيغ توافيقة على النحو الذي جاء في خطاب 9 فبراير.
النقد الماركسي للمرجعية الأنوارية لحقوق الإنسان
الثورات الشبابية اليوم قابلة لأن «تُقرَأ» قراءات كثيرة، فهي انتصار للثورة الرقمية على كل مقولات الثورة التقليدية، وهي أيضا انتصار لإرادة الشعوب على الحكام الظالمين، وهي أيضا انتصار للشباب على وصاية الكهول، غير أننا نريد أن ننحو بالنقاش الذي تلا نجاح بعض الثورات في اتجاه النظر في البدائل، وخصوصا الانتقادات المختلفة وأشكال التحفظ التي سجلتها بعض المرجعيات، وخاصة تلك التي ما تزال تحتفظ بحضور وازن في الساحة العربية، ومنها المغربية، تلك التيارات التي تستند إلى مرجعية ماركسية، إضافة إلى التيارات الأخرى لتي تستند إلى مرجعيات إسلامية.
كما هو معلوم، فإن طرح مسألة المرجعية في حقوق الإنسان ليست وليدة اليوم، كما أنها ليست سؤالا عربيا خالصا، فقد طرحتها أمم كثيرة بُعيد ظهور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة الدول التي اختارت آنذاك التمركز خلف الاتحاد السوفياتي في المعسكر الشرقي، وما زالت تطرح اليوم، بحدة، في الصين خاصة، وهذا الموقف مفهوم على الأقل في مرجعيته الماركسية، التي تصنف حقوق الإنسان في صيغتها الليبرالية، والتي يتضمنها الإعلام العالمي لحقوق الإنسان، على أنها رجعية، لأنها تعلي من قيمة الفرد وتخلق منه «صنما»، وفي المقابل، تبخس قيمة المجتمع، فمن المعروف أن ماركس في كتابه «المسألة اليهودية»، يُبدي انتقادا ل«حقوق الإنسان»، التي جاءت مع الثورة الفرنسية، إذ نلاحظ أنه ينتقدها انطلاقا من واقعها آنئذ، حين تقلّصت إلى حقوق للبرجوازية فقط، إذ يلاحظ ماركس أنه تم التمييز بين حقوق «الإنسان» وحقوق «المواطن»، وأصبح الاستخدام العملي لحق الإنسان في الحرية يتلخص -في نظره- في حقّه في الملكية الخاصة، أي أن يستمتع بثرواته كما يريد، دون مراعاة «الآخرين»، وبالتالي تكريس حق المنفعة الذاتية، ولتتحدّد المساواة في أن يُنظر إلى كل إنسان بصورة متساوية كوحدة قائمة بذاتها، ولهذا تعمّمت الملكية الخاصة البورجوازية وانتفت حقوق الإنسان السياسية طيلة القرن ال19تقريبا.
ربط ماركس في نص «المسألة اليهودية»، وهو ينتقد المرجعية الليبرالية لحقوق الإنسان، بين التحرر السياسي والتحرر الطبقي، لكي تكتمل الحقوق ويتحقّق التحرر الإنساني وينعت الحقوق التي جاءت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن للثورة الفرنسية لعام 1789 بأنها ما هي، في الواقع، سوى حقوق شكلية، ما دام لا يوجد الناس في نفس الوضعية الاجتماعية
-الاقتصادية. ففي ظل مجتمع ليبرالي يرتكز قانونيا على مبدأ اللا تكافؤ في توزيع الثروة بين أفراده، يطرح ماركس على الليبراليين الأسئلة المحرجة التالية: ما الحاجة إلى حق الحرية بالنسبة إلى الذي يوجد في علاقة تبعية كلية لرب المعمل؟ ما جدوى الحق في الملكية بالنسبة إلى من لا يملك شيئا؟ ما الحاجة إلى الحق في ضمان الأمن بالنسبة إلى من يموت جوعا؟ ما معنى وما قيمة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية إذا لم يتعد الأمر إعلانها إلى ضمانها الفعلي، عن طريق إقامة شروط اجتماعية واقتصادية تُمكّن من ممارستها فعليا؟ ما جدوى الحق في العمل بالنسبة إلى العاطل الذي لا يمكن أن يجد عملا؟...
تبيّن هذه الانتقادات، اليوم، غرابة موقف الماركسيين المغاربة الذين يطالبون بإعمال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تم تأسيسه، بالكامل، على إعلانات حقوقية فرنسية وأمريكية وإنجليزية ظهرت بعد ثورات هذه الدول.
تحفظات التيار الإسلامي على المرجعية الأنوارية لحقوق الإنسان
بدأت الانتقادات الإسلامية للمرجعية الأنوارية لحقوق الإنسان مع بداية تعرُّف العالم الإسلامي على الغرب، في إطار ما يعرف ب«عصر النهضة العربية»، وخاصة التحفظ في بعض المواد الصادرة في الإعلانات الفرنسي والانجليزي، إما في شكل رفض تام، وخاصة في عنصر الحرية الدينية، فقد كان أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان في التاريخ الحديث هو الإعلان الذي صدر عن ولاية فرجينيا الأمريكية يوم 12 يونيو 1776، والذي تمت صياغته مباشرة بعد استقلال الولاية عن الإدارة البريطانية. وقد جاء في البند ال16 من إعلان حقوق سكان فرجينيا ما يلي: «يجب القيام بشؤون الديانة والمعتقد بما يُرضي الخالق ويوافق العقل والقناعات الشخصية، من دون اللجوء إلى القوة والعنف، كما أن لكل إنسان الحق في أن يمارس عقيدته وفق ما يمليه عليه ضميره، وعليه، في المقابل، أن يتحلى بالتسامح والمحبة والرحمة المسيحية تجاه الآخرين».
فحيال هذه الرؤية الجديدة للشأن الديني، ظهر هناك تياران، الأول هو التيار السلفي الوهابي والثاني هو التيار السلفي النهضوي: تيار إسلامي يسعى إلى ترسخ عبودية الإنسان لله، باعتبار ذلك غايةَ وسنام وجوده كله، كما يصرح بذلك محمد عبد الوهاب، مؤسس التيار الوهابي، والتيار السلفي النهضوي، مع محمد عبده والكواكبي والأفغاني، ومحاولاته التوفيق بين مرجعيتين، ونجد للتيارين نفس الحضور اليوم على ضوء الثورات العربية، حيث تعتبر الحركات الإسلامية وبعض الفقهاء من ورثة التيار السلفي النهضوي، لذلك ساندوا وشاركوا في الثورات التونسية والمصرية واليمنية والليبية، وأيضا الموقف الواضح للفقيه القرضاوي من هذه الثورات، وخاصة الثورة المصرية. أما التيار السلفي الوهابي فقد حافظ على مرجعيته بتصلب، ولنا أن نذكر هنا فتوى مفتي الديار السعودية بتحريم التظاهر والاحتجاج، معتبرا ذلك «فتنة»، والفتنة أشد من القتل...
ما يهمنا هنا هو التيار الإسلامي الإصلاحي، الذي يحظى بحضور وازن في الساحة المغربية، والذي يرجع -كما أشرنا- إلى التيار السلفي النهضوي، فهذا التيار أسس مقاربته الحقوقية على أساس التوفيق بين المرجعيتين الإسلامية والأنوارية وعلى قلة معرفة كبار شيوخ السلفية، آنذاك، بهذه المرجعية.
ففي كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، أيّد الكواكبي، بشكل صريح، ليبرالية الطبقة الوسطى في أوربا، مطالباً بحكومة دستورية وبتحديد سلطة الحكومة وتأمين حرية الفرد، لكن ذلك تم استناداً إلى أسس عقلية من منطلق إسلامي، فقد حاكم الكواكبي الاستبداد استناداً إلى تراث العرب في الحرية وإلى ما يطالب به الإسلام وإلى ما لاحظه في الغرب، فهو، بعد أن اقتنع عقليا بالأفكار القادمة من الغرب، راح يبحث عن جذور دينية لقناعاته، ورأيُه القائل إن صلاح الحاكم والحكم من صلاح الرعية إنما يؤكد منطلقَه الإسلامي الذي يصدر عن حديث «كما تكونوا يولّ عليكم». ومع ذلك، فإنّه كثيراً ما يورد دلائلَه من العقل والنقل معاً، وهو لا يمانع من الأخذ عن الغرب، مع الإبقاء على الخصوصية العربية الإسلامية وعدم التقليد الأعمى، لا للغرب ولا للتراث.
النموذج الآخر، والذي ينتمي إلى زمننا الحاضر، هو محاولة راشد الغنونشي، وهو مؤسس حركة النهضة التونسية، والتي سمحت لها الدولة التونسية الجديدة بالاشتغال العلني الشرعي، حيث يؤكد راشد الغنوشي، في أطروحته تحت عنوان «الشورى والديمقراطية»، أن الديمقراطية آليةٌ لإدارة شؤون الأمة، بناء على رأي المجموعة، بدلاً من رأي الفرد، والديمقراطية إذا طُبِّقت في جماعة فإنها تضمن لهذه الجماعة القدرة على محاسبة حُكّامها، وتُغيِّرهم بطريقة سلمية، وهذا لا يتناقض مع الإسلام، الذي دعا إلى الشورى والتعددية.
وفي حوار له مؤخرا مع إذاعة «بي بي سي»، أكد الغنونشي أنه إذا طلبت أغلبية المجتمع قانونا بعينه ليطبَّق عليهم، فإنه لا بد من تطبيقه، وهو ما يحدث في الشريعة الإسلامية التي يرفضها الحكام، فالإسلام يحتوي على ديمقراطية تنسجم مع ظروف مجتمعاته الخاصة، ولا يمكن القول إن هناك تناقضا بين الإسلام والديمقراطية، بالمعنى المطلق. نكتفي بهذين التصورين، غير أننا نستنتج أنه بين الأطروحتين، الأولى تنتمي إلى بداية القرن العشرين، وتحديدا إلى سنة 1905، تاريخ كتابة الكواكبي أطروحته الشهيرة، وأطروحة الغنوشي، التي كتبها في أواخر القرن العشرين، فبين الأطروحتين، نجد أن الفقيه المستند إلى مرجعية إسلامية تطور كثيرا في فهم المرجعية الأنوارية العالمية واكتسب بذلك مرونة كبيرة في فهم النصوص النقلية، غير أن المنطق نفسَه يسيطر على الأطروحتين، وهو محاولة التوفيق بين المرجعيتين، الغربية الأنوارية والإسلامية السلفية، مع الإشارة إلى أطروحة ثالثة، لا مجال للتفصيل فيها هنا، لكونها غير ممثلة على الأقل في المغرب، ونقصد الأطروحة الشيعية، والتي صاغها أستاذ الفلسفة الإيراني الشهير علي شريعاتي، والتي تستند عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم.
غير أن المواقف الأخيرة لبعض التيارات الإسلامية، العربية والمغربية، من التحولات التي تشهدها الساحة العربية تعطي إشارات قوية على تحولات إيجابية في فهم المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، ومنها فهم جديد للأنظمة السياسية الحديثة، مع وعيها أن هذه المتغيرات، مضافةً إليها المتغيرات الداخلية، المتمثلة في ارتفاع وعى المواطن العربي، مضافةً إليها المتغيرات على الصعيد الدولي، تجعل من ضرورة بناء عقد سياسي بين المواطنين والأنظمة الحاكمة في الدول العربية أمرا لازما.. هذا «العقد السياسي» الجديد يقوم ويستند على الحريات السياسية ويتجاوز الأطر التي حالت دون التلاقي بين القوى الحديثة وقوى النهضة ويعمل على إخراج العالم العربي من محنته وبناء مستقبله وتحقيق حلم الدولة المدنية
الحديثة .


المرجعية الكونية لحقوق الإنسان: الأنوار الأوربي
تحمل كلمة حق (droit) في معجم «لالاند» عدة معانٍ، وفقا لشكل العبارات المستعمَلة فيها، ويمكن حصرها في فكرتين أساسيتين، أولا، حق ما أو ما يكون حقا هو ما يكون متطابقا مع قاعدة معينة، وما يكون من ثمة واجبا شرعا وقانونا يقال عنه «له الحق في..» أو الحق على (avoir droit à- avoir un droit sur)، ومنه كلمة مستحق، لأن القوانين والأحكام تأمر به، وثانيا، يكون حقا ما يكون مسموحا به بالقوانين المكتوبة أو الأحكام المتعلقة بالأفعال المعتبرة، سواء بموجب إعلان صريح أو بمقتضى المبدأ القائل إن ما لا يكون محظورا يكون مباحا، ومنها أن «التبادل الحر للأفكار والآراء هو أحد أثمن حقوق الإنسان وأغلاها»، كما ينص على ذلك إعلان الحقوق الفرنسي لسنة 1793، في مادته الحادية عشرة.
فمن خلال هذا المثال، يتبين أن كل الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، بدءا بإعلان ولاية فرجينيا الأمريكية، مرورا بالإعلان الفرنسي، وصولا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1949، كلها تستند إلى فلسفة الأنوار...
إن ما يميز «عصر الأنوار» هو ظهور الفلسفة السياسية والنظريات الدستورية، والتي أسست لوجود الدولة الديمقراطية الليبرالية، على يد مفكرين أسسوا نموذجا جديدا للنظام الاجتماعي، حيث علموا أن الحرية الفردية والتعددية -وهما متلازمان ونتاجات طبيعية- لم تكن عنصرا أو سببا للتفجر الاجتماعي والفوضى، بل شكلا راقيا وساميا لتنظيم العلاقات بين البشر، وأن هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت لهم بإنتاج وتشييد مؤسسات الدولة «دولة الحق والقانون» و«النظام التعددي». من أهم هذه النماذج ما سيعرف ب«نظريات العقد الاجتماعي»، والتي شكلت الفكرة المحورية في الفلسفة السياسية والحقوقية الحديثة، باعتبارها ثورة فكرية ترتبط بتطور المجتمع المدني والسلطة السياسية والدولة الحديثة.
وتعود هذه الأفكار، في جذورها، إلى مفهوم»الحق الطبيعي»، فقد أشار غروتس، الذي توفي عام 1645، إلى أنه «يجب إقامة الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون والمأمول عن طريق البحث عن قواعد تقوم على العقل». وقد شكلت هذه المقولة تحولا أساسيا في فكرة الشرعية، حيث أصبحت السلطة، في المنظور العقائدي، مؤسسة إنسانية تستمد شرعيتها من التعاقد بين الناس، وهو تعاقد منظم للحريات والحقوق، وبذلك أصبحت المشروعية السياسية والاجتماعية مرتبطة بالذات الإنسانية كذات مسؤولة وفاعلة من حيث إنها حرة. وقد شهدت هذه النظرية تطورا وصراعا بين تأويل يرجع الحق إلى الخلق وتأويل يرجع الحق إلى الطبيعة البشرية، القائمة على العقل، والتي تستند إلى أساس أنطولوجي قوامه مبدأ المساواة.
تفترض نظريات العقد الاجتماعي وجود حالة طبيعية من الفطرة التي مثلت حياة الإنسان البدائية القديمة، حيث عاش الإنسان حينذاك في حالة «لا اجتماعية» يتمتع فيها الأفراد بحقوق طبيعية، إذ كان الإنسان القديم يعيش معزولا عن الآخرين ومدفوعا بغرائزه، وإن طرق إشباع تلك الغرائز غير المنظمة دفعته إلى الصراع مع الآخرين.
دفعت هذه الحالة «اللا اجتماعية» أعضاء المجتمع، عن طريق الاتصال والحوار والتشاور والتفاهم، إلى إنهاء حالة الصراع والفوضى الدائمة، من خلال اتفاق اجتماعي يستهدف اختيار سلطة سياسية «يتنازل» لها الأفراد عن حقوقهم، وتقوم تلك السلطة بإعادة توزيع الحقوق والواجبات على الأفراد وبتحقيق العدالة الاجتماعية.
من أهم منظري المرجعية الحديثة لحقوق الإنسان، والنظرية السياسية عموما، نجد جون لوك وتوماس هوبز، جون جاك روسو وكانط وسبينوزا ثم هيغل، فإذا كان الأوائل قد وضعوا أسس ما سيعرف بنظرية العقد الاجتماعي، فإن كانط وهيغل ومن جاؤوا بعدهما لم يستطيعوا الخروج عن الرهن الأنواري، بما في ذلك فلاسفة معاصرون، أمثال راولز، صاحب نظرية متميزة في العدالة، بالإضافة إلى الاجتهادات المتميزة لجاكلين روس وتودوروف. وقد بقي الرهن الأنواري أيضا مع فلاسفة آخرين اشتهروا بنقدهم اللاذع للحداثة الغربية، ولكنهم لم يستطيعوا تقويض المرجعية الأنوارية لحقوق الإنسان، أكبرهم على الإطلاق يورغن هابرماس، الذي أسس أطروحته على أن المرجعية الأنوارية لم تفقد بعد جاذبيتها وصلاحيتها، مؤسسا لعقلانية تواصلية، كما يعرف أغلب المشتغلين في الفلسفة، فهو لا ينظر إلى الأنوار رؤية تأريخية أو رؤية تشاؤمية تقرؤه بما انتهت إليه بعض التجارب الكليانية، كالنازية و الفاشية، بل ينظر في الأنوار من زاوية قدرتها الفاعلة في التأثير على حياة المجتمعات، أي إنه يشرح الأنوار على سندان الواقع الراهن، وهو بذلك يقيم الاتهام الذي جعل من الأنوار مولدة للأنظمة الشمولية وللإيديولوجيا الاستعمارية، كما يقول بذلك فلاسفة فرانكفورت، لاعتقاده أن عصر الأنوار أعلى من شأن الإنسان والحرية والمساواة، ولا يعقل أن تكون هذه الدعامات مصدراً ل«سحق» الإنسان...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.