بلغنا مؤخرا نعي الأستاذ محمد بن عبد الرحمن بنخليفة أحد المدرسين المشهورين بالقصر الكبير،و نظرا لما تميز به الراحل من جدية ومواظبة على حب مادته التاريخ والجغرافية ، طيلة مساره التعليمي بالقصر الكبير،ونظرا لأني تشرفت بالتتلمذ على هذا الفقيد، فقد ارتأيت أن أتقدم بهذه الشهادة في حق هذا الرجل، وهذا أقل ما يمكن أن يسجل في حقه من لدن تلميذ متواضع. *** أذكر أني تعرفت – في مرحلة الثانوي – إلى الأستاذ سي محمد بنخليفة، الذي أوكل إليه تدريسنا مادة التاريخ والجغرافية- خلال الثمانينيات – وذلك بالثانوية المحمديةبالقصر الكبير.وقبل ذلك كنا نحن التلاميذ – وعلى العادة- نتبادل جانبا من المعلومات حول الأساتذة.ولن أبالغ إن أشرت إلى أن الانطباع الذي كان سائدا آنذاك لدى عموم المتعلمين حول الأستاذ بنخليفة كان إيجابيا،والجميع كان يتحدث عن مناقب هذا الرجل وتقافته الواسعة- من دون مجاملة – ناهيك عن أسلوبه التربوي والتعليمي الذي كان يعتمده في العملية التعليمية التعلمية، والتي أثمرت- كما هو معلوم – أثمرت نتائج إيجابية ومشرفة بشهادة الجميع، وذلك من خلال استيعاب المقرر من دون عناء أو تكلف- على الرغم من طوله -، ومعرفة كيفية التعاطي إلى بعض الإشكالات التي يطرحها إلى جانب تبديد بعض المخاوف التي عادة ما تصيب تلاميذ الباكالوريا. لا أخفي أننا خلال سنة دراسية كاملة استمتعنا بمادتي التاريخ والجغرافية برفقة هذا الرجل الذي تعلمنا منه الكثير من المبادئ والقيم الوطنية والإنسانية.ولتقريب المادة منا نحن التلاميذ كان الراحل بنخليفة يبسطها من غير أية تعقيدات و يحولها إلى أوراش مفتوحة على عديد من الخطابات والإجابات التي كثيرا ما كانت تولد المزيد من الأسئلة خاصة لما يتعلق الأمر بمادة التاريخ،وبالضبط في موضوعي الحرب العالمية الأولى والثانية ومخلفاتهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،ناهيك عن الجغرافية خاصة لما يتعلق الأمر باقتصاد فرنسا وألمانيا والاتحاد السوفياتي.لن أنسى تلك المرحلة – التي ما تزال عالقة أمامنا – مثلما لن أنسى معها بعض الأصدقاء من التلاميذ- الذي يشهدون على هذه المرحلة المهمة من تاريخ حياتنا وعلاقتنا بالراحل بنخليفة- أذكر منهم عزيز الهلالي يحيى محمد رشيد،فلاح عبد السلام، الجباري مصطفى، المويسي عبد الإله وعبد الملك العسري وغيرها من باقي الأسماء الصديقة التي اقتسمنا معها حلاوة هذه المرحلة ،ومتحنا جميعا عبرها من معين معارف الأستاذ والإنسان سي بنخليفة الذي لم يكن يذخر جهدا من أجل تبليغ رسالته التربوية والتعلمية.وبقدر ما إن الرجل كان جادا في كل شيء فإنه كان يحرص- أشد الحرص- على تكريس هذه الجدية وتصريفها في أوساط التلاميذ،وبرأيي فإن هذه المنهجية أثمرت معها وأنتجت العديد من الأطر- التي تخرجت على يديه – التي تسلقت وظائف مهمة ومحترمة في هرم المؤسسات العمومية والتربوية ببلادنا. وللتاريخ لم تكن تمر حصة الأستاذ بنخليفة رتيبة من دون أن تحصل لنا معه بعض النوادر أو الاحتكاكات. وأذكر في هذا السياق أني– ذات حصة – دخلت في مناقشة مع أستاذنا المحترم حول مفهوم الديموقراطية مستعينا في ذلك بتعريف جان جاك روسو، وبقدر ما عاب علي أستاذنا المحترم سي بنخليفة الاستعمال المثالي و الكثيف للمفاهيم، فإنه بالموازاة مع هذا شجعني كثيرا على الانفتاح وروح القراءة. والحديث عن هذا التشجيع يدفعني إلى استحضار نفس المبادرة التي كان يقوم بها هو الآخر الأستاذ محمد التويجر أستاذ التاريخ والجغرافية متعه الله بالصحة الذي كان يتبرع بكتب متنوعة على المتفوقين من التلاميذ وغيرهم مثلما أستحضر الأستاذ سي مصطفى اليعقوبي حفظه الله أستاذ مادة التربية الإسلامية الذي كان صدره يتسع للكثير من المناقشات والأسئلة التي كان يطرحها المقرر.وغني عن البيان فإن مثل هذه المناقشات التي كان يفتحها الأستاذ بنخليفة كانت فرصة لجس نبض قدراتنا المعرفية ولاختبار معلوماتنا التي كنا نكتسبها – نحن التلاميذ – إما من خلال مراجع متفرقة نحصل عليها عبر تبادل الكتب وإعاراتها في بعض الأحيان من المركز الثقافي البلدي بالقصر الكبير،فهي أيضا كانت فرصة تفتح أمام أساتذتنا المجال لتصحيح ما أصابها من اعوجاج حتى تستقيم على نحو أفضل.والأستاذ الراحل سي بنخليفة لم يكن يفوت هذه الفرصة إما للثناء علينا أو تقريعنا بأساليب تربوية لم تكن تقلقنا لأننا كنا نعلم علم اليقين أن الرجل يحبنا مثلما يحب مهنته – التي أداها على أحسن ما يرام – وبلدته التي جعلت منه باحثا ومؤرخا جادا،وبرأيي فإن هذه واحدة من الأسباب التي جعلت الراحل يحظى بشعبية كبيرة في أوساط التلاميذ ولدى الآباء وعموم أبناء القصر الكبير التي أنجبت هذا الرجل مثلما أنجبت العديد من أمثاله الذين يشغلون اليوم حقولا أخرى متنوعة . **** بعد سنوات من العمل في حقل التعليم قضيتها بعيدا عن بلدتي كنت- بين فينة وأخرى- أجدني أنزل مدينة القصر الكبير خلال بعض العطل الدراسية الموسمية.وفي طريقي إلى قلب المدينة إما لتجديد أواصر الحب بالمدينة أو سعيا للالتقاء ببعض الأصدقاء،كنت أصادف- في مشواري- مساء الأستاذ محمد بنخليفة في شارع الزنيدية يجلس إلى طاولة صغيرة بمعية السيد المحترم الغرابلي وببعض الأصدقاء الآخرين. ولن أبالغ إن اعترفت أن البشاشة لم تكن تغادر محيا الرجل،وهي من السمات الثابتة لشخصيته، وعليه، فلا يمكنك الحديث إليه من دون أن تلاحظ هذه الابتسامة الشامخة تعلو تقاسيم وجهه الكريم.وأنت تواصل مشوارك ترى أنه من غير اللائق أن لا تتوقف قليلا للاطمئنان عن أحوال هذا الإنسان الرفيع والمتواضع وذلك من باب الاعتراف بجميل الرجل و أخلاقه و مكانته الرفيعة في قلوب المدينة وأفئدة التلاميذ الذين تتلمذوا عليه.كنت بصراحة أخجل من الرجل وأنا أقف بين يديه، فتجدنا نتجاذب أطراف الحديث حول التعليم والثقافة والكتابة.وبما أن الرجل كان قيد حياته كثير الإلمام بالتاريخ،خاصة تاريخ المدينة،كنت أجده في بعض أحاديثنا يحدثني عن نسبي الجبلي وأجدادي وكذا موطنهم الأول والعلاقة التي تربطهم ببعض الأنساب القريبة والبعيدة. وعلى الرغم من الحيز الزمني القصير الذي كان يتم فيه هذا اللقاء، لا أخفي أنني استفدت كثيرا من هذه الأحاديث السريعة والتي كانت بالنسبة لي بمثابة إضافة دفعتني لقراءة والتهام كل ما يهم تاريخ مدينة القصر الكبير والنواحي بما في ذلك تاريخ بيني عروس وآل سريف.ومع مرور السنوات ومن خلال ترددي على مكتبة أستاذنا المحترم العربي العسري أطال الله عمره،سأكتشف أن سي بنخليفة قد أصدر كتابا يحمل عنوان"أعلام أدبية تاريخية علمية"إلى جانب"الشتيت والنثير في أخبار القصر الكبير"،وذلك في مرحلة التسعينيات،ليتوج هذا الأستاذ الباحث مسيرته العلمية بإصدارين آخرين هما"المغرب ومقدمة ابن خلدون أو ذيل على المقدمة"و كتاب "المستصفى من أخبار القبائل العربية بالمغرب الأقصى".وعلى الرغم من عدم تخصصي في مجال التاريخ فإن هذا لا يمنع من الإدلاء بدلوي بخصوص إصدارات أستاذنا الراحل سي بنخليفة والتي كنت أجد فيها من خلال اطلاعي عليها نموذج الدراسات العلمية الرصينة التي سلطت الكثير من الأضواء على مدينة القصر الكبير بكل ما ينتظم بداخلها من فضاءات موازية وأعلام انشغلت بحقول متنوعة من قبيل الأدب والتاريخ وباقي العلوم الأخرى. وأعتقد أن هذه الإنجازات العلمية التي أشرفت وسهرت على إخراجها جميعة البحث التاريخي والاجتماعي تحتاج إلى المزيد من الاهتمام من لدن أبناء القصر الباحثين منهم والطلبة على حد سواء، وذلك للاحتفاء بها والوقوف على القيم التاريخية والعلمية والإنسانية التي تطرحها وتنتصرلها إنجازات أستاذنا الراحل والذي من دون شك سيترك موته فراغا لدى عائلته الصغيرة والكبيرة و لدينا نحن قدماء تلاميذه مثلما سيترك رحيله نفس الفراغ في مجال البحث العلمي الذي ينصرف للاهتمام بالقصر الكبير وقضاياه التاريخية. رحم الله فقيدنا الأستاذ محمد بن عبد الرحمن بنخليفة، وأسكنه فسيح جنانه، إن لله وإن إليه راجعون.