يواصل الدكتور عبد السلام الهراس عرض ذكرياته التي تؤرخ لجانب من الحياة العامة والخاصة لبلادنا وبلدان العالم الإسلامي. في هذه الحلقة يستعرض أسماء شخصيات أخرى أثرت فيه وكان لها فضل لا ينسى على شخصيته. مما ينبغي ذكره أسماء زملاء الدراسة وجلهم ما يزال حيا، ومن أقربهم إلى الأخ الأستاذ محمد بن قاسم أستاذ بالمعهد الديني بالقصر الكبير، وكان حفظه الله ذا فهم عميق ولاسيما في النحو والفقه. وقد ترافقنا نحوا من ثلاث سنين. ومن الجدير ذكره أنه كان من القلائل الذين اجتازوا شهادة العالمية بالقرويين ولعلها كانت السنة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة حسب النظام القديم. ومن الزملاء في الدراسة اللامعين الأستاذ محمد المجذوبي الذي كان معروفا باسم بوعمامة وكان من نوابغ الطلاب، وكان يمتاز بالجدية والصرامة والاعتزاز، وكم أسفت إذ قيل لي إنه غادر القرويين والتحق بالتعليم الابتدائي معلما، وقد التقينا بفاس عندما نقلت إليها فرع كلية الآداب بتطوان التي أغلقت أبوابها سنة ,1966 وقد جددنا العلاقة، وكان يزاول التفتيش الذي تدرج إلى أعلى مرتبة فيه، وكم كنت أود أن أراه أستاذا بالجامعة مثلما كنت أتمنى أن أرى الأخ الأستاذ عبد الكريم الطبال الذي لو عاش هو والأخ الأستاذ المجذوبي بمصر لكان لهما شأن وأي شأن مثلما أصبح للإخوة الدكاترة: عبد الصبور شاهين ومحمد عمارة ومحمود الربيعي وغيرهم مما كانوا متميزين بالثانوي وبالجامعة... وممن لا أنسى أخوته الأستاذ عبد الرحمان حجيرة الوجدي الذي كان كتلة من الإخلاص المتفجر أيام كانت الوطنية هي العطاء ولا الأخذ والاكتساب!! وهو الذي عرفني ببعض الاخوة من وجدة وبركان. وقد عرفني بزوج أخته الأستاذ يحي العتيقي من كبار رجال التعليم بالشرق المغربي وممن اشتهر بالتأليف بالمغرب كما كان يدرس معنا مجموعة من الطلاب الجزائريين ولاسيما من غرب الجزائر أذكر منهم الأخ محمد الصباغ الذي له قصة طويلة في الجهاد بالجزائر وقد أصبح سفيرا. والأستاذ بوزيان التلمساني والأستاذ محمود بوعياد الذي ظل بالمغرب حتى استقلال الجزائر وقد التقينا مرتين: مرة في تطوان منذ نحو من عشر سنوات ومرة في الجزائر وكان ذلك في شهر أكتوبر. وقد وجدته قد أصبح المستشار الثقافي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومن الأسماء التي لا أنساها الأخ معطي الله، وابن عمه محمود، وكان زعيم الطلبة الأستاذ محمد بنددوش الذي أصبح مذيعا مشهورا بإذاعة المغرب ولا أنسى مأساة البعثة الطلابية الجزائرية بالقرويين إذ انهارت عليهم بناية سكناهم ذات ليلة فقتل بعض الطلبة الأحباب ولولا لطف الله لكانت الكارثة أكبر بكثير، وكانت جنازة هؤلاء الطلبة الأخوة من أكبر الجنازات بفاس إذ خرج الطلاب معها عن بكرة أبيهم أما الجمهور الفاسي سواء داخل الأحزاب أو خارجها فقد كان حضوره كبيرا ومتنوعا... لقد كان مظهرا تضامنيا عظيما ليته دام بين الشعبين والبلدين!! وهناك إخوة كثار جلهم ما يزالون أحياء ترافقنا أيام الدراسة وقد التحق جلهم بالتعليم والقضاء والقليل منهم التحقوا بالتجارة والصناعة ومنهم من التحق بالجيش أقلهم رتبة كولونيل وأعلاهم جنرال وهو زميل وحبيب كان يدرس في ثانوية مولاي إدريس، وكان من الشباب المخلصين لوطنهم ودينهم. والجدير بالذكر أن القرويين كانت جامعة عظيمة تضم جل بلاد المغرب حتى في سوس ومراكش ونواحي بني ملال. أما أهل الجبل فكانت نسبتهم هامة. والملاحظ أن الطلبة البدويين والقرويين كانت نسبهم كبيرة وصارت تكبر مع مرور الزمن، والملاحظ أن التعليم الديني كاد يصبح اليوم مقصورا على طلاب البادية رحم الله أستاذنا عبد الكريم الداودي الذي قال لولا أبناء البادية لضاع الدين في بلادنا. ومن اللافت للنظر أن المواد الأدبية والاجتماعية كانت نسبتها ضئيلة في المقرر كما أن الكتب المقررة كانت عموما فقيرة وقديمة مثل أدبيات اللغة، والأدب الوسيد وهما كتابان مصريان والأدب العربي للزيات وبعض النصوص القديمة والأندلسية وكان مدرسو الأدب قلائل مثل الأستاذ عبد الكريم العراقي والشاعر محمد الحلوي حفظهما الله... أما الجغرافية فمن حسن حظنا أنه كان عندنا الأستاذ بوزيان وهو مدرس ناجح جدا في تدريس هذه المادة، وكان رحمه الله يرسم لنا الخرائط بالطباشير الملونة في الحائط، أما الحساب فكان حظنا منه قليلا وكئيبا خصصا بالنسبة لنا الذين درسنا بالمدارس الإسلامية العصرية التابعة لسلطة الحماية... وكان عندنا أستاذ للحساب عصري وهو الأستاذ الشرفي الذي أصبح من رجال القضاء المختارين بوزارة العدل المغربية ولم أدرس عليه وكان الطلبة يتنافسون في قراءة الكتب الجديدة الوافدة من الشرق الأدبية منها والفلسفية والتربوية والإسلامية... ومن الكتب الجديدة التي شغلت القراء أساتذة وطلابا قصص جرجي زيدان التي كنا نظن أنها كتب أدب وتاريخ وقصة وكان بعض أساتذتنا يعتمد عليها في التاريخ. فلما ذهبنا لمصر اكتشفنا أنها كانت داخلة في مخطط رهيب لتشويه التاريخ الإسلامي بتقديمه في قوالب قصصية مشوقة... ومن الكتب التي أعجبنا بها كتب: محمد حسين هيكل وكتب العقاد وسيد قطب والغزالي وأحمد أمين وطه حسين. ومن الكتب التي استأثرت باعجاب الطلاب وبعض شيوخهم: كتاب من هنا نبدأ لخالد محمد خالد رحمه الله الذي كان ثوريا، وجل الطلاب لم يلتفتوا لكتاب من هنا نعلم للرد عليه ألفه الشيخ محمد الغزالي، إظهارا من الطلبة لمناصرة ثورية خالد محمد خالد... أما القصص فكان يروج عندنا قصص إحسان عبد القدوس وقصص يوسف السباعي!! أما سلسلة كتب أحمد أمين فكنا نلتهمها التهاما وما زلت أذكر أني بعت جلابة لي شاونية جديدة واشتريت بثمنها: كتاب ضحى الإسلام في ثلاثة أجزاء من الحاج عبد الكريم القادري رحمه الله رحمة واسعة... الذي ظللنا على محبة وتواصل إلى أن التحق بجوار ربه منذ ثلاث سنوات تقريبا وظل كتبيا إلى أن رأى أنها لم تعد صالحة لأمثاله وقد حكى لي أنه كان يرفض بيع الكتب لبعض الجهات لأنها تطالبه بنسبة 10% عمولة لها أي رشوة وغلول لمال الأمة، ومن الكتاب الذين كنا نقرأ لهم: مصطفى صادق الرافعي صاحب وحي القلم والمنفلوطي صاحب العبرات والنظرات وكنا معجبين بأدب المهجر مثل جبران وإيليا أبو ماضي... أما الصحافة التي كنا نقرأها في الرأي العام ولاسيما الغمرات للأستاذ محمد بن محمد الوزاني والنقد الذاتي للأستاذ علال الفاسي. وكان الأستاذ محمد بن عبد العزيز الحبابي ينتقد مقالات الأستاذ. وقد كان يشارع أن ذلك النقد كان وراءه مجموعة من الكتاب، وكانت هناك جريدة العلم ومن الأبواب الجيدة: من النافذة لأحمد زياد رحمه الله بتوقيع أبو طارق فيما أظن، وكانت هناك رسالة المغرب وهي مجلة محترمة كان الأستاذ عبد الكريم غلاب حفظه الله مسؤولا عنها، وكنا نقرأ الأبواب الأدبية في جريدة السعادة التي كانت تابعة للإقامة العامة، وكانت هناك بعض المجلات الخطية ومنها مجلة الأستاذ عبد النبي السفياني ولعل اسمها كان المطرقة. أما جريدة البصائر الجزائرية فكانت تحتل الصدارة عندنا وكنا ننتظرها بلهفة وشوق، ولاسيما مقالات الشيخ بشير الإبراهيمي التي ما تزال تحتفظ بقيمتها الأدبية إلى الآن. لقد كان الرجل من بلغاء العرب في القرن الرابع عشر ويمتاز بأسلوب يجمع بين الأسر والجزالة والعذوبة والاشراق والتدفق والسخرية اللاذعة واختراع المعاني والقدرة على التصوير وروعة الإيقاع وتنوع العبارات والبراعة في استثمار التراث والقدرة الفائقة في الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. إن الرجل كان عالما متبحرا في علوم الشريعة واللغة وكان آية من آيات الله الباهرة في أدب العرب: إنه جاحظ هذا العصر، وقد أكرمني الله بلقائه في بيروت صيف 1954 ومعه العالم الرباني الشيخ العربي التبسي رحمهما الله وهو رحمه الله كان ممن وجهني للالتحاق بدار العلوم بالقاهرة حيث كنت ألقاه من حين لآخر في قاعة المحاضرات بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة. وكنا نقرأ من حين لآخر مجلة الرسالة للزيات والثقافة لأحمد أمين والأديب اللبنانية لألبير أديب، والمسلمون لسعيد رمضان وكانت خزانة القرويين من أهم المؤسسات الثقافية بفاس فكنا نقصدها للمطالعة والقراءة فتراها غاصة بالطلاب وقليل منا من كان مبتلى بالمخطوطات التي كانت هذه الخزانة غنية بها قبل أن تمتد إليها أيادي النهب والسلب!! إن ارتباطنا بالشرق كانت جد وثيقة، كنا نعرف عن الشرق ما لا نعرف عن بلدنا ولذلك كان أملنا وطموحنا أن ندرس بالقاهرة وقد تحقق هذا الطموح بالنسبة لعدة طلاب أعرف منهم حوالي العشرين ومنهم من كان قد حاز العالمية من القرويين وذهب للقاهرة لنيل الإجازة من جامعة القاهرة ولاسيما في كلية دار العلوم أو الآداب أو الأزهر الشريف. الكثير من أصحابي الطلبة وأنا معهم لم نكن نتصور الآفاق بعد التخرج في القرويين فكنا نطلب العلم للعلم لنصبح علماء أدباء كتابا خطباء شعراء، شيئا ذا قيمة لوطننا حتى أنه عندما أتيحت لنا الفرصة ليلتحق معلمين بالمدارس الابتدائية بالمنطقة السلطانية بأجرة مغرية لم نستجب لهذا الإغراء بل آثرنا مكابدة طلب العلم مع شظف العيش على أن نلتحق بوظيفة معلم بأجرة تصل إلى 200 درهما تقريبا وهي أجرة تكفل لنا العيش في رفاهية وتساعدنا على الزواج ومساعدة الأسرة... وقد عرضت على والدي فكرة الالتحاق بسلك المعلمين، وأنا غير جاد، فقالت لي والدتي رحمها الله، نحن وهبناك لله لا للمال، فعندنا الكفاف والحمد لله، إذاك قلت لهما: إذن تسمحان لي أن أتابع دراستي بالشرق فأجابت الوالدة اذهب يا ولدي حينما رأيت الفائدة فأنت في سبيل الله... أما سيدي الوالد فكان يتمنى أن أظل بجانبه لا أفارقه لأنني كنت الوحيد الأسرة التي أصيبت بفقد ثلاثة أطفال ولم يبق للوالدين إلا عبد السلام الذي عزم على السفر إلى الشرق الذي كان مطمح جميع شباب المغرب يوم كانت هناك وشائج قوية بين المغرب والمشرق، وكان المغاربة أكثر حبا للمشرق ومعرفة به واعتزازا بعلمه وثقافته.