خلاف بسيط بين بائعين يفترشان سلعهما بالقرب من قيسارية الحي المحمدي حول من منهما يحق له استغلال الرصيف لعرض سلعته يوم الجمعة ثاني رمضان..
ابتدأ بتبادل عبارات سب وشتم وانتهى بطعن أحدهما للآخر بمبراغ ثم بسكين.. وفيما خر القتيل على وجهه مضرجا بدمائه، استل القاتل سيجارة وأشعلها قبيل ساعات فقط من موعد الإفطار، ثم ذهب لكي يسلم نفسه إلى رجال الشرطة. مشهد كهذا لا تخلو منه الأسواق والطرقات والأماكن العمومية وحتى البيوت خلال شهر رمضان، خاصة مع اقتراب موعد أذان المغرب.. إذ يتحول بعض الصائمين إلى ما يشبه قنابل موقوتة يمكنها أن تنفجر في أية لحظة، ولأتفه الأسباب، وفي وجه أي أحد يجرؤ على تعكير مزاج هؤلاء الذين يطلق عليهم المغاربة "المرمضنين". غضب وتقلب في المزاج "ملي تايجي رمضان تيولي راجلي واحد آخر.. على سبّة تينوّضها معايا ولا مع ولادو ولا مع أي واحد.."، الكلام لربة بيت تشكو تقلب مزاج زوجها وتغير سلوكاته خلال أيام الصيام. فبالنسبة إلى ة زهرة (35 سنة)، لا يوجد شهر تتمنى أن تمضيه بعيدا عن زوجها مثل رمضان. ذلك لأن مزاج زوجها بوشعيب يتعكر في نهارات رمضان ويصبح "على نقشة"، على حد قولها. تقول زهرة إن زوجها بوشعيب (42 سنة) يصبح فظا معها ومع أولادهما الثلاثة خلال أيام الصيام، وتضيف أن هذا الموظف في إدارة عمومية يحول بيته بعد عودته في المساء إلى مكان مرعب لا يطيق أحد البقاء فيه، موضحة أن "سي بوشعيب" يسلط عليهم لسانه بكلمات لاذعة، ويثور غضبه على الصغير والكبير لأتفه الأسباب بدعوى أنه يعاني ألما في الرأس لا يطيق معه الصبر.. خاصة خلال الساعات التي تفصل ما بين العصر والمغرب. سلوكات مفاجئة تطرأ على تصرفات هذا الزوج خلال أيام رمضان مردها، حسب زوجته، إلى الصيام والإحساس بالجوع والحاجة إلى تدخين سيجارة وشرب فنجان قهوة مثلما هي عادته خلال الأيام العادية.. "داكشي علاش كنعاملوه بحال شي دري صغير مكانخصّروش ليه خاطرو باش ما يتقلقش.."، تقول زهرة بنبرة المغلوب على أمره. نساء كثيرات يعانين مما تعاني منه ة زهرة من جراء تعكر صفو أزواجهن خلال ساعات الصيام، إذ تزداد في بعض البيوت الخصومات والمشاحنات والمشاكل بين الأزواج في ساعات الصيام، على الرغم مما يتطلبه الشهر الفضيل من ليونة وطيبوبة في التعامل مع الآخرين. ما يحدث لبوشعيب وغيره من الأشخاص الذين تتغير سلوكاتهم خلال شهر الصيام فتصبح أكثر عدوانية، دفع بالأخصائيين في العلاج النفسي إلى دراسة هذه الظاهرة للوقوف على أسبابها. وهكذا بينت دراسة أجراها كل من الدكتورين إدريس الموساوي ونادية قادري، الأخصائيان في العلاج النفسي بالمركز الاستشفائي ابن رشد بالدار البيضاء، أن درجة الغضب ترتفع بشكل كبير عند المدخنين وصغار السن والمدمنين ومستهلكي المواد المنبهة كالشاي أو القهوة.. "مما يتسبب لهم في آلام في الرأس". هذا الغضب يعود، حسب عبد الرحيم عمران، الأستاذ الجامعي المتخصص في علم النفس الاجتماعي، إلى "الانقطاع المفاجئ للمدمنين على عادات سيئة مثل التدخين أو المنبهات خلال فترة الصوم". ويوضح عمران ل"أخبار اليوم" أن هذا الانقطاع يولد استعدادا على المستوى الفيزيولوجي النفسي للشخص ليكون قلقا وعصبيا يصرفه على شكل ردود فعل غاضبة ومتوترة".. الدراسة التي أنجزت قبل 4 سنوات، والتي شملت 200 شخصا، بينت أن أكثر من 50% من المدخنين يظهرون ضمن الأشخاص الذين يعانون من حدة "حريق الراس" أثناء صيامهم، وأن 82% من مستهلكي القهوة يعانون من آلام في الرأس. عدم التحكم في النفس ما يسميه المغاربة ب"الترمضين" سببه إذن الإدمان على استهلاك المنشطات والمنبهات وفق الدراسة المشار إليها.. لكن، هل "الترمضين" مقتصر فقط على هؤلاء؟ ماذا عن الذين لا يدخنون ولا يدمنون على شرب المنبهات؟ يجيب عبد الرحيم عمران، فيقول إن جسم الإنسان خلال الصوم يشهد تغيرا مهما من الناحية الفيزيولوجية، ويعزى ذلك إلى الضغط الممارس على الجهاز الهضمي، بسبب تغير نمط العيش خلال رمضان. "الصيام يقتضي ضبط النفس عن الشهوات وتربية وتهذيب النفس البشرية على التحكم في الرغبات. لكن إيقاع رمضان المتميز على مستوى العادات والسلوكات تصحبه مجموعة من التغيرات على مستوى البدن، مما يمكن أن يؤدي بالبعض إلى عدم القدرة على التحكم في النفس وضبط ذواتهم مما يؤدي بهم إلى التوتر والاضطراب.."، يوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي. وبعض النظر عن كون الشخص مدمنا على استهلاك المنبهات أو المنشطات أم لا، يؤكد الأطباء أن نقص السكر في الدم يساهم في فقدان الدماغ للتركيز، فيتولد عن ذلك عنف وعدوانية. معارك في كل مكان في الساحات والملاعب، التي تقام بها دوريات كرة القدم التي يقيمها شباب الأحياء خلال شهر رمضان، تتجلى "الترمضينة" بشكل أكبر. فاللاعبون يصرفون غضبهم بواسطة السب والشتم، وأحيانا يلجؤون إلى تصفية خلافاتهم بالأيدي. قبيل دقائق من أذان مغرب أول أمس، كاد نزاع بين شابين بحي التشارك حول الكرة أن يفقد أحدهما عينه. كان الشابان في حالة هيجان يتخاصمان بسبب نتيجة "الماطش" الذي مني فيه فريقهما بالهزيمة بسبب خطأ ارتكبه أحد الشابين على ما يبدو.. تطور النقاش من الكلام إلى التشابك بالأيدي وتبادل اللكمات.. ثم فجأة امتدت يد أحدهما إلى حجرة ووجهها صوب عين الآخر، لكنها لحسن الحظ لم تصبه.. فتدخل بعض المارين لفض النزاع بين الشابين اللذين تجردا من بدلهما الرياضية جراء الغضب... وعلى نفس المنوال، تصبح الطرقات والشوارع خلال نهارات رمضان ساحات لمعارك يومية بين بعض السائقين الذين لا يستطيعون تملك أنفاسهم فيخرجون عن جادة صوابهم لأتفه الأسباب.. نقاشات تافهة حول من له الأحقية في المرور أولا تتطور إلى تبادل لعبارات السب والشتم ثم إلى تشابك بالأيدي.. وغالبا ما ينتهي المشهد بخاتمة مأساوية. وتشهد حركة السير، عادة، قبل موعد الإفطار، ضغطا كبيرا، إذ يغادر جميع الموظفين والعمال، تقريبا، مقرات عملهم في توقيت متقارب، ما يتسبب في ازدحام في الطرق بسبب رغبة الجميع في الوصول بسرعة إلى البيت. وغالبا ما تؤدي السرعة، التي يقود بها بعض السائقين، وتهور البعض في السياقة، وعناد البعض الآخر وتعصبهم، تحت ذريعة "الترمضينة"، إلى ما لا تحمد عقباه. الكسل في العمل يصرف المغاربة "الترمضينة" بأشكال كثيرة لكن ليس دائما عن طريق العنف، بل أيضا بواسطة الكسل في العمل. كثير من العمال والموظفين والمستخدمين لا يكفون عن ترديد عبارة "ما فيا ما نخدم" خلال أيام الصيام. في الإدارات العمومية كما الخاصة، يصطدم المواطن بعدة صعوبات أحيانا لكي يحصل على وثيقة بسيطة لا تحتاج لأكثر من دقائق، والسبب دائما هو مزاجية بعض الموظفين الذي يصيبهم الكسل فيتذرعون بأسباب تافهة لإبعاد من يطلب خدمتهم إلى وقت لاحق: "سير حتى لشويا ورجع.."، و"ضرب دورة وعاود طل".. "ملي كنمشي للخدمة فالصباح تنكون معكاز بلا قياس بسبب النعاس.. وتنبقى تنسنا غير امتا توصل التلاتا باش نخرج بحالي.."، يقول أحمد (32 سنة)، موظف بإدارة عمومية. ويفسر المختصون تأثر المزاج خلال شهر رمضان بين بعض الموظفين والعمال بكثرة السهر، إذ إن التقليل من ساعات النوم ينتج عنه الإحساس بالتعب والإرهاق، فتكون ساعات النهار شاقة وصعبة التحمل بالنسبة إليهم. تبريرات يبدو أن المجتمع يكون متسامحا مع "المرمضنين" في رمضان مقارنة بالأيام العادية. فحينما يثور شخص ما في وجه الآخرين في رمضان لا يعاملونه كما قد يفعلون في أيام الفطر، بل يحاولون التماس العذر له فيرددون عبارة: "ما تديوش عليه راه غير مرمضن"، وهو ما يعتبره الأستاذ عبد الرحيم عمران "محاولة لتبرير سلوكات الأشخاص الغاضبين خلال فترة الصيام". ويوضح عمران أن خصوصية هذا الشهر الفضيل تقتضي نوعا من التسامح والطيبوبة مع الجميع، لذلك هناك من يركب على مرجعية ثقافية شعبية لإيجاد تبريرات للذين يخرجون عن هذه القاعدة فيقولون: "راه مسكين على سبة"، "راه تيكون مرمضن في رمضان".. وذلك لإعطاء انطباع بأن الشخص الفلاني يمكن أن يصدر عنه أي رد فعل أثناء الصيام. وفيما يعتبر بعض الناس أن عدم القدرة على تحمل شدة الجوع والعطش، لساعات طويلة، هو السبب في تغيير مزاجهم وسوء معاملتهم للآخرين خلال فترة الصوم، يؤكد عمران أن الصيام بعيد كل البعد عن التسبب في مثل هذه السلوكات التي يحاول المجتمع تبريرها. دراسة: العدوانية تزداد في رمضان كشفت دراسة حول التأثير النفسي للصيام على سلوك الفرد أن هناك عدوانية أكبر لدى الناس في رمضان مقارنة بالأيام العادية، لاسيما خلال الأسبوعين الأولين من رمضان. وقسمت الدراسة، التي أشرفت عليها مؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية حول رمضان، الأسباب التي تؤدي إلى الرفع من نسبة العدوانية خلال الشهر الفضيل إلى 3: - المنشطات: الشاي والقهوة .. - الإدمان: السجائر والمخدرات والكحول.. - السن: نسبة العدوانية أكثر لدى الشباب. وبينت الدراسة المنجزة من طرف كل من إدريس الموساوي ونادية قادري الأخصائيين في العلاج النفسي بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، أن هذه العدوانية التي تطال البعض خلال فترة الصوم، تؤثر على الأداء الجنسي لهم، حيث تقل نسبة تعاطي الجنس لديهم، لكن يقابل ذلك إقبال كبير على استهلاك السجائر والمخدرات. وتشير نتائج الدراسة إلى أن 50% من المستجوبين المتزوجين لا يطيقون ممارسة الجنس خلال شهر الصيام، وأن 11% من المستجوبين أكدوا أنهم لم يمارسوا حقهم الطبيعي في رمضان سوى مرة في كل أسبوع، في الوقت الذي كانوا يفعلون ذلك مرتين إلى 3 مرات كل أسبوع. وبخصوص استهلاك الكحول والمخدرات، كشفت الدراسة أن غالبية المستجوبين لا يحترمون أمر الانقطاع عن شرب الخمر قبل 40 يوما من رمضان، بل يواصلون الشرب إلى أن يبقى لرمضان يوم واحد فقط. وأشارت إلى أن هؤلاء المدمنين على الخمور يستبدلون الشرب في رمضان بتدخين الحشيش، وهو ما يفسر ارتفاع الإقبال على استهلاك مخدر الشيرا الذي يرتفع ثمنه أيضا خلال رمضان. وتفسر الدراسة ارتفاع العدوانية في أوساط المدمنين على الخمر، الذين ينقطعون عن الشرب خلال رمضان، بمعاناتهم من حالة "خلط نفسي" يؤدي بهم إلى مرحلة "هيجان وهلوسة".. نفس الشيء بالنسبة إلى المدمنين على تدخين الحشيش، لكونهم ينقطعون عن استهلاك المخدر طيلة النهار مما يقلص من نسبة استهلاكهم له، حيث إذا كان المدمن يدخن 20 "جوان" في اليوم، فإن العدد في رمضان يتقلص إلى 10 أو 15 "جوان" فقط، وفي وقت وجيز هو ما يفصل بين المغرب والفجر. كما أشارت الدراسة إلى أن نسبة تعاطي حبوب القرقوبي ترتفع في رمضان ب10 إلى 15%.. من جهة أخرى، أكدت مجموعة من الأبحاث والدراسات أن الصائم يكون أكثر استجابة لدواعي الغضب في آخر النهار عندما ينقص السكر في الجسم مما يجعله معرضا لبعض الأضرار. واكتشف العلم الحديث أن الصائم إذا اعتراه غضب وانفعل وتوتر ازداد إفراز هرمون الأدرينالين في دمه زيادة كبيرة تصل من 20 إلى 30 ضعفاً عن معدله العادي أثناء الغضب الشديد أو العراك. وكشفت دراسات أنجزت حول الغضب أنه إذا حدث في أول الصوم، أي في الصباح، أثناء فترة الهضم (الامتصاص) اضطرب هضم الغذاء وامتصاصه زيادة على الاضطراب العام في جميع أجهزة الجسم. ويفسر المختصون ذلك بكون الأدرينالين يعمل على ارتخاء العضلات الملساء في الجهاز الهضمي، ويقلل من تقلصات المرارة، ويعمل على تضييق الأوعية الدموية، كما يرفع الضغط الدموي الشرياني، ويزيد كميةَ الدم الواردة إلى القلب وعدد دقاته. أما إن حدث الغضب والشجار في منتصف النهار أو آخره أثناء فترة ما بعد الامتصاص، فتحلل ما تبقى من مخزون الجليكوجين في الكبد وتحلل بروتين الجسم إلى أحماض أمينية وتأكسد المزيد من الأحماض الدهنية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الجلوكوز في الدم فيحترق ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في الشجار والعراك.. وبهذا تُستهلك الطاقة بغير ترشيد ويُفقد بعض الجلوكوز مع البول إن زاد عن المعدل الطبيعي. وبالتالي يفقد الجسم كمية من الطاقة الحيوية الهامة في غير فائدة تعود عليه. كيف تقضي يومك بدون "ترمضين"؟ يقول عبد الرحيم عمران، أستاذ علم النفس الاجتماعي، إن هناك مجموعة من السلوكات التي يقوم بها الناس دون أن يدركوا أنها تؤثر على حالتهم النفسية خلال الصيام، مثل السهر والإفراط في الأكل. وقال إن الإفراط في السهر يسبب الأرق، وبالتالي يلحق أضرارا بالذات، مثلما للإفراط في الأكل من انعكاسات سلبية على البدن. ودعا عمران إلى الحرص على الاحتفاظ بإيقاع متوازن مما يقتضيه شهر رمضان لإدراك المغزى من فرض الصيام، وهو ضبط النفس والتحكم في الذات. وفي هذا السياق، تبرز دراسات علمية وطبية أن الأطعمة التي يتناولها الناس تساهم إلى حد كبير في تحديد مزاجه، مبرزة أنه من الضروري اعتماد نظامٍ غذائي متوازن. وتحذر الدراسات نفسها من الإكثار من تناول البروتين والمواد الذهنية ليلا، إذ إن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نوم مضطرب تشوبه الكوابيس، وأخطر من ذلك يتسبب في تعكير المزاج طيلة اليوم التالي.