من خلال معايشتي متتبعاً لثلاثة من رؤساء القصر الكبير وعدد من الأعضاء الذين عملوا بجانبهم، احتفظت ذاكرتي بصور لثلاث من الرجال ترك كل واحد منهم بَصْمته الخاصة على مدينة القصر الكبير، منهم المثقف اللامع، والسياسي المحنك، والرازن الخلوق.. هؤلاء الرؤساء المتعلمون طبعوا الحياة اليومية للمواطن المغربي بالقصر الكبير زهاء ثلاثة عقود ونيف، كانوا يلتقون في نقاط ويختلفون في أخرى، منهم من مدح الناس فيه أخلاقه وما قدمه أثناء ترأسه مجال تدبير مرفق الجماعة المحلية، وهناك من انتقدهم أيضاً غير مقتنعين بانجازاتهم. لكن الحقيقة لا يجب مقارنة ما لا يقارن في وجود فوارق بين فترة رئيس وآخر من حيث الامكانات المرصودة وتدخل وهيمنة السلطات في الحقبة السابقة. فكلنا نتذكر الراحل محمد الطويل بتلك الهيئة الشامخة التي تجلب الهيبة والتقدير، يلتقيه المرء يمشي الهوينى كأن جبلاً يمشي بجانبه، وكان رحمة الله عليه ينزل أو يصعد أدراج البلدية (البناية القديمة) يصطف عدة أنفار من القوات المساعدة يؤدون له التحية العسكرية بواسطة السلاح لمن لا يزال يتذكر، وكأنه رئيس دولة، يصير وكأن قوماً من الرجال يمشون معه بينما هو لوحده، كان رفاقه بجانبه يولونه بالاحترام والتقدير، حتى ليجزم البعض أنه لا يوجد إلا بظله، وفي الممر المحاذي لمكتبه تجد نوابه يتسابقون ليقضوا معاملة المرتفقين عند سي عبد السلام بكور رحمه الله من دون أن تحتاج الرئيس الطويل إلا لأن يتلقى التحية ويرد عليها بابتسامته العريضة. وحين انتهت فترة توليته، ترى من عوضه؟.. الأستاذ محمد أبو يحيى عائداً إلى ولاية ثانية، رجل مثقف، أنيق، بشوش، ويموت حباً في مدينة القصر الكبير التي عشقته وعشقها.. حين يجلس إلى الكرسي يلقي عرضه الأولي قبل بداية أشغال الدورات، لا أحد يتكلم، الكل يصغي، لا يمكن إلا الإمعان خلال تدخله في تلك العربية الفصيحة وكيفية تدرجه عبر النصوص والفصول وكأنه في المدرج يلقي محاضرة. وتوالت السنوات بين الهامتين القامتين ما يربو أو يزيد عن عقدين من الزمن، كان العامل وأي عامل؟ حين يحضر بجانب هاذين الرئيسين في ذلك الزمان الذي كانت السلطة لها شأن كبير، كان يطلب من الأعضاء الانتباه للميزانية حتى لا يتعذر على المجلس أداء أجور الموظفين في ظل الخصاص الذي كانت تعرفه ميزانية ذاك الزمان. ومع ذلك تحققت للمدينة أهداف ومنجزات لم نعرف بقيمتها إلا في هذا الظرف الذي بلغت فيه ميزانية المجلس عشرات الملايير. وبعد هذان الشخصيتين الذي كان يجب تكريمهما من طرف الجيل الحالي رغم أن الموت غيبهما عن هذه الدنيا، لكن سيبقى اسمهما مخالدين إلى الأبد، جاء بعدهما الأستاذ سعيد خيرون الذي هو الآخر لم يتم الانتباه إلى الدور الذي كان يعطيه لكرسي رآسة المجلس إلا حين تبوأه الذي نراه الآن، حيث جمع بين الأخلاق والأداء، وفي ذلك يجب أن لا ننكر له حزمه الإداري ونظافة اليد في المشاريع التي أنجزت في عهده، وكذلك عدم أذيته لأحد من خصومه ومعارضيه، تأبط ملف القصر الكبير ودافع عنه باستماتة، بارع في الإلقاء كما في الاستماع، عانى من معاندة السلطات الإقليمية له رغم أنه لم يكن يواليهم بالود، وحين يحضر لاستقبال المسؤول الأول للإقليم له يحكي مصدر من الديوان أن كاريزمته وحرصه على جدية النقاش تبقى طاغية على مركز الإقليم لأيام. وبعد هذا التاريخ الناصع على الأقل في جانب لا أحد ينتبه إليه، وهو إدارة القصريين في اختيار من يمثلهم، حيث اختاروا الإتحاد في فترة كانت الدولة تتوجس ريبة من حزبهم، وانتخبوا العدلاويين قوة حين أمرت الدولة حزب المصباح بالاقتصاد في ترشحاتهم.. بعد كل هذا التفرد الذي يميز قصراوة عن كل مناطق المغرب، ستعمل السلطة في تمييع هذه الاختيارات الفريدة وطنياً لتسلط على القصريين عكس كل هذا الاستثناء شخصاً فيه كل شرور الخلق امعانا في إذلال تطلعات ساكنة المدينة، ولو عاد الأموات من هذه المدينة الفاضلة إلينا، لفضلوا العودة إلى تحت الأرض على أن يبقوا بين ظهرانينا. على الأقل سعيد كما يحب الجميع أن يناديه عرفنا من بعد ابتعاده ما هو الفرق بينه وبين النزق الآن، فهو وبموضوعية شاء معارضيه أو رفضوا، يمثل الرئيس بما تحمله الكلمة من معنى، عند الولوج إلى مقر الجماعة يشعرك الجو أنك داخل لمؤسسة محترمة جعلت داراً للجماعة وليست زريبة، والذي يعرف ذلك جيداً ويحس به هم الموظفون العاملون هناك والمرتفقين على حد سواء.