عنّ لي مرات عدة أن أكتب عن الأستاذ عبد السلام ياسين كما سبق أن كتبت عن الأستاذ طه عبد الرحمان(*)، بل وقد كانت كتابتي عن الثاني دون الأول مصدر سوء فهم ونوعِ تأنيب ضمير، مرده سوء الفهم إلى ما اعتقده الكثيرون في أني تلميذ لطه عبد الرحمان، وذلك لكتابتي مقالين عنه، وحقيقة الأمر أني لم أشرُف بلقاء الرجل ولم أتلقَّ عنه، وما رأيته في حياتي إلا مرتين، محاضرا في إحداها وصليت إلى جانبه بمسجد كلية آداب أكدال بالرباط في الأخرى. أما تأنيب الضمير فمرده إلى أني تتلمذت للأستاذ ياسين باللقاء المباشر من 1986 إلى 1993، وهي المدة التي قضيتها عضوا في "أسرة الجماعة" ثم "جماعة العدل والإحسان بعد توسع التنظيم. شرُفت بالجلوس إليه أياما بعد خروجه من السجن حيث كان عليك أن تُقدم بطاقتك الوطنية لدخول منزله في حي السلام بسلا، وكنت وقتها "لحسن الحظ" دون السن الإجبارية للحصول على هذه البطاقة. كان المتحلقون حول الشيخ حينئذ لا يتعدى أصابع اليد، وكانت سنوات التكوين تلك مرحلة حاسمة في "بلورة" مواقفي السياسية والفكرية، كما أن تسامحه مع "خصومه" ومكفريه كان مورد احتذاء خلقي لا ينضب. تفصلني اليوم سنوات طوال عن الشيخ، ولكن يبقى في نظري مفكرا إسلاميا من "العيار الثقيل"، كما يقال، ويبقى صاحب نظر ثاقب سواء في السياسة أو الفكر أو التربية. ما كان يمنعني من الكتابة عنه، زهدٌ في تسطير الكلمات ابتداءا، ثم ما يعرفه "مشهدنا الثقافي" من بؤس ورثه عن بؤس السياسة في هذا البلد. فأن تذكر مناقب رجل - في حركة أو حزب- و عن عطائه في الفكر والسياسة، وأن تستلهم اجتهاداته، يعني أنك "تُزمِّرُ" له و"تستقطب" الناس لحركته أو حزبه، وفي اعتقادي أن ما تحتاجه البلاد أندادا لهذا العَلَم من الرجال لا أتباعا فقط. من أساتذتي في الفكر من "الإسلاميين" المتأخرين: حسن البنا والمودودي و الندوي و سيد قطب والشعراوي والبوطي...وإذا كان تأثير هؤلاء الأعلام علي عبر كتبهم، فإن للشيخ ياسين فضل أكبر لأني جلست إليه وانبهرت بسعة اطلاعه وصبره وتواضعه حتى مع التلميذ الذي كنته آنئذ (كنت تلميذا في الرابعة إعدادي أو أوائل الخامسة من التعليم الثانوي بنظام ذاك الزمن). وقبل الدخول في بعض تفاصيل فكر أستاذنا أود أن أصف لقائي الأول به بُعيد خروجه من السجن (1985 أو أوائل 1986) لغاية في نفس يعقوب يقضيها بعد سرد أحداث اللقاء. سمعتُ وثلة من أصدقائي عن إطلاق سراح الشيخ ياسين، وكنا لا نعرف عنه إلا أنه سُجن بسبب رسالة بعث بها إلى الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، كان عنوانها "الإسلام أو الطوفان"، وكانت وفود تقِلُّ حينا و تكثر أخرى من "إسلاميين" وغيرهم يزورونه في بيته لمزيد معرفة بالرجل أو إشباع فضول بسماعه، و أحسبني و رفاقي الثلاثة كنا في المنزلة بين المنزلتين. ذهبنا لحي السلام حيث يقيم الشيخ وصلينا العصر في مسجد "بن سعيد" ثم يممنا شطر بيت الأستاذ، وبعد تفاصيل طرق الباب والدخول والجلوس في غرفة الاستقبال، أُخبرنا أنه سينزل بعد قليل للجلوس إلينا، وكانت غرقته الصغيرة في الطابق الأول من المنزل. دخل علينا بقامته النحيفة وبردته الدافئة ووجهه البشوش دائما وسلم علينا بحرارة، أذهبت بعضا مما كنا نجد من قلق وهيبة لحظة اللقاء. جلس إلينا وكان أول ما بدأ به الحديث سؤال كل واحد منا عن اسمه ومن أي البلاد هو، جوابي كان أنني من "حاحة"، وأذكر تبسمه في وجهي وقوله "من بلدي"، ثُم فتح باب السؤال حول موضوع الزيارة وما نريد معرفته، تحدثنا لأْيًا من الزمن وأجابنا بصبر وسعة صدرِ من ابتُلي بأسئلة من كان في سننا ومبلغِ "عِلمنا". في آخر هذا اللقاء طلبنا من الأستاذ الانتماء لتنظيمه، وكان جوابه مفاجئا وصريحا: إذا انتميتم للجماعة ستتعرضون للاعتقال والتعذيب" كما كان ردنا حاسما متحمسا " نريد الانتماء لأسرة الجماعة". أكتب الآن وفاء لواحد من أساتذتي الكبار، ولرمز من رموز الفكر والدعوة. أما عن الغاية التي في نفس "يعقوب" أراد قضاءها فهي الحديث عما كان لتلك الزيارة لحظتها وبعد ذلك من أثر نفس و فكر كاتب هذه الأسطر. رأيت رأي العين كيف يكون التواضع مع خلق الله وكيف يكون بسط الجناح وتربية الكرامة في النفوس، و استشعرت و رفاقي شيئا من الإحساس بالعزة والفخر أن استقبلنا وحدثنا وسمح لنا بالاعتراض والمجادلة رجل بتاريخ وقيمة وقامة الشيخ عبد السلام ياسين، كما علمني ذاك اللقاء كيف يكون الحرص على الاقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك من سؤاله عن اسمنا وأصلنا، أخذا بسيرة الرسول الكريم كيوم سأل الرجل من نينوى في رحلته إلى الطائف عن اسمه ومن أي القوم هو. لم يكن انتماؤنا لأسرة الجماعة عن قناعة بخطها ومنهجها وفكر مؤسسها، فقد كنا وبحكم السن دون مستوى فهم خطاب الرجل. ولكن دافعنا كان فهما مخصوصا لمصطلح من مصطلحات الشيخ الرئيسة "برهان الصدق"، وحاصله أن تكون مستعدا لأن يُضرب عنقك من أجل ما تؤمن به، وقد برهن برسالته الشهيرة للملك الراحل أبلغ برهان عن صدقه في الطلب، كما أن ما كتبه عن آية الله كما سمى "ماو تسي تونغ" في كتابه "الإسلام غدا" وما قام به الأخير لتوحيد الصين بمسيرته الحمراء الأطول في التاريح وحديثه عن "هوشي منه" الذي كان يتنقل في عاصمة رئاسته على دراجة هوائية، كان تجليا لسَعة أُفق الرجل ووعيا منه بقوة نماذج "الخصم" و حافزا لا يُقاوم "للمراهق" الذي كنته. أقف الآن عند بعض ملامحَ ميزت في رأيي فكر أستاذنا وكان لها الأثر الكبير على طريقة وحتى أسلوب كتابة صاحب هذه الأسطر: - القُطرية: دعى الأستاذ ياسين منذ انطلاق رحلته الدعوية والسياسية إلى القطرية، بمعنى العمل ضمن المجتمع الذي نشأ فيه بخصوصيته دون وصاية من تنظيم يسِم نفسه بالعالمية، أو نسخ "لتجارب"(1) بغير تبصُّر أو على غير هدى. الدعوة الإسلامية عالمية في تعاليمها لكنها ليست "معولِمة ولا معولَمة في تنزيلها على واقع الناس وحيواتهم. وقد قال في قريب من هذا المعنى الصحابي الكبير عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة" (صحيح مسلم). - مشكلة المصطلح: في علوم الإسلام ربما تكون مقولة الأصوليين "لا مشاحة في الاصطلاح" صحيحة، ولكن في معيش الناس اليومي ولغة تخاطبهم وكتابتهم تُصبح للغة خطورة لا تقل عن خطورة ما يُسمى بالغزو الثقافي، فالابتعاد عن مفردات القرآن والسنة والتوسل بمصطلحات التهويل أيسر الطرق لهجر القرآن ولعل فعلها في الفكر أخفى من دبيب النمل، يقول الأستاذ في كتابه الصغير الحجم والعظيم النفع "مقدمات في المنهاج" (1989 ص10): " "و إذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"(المائدة 83) هكذا معرفة الحق تتسرب مباشرة من القرآن المسموع بالقلب والعقل، لا وسائط فكرية و لا مفاهيم يألفها نصارى العرب دون سائر العرب" و يقول في الصفحة 13 من نفس الكتاب :"لسنا بحمد الله ممن يُخاف عليهم أن ينزلقوا في دروب الألفاظ فتتوَحَّل في مستنقع يمتزج فيه كلام الخالق بكلام البشر" كما أن اجتهاداته في شق طريق في الفكر الإسلامي مستمدة من مفردات القرآن تجدها في حديثه عن العقبة والإيمان وشعبه وغيرها كثير. - توقير العلماء وحق الاختلاف: في إحدى جلساتي وثلة من الإخوة مع الأستاذ في بيته في شهور الانتماء الأولى، وكانت الجلسة في غرفة صغيرة لسبب لا أذكره ( ربما إصلاحات بغرفة الاستقبال) سأل أحد الحضور الشيخ عن قراءة القرآن جماعة بعد صلاتي الفجر و المغرب، أبدعة هو أم لا ؟، وكان جواب الأستاذ من أجمل وأذكى ماسمعَت أُذناي، وقبل ذكره لابد من الإشارة إلى أن الشيخ كان كثيرا ما يتجنب الحديث عما يجلب عليه التبديع بل والتكفير من قضاة العصر و الأوصياء على الدين وما أكثُرهم في تلك الأيام و هاته، ولا أعتقد الشيخ يأبه بهم اليوم، قلت جواب الأستاذ كان أن قراءة القرآن جماعة بعد صلاتي الفجر و المغرب كانت عادة في البلاد منذ أيام القاضي عياض، ولم يقل في تبديعها شيئا. أن تحترم الأسلاف والاختلاف هو ما تعلمته ذلك اليوم، وأذكر حديثا دار بين صديق وواحد من المتنطعين ممن لا يجيدون تهجئة حديث نبوي، وكان النقاش حول رأي للإمام مالك بن أنس يستند فيه إلى دليل يزعم الأخير أن فيه ضعفا، وأردف قائلا إنه يُخالف مالكا، فأجابه صاحبي : "أنا الضعيف العقل الذي يُناقش أمثالك"، (وماذا عساه يقول لشبه أمي لم يكد يضع حتى أُصبعا في طريق طلب العلم، يتبجح بمخالفة إمام المدينة ومؤسس مذهب جعل عقولا جبارة تتبعه ). - العقل والإيمان: عرفتُ حجة الإسلام الغزالي رحمه الله عن طريق الشيخ و لربما كان ما ترك من أثر في فكري شبيه بالذي أخذه عنه أستاذنا الجليل. فالعقل الذي يتبجح به الكثيرون إنما هو "تجَمّلٌ ب(الحداثة والعقل (2)) تقليدا يدل على حسن رأيٍ، ويُشعر بفطنة وذكاء"(3). ولكنني لم أتحقق بهذه القناعة إلا بعد سنوات من ذلك، كانت لزوما بما يُلزِم به الزمن طالب العلم صبرا على ينعه و جلائه في الذهن. ولكن وجود معلم في إلمام الأستاذ ياسين بفكر أهل الغرب كان ستارا واقيا ونورا هاديا للكثير من شباب جيلي، فالتجمل بالأسماء الهائلة، بلغة الغزالي، كماركس ولينين وسارتر، كان يكفي لحذو سبيل أهل التغريب. كما كانت نظراته الثاقبة في فكر أهل الغرب، والحديثُ هنا عن أيام الاتحاد السوفياتي وبروز تيارات البنيوية والأنتروبولوجية إلى غير ذلك من الأسماء "المُرعبة"، سندا يقف حافظا من الميل كل الميل ناحية حبال التهويل و مصايد التخذيل. و جملةٌ من مثل قوله في "مقدمات في المنهاج" : "ولِما يُسمّى في عصرنا "بالعلوم الإنسانية" مناهج كثيرة متكاثرة" (ص 26)، كانت كافية لتزرع في قلبي بذور الشك فيما كنت أعتقده علوما إنسانية، وذلك من إشارة الأستاذ إليها بتعبيره "ما يُسمى" كما بوضعها بين لامَّتين في ذلك الوقت المبكر من عمري حيث لم أقرأ بعد لا نيتشه ولا فوكو ولا فيتجنشتين. - التاريخ والوهم: عندما سمعت ثم قرأت للأستاذ عن تاريخ الأمة الإسلامية و عن سكوت العلماء عن الظلم بدعوى الحفاظ على "بيضة الإسلامية"، وتساؤله الساخر عن هذه البيضة ووجودها من عدمه، كنتُ كمن صُفع على وجهه، فقام من حلم أو استفاق من وهم. ولكن وفي نفس الوقت كان حديث الأستاذ عن تاريخ الإسلام في "نظرات في الفقه والتاريخ" وفي غيره مصدر سوء فهم كبير، جعل الكثير من شباب الحركة وغيرهم يختزل تاريخ الإسلام في تاريخ سلاطينه، ولي قبل بيان مقصدي قصة أحكيها من زمن النضال، وأعتقد في 1992 أو 1993، حاصل هذه القصة مداخلة لي في حلقة بكلية علوم الرباط وكنت ساعتها أنتمي لفصيل العدل والإحسان، و ما أذكره من تلك المداخلة هو ثَنائي على مؤسسي الماركسية وزعمائها وختمتها بجملة فجرت الحلقة وأنهتها وكادت تُحوّلها لحلبة مكالمة، كان الجملة "تقريبا" كالتالي" لقد توافر للماركسية عباقرة من أمثال ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ وغرامشي ومع ذلك فشلت في تحقيق حلم الاشتراكية، ولا أعتقد أن ما فشل فيه المبدعون الأذكياء سينجح فيه المقلدون الأغبياء". ومناسبة سردي للقصة أن "رفيقا"، أذكره جيدا إلى الآن ويذكرني لأنه كان شقيقا لصديق عزيز، جعل يصيح بلا جدوى لأن الرفاق غضبوا وتعالت الأصوات وارتفعت الأيادي من هنا وهناك، ولكنني التقطت من كلام "الرفيق" اعتراضا ألمعيا مفاده أن ما قلته ينطبق عليَّ. وقصده أن ما فشل في تحقيقه الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهُمْ من هُمْ لن يستطيع إليه سبيلا مُقلدوهم. وإذا كانت حجة صاحبنا الألمعية لا تنهض فلأن تاريخ الإسلام ليس تاريخ سلاطينه. وقد بقي الإسلام ولا يزال محفوظا في قلوب الملايين بشعائر أعياده و مساجده إلى الآن، كما وبالحديث عن صراع الغرب والإسلام تارة وحوارهما أخرى، و ما عرفته السنوات والشهور الأخيرة من احتجاجات على "الآيات الشيطانية" لسيئ الذكر "سلمان رشدي"، أو الرسوم المسيئة للرسول الكريم أخيرا وليس آخرا محاولة حرق المصحف كما بالغزو السافر لأفغانستان والعراق ورفض تركيا في الإتحاد الأوروبي، بعض آياتٍ على ذلك. فالإسلام كان قائما ولا يزال بأمته وعلمائه قبل سلاطينه، منذ وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا أجد قصة تُعبر عن منزعي في هذه المسألة أبلغ من تلك التي أوردها بن خلِّكان في "وفياة الأعيان" (ج3ص33) وغيره في ترجمة عبد الله بن المبارك: قال: "قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا قالوا: عالم أهل خراسان قدم الرقة يُقال له عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان" - حديث العرى: لا يكاد يخلوا كتاب أو حديث للأستاذ ياسين عن الحديث المروي في مسند الإمام أحمد وغيره: "لتُنقضن عرى الاسلام عروة، وكلما انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها. أولهن نقضا الحكم، وآخرها الصلاة". قيل الكثير عن صحة هذا الحديث وعن بناء فكرٍ و"مشروعٍ"(4) على حديث يعروه ضعف. وقصدي من ذكره هنا هو دفاع عن فكرة للأستاذ ياسين في تصوره الحكم بالمعنى القائم اليوم، أي الحكومة أو رئاسة الدولة. اعتقد العالم الجليل فريد الأنصاري، رحمه الله، أنه نقضها في كتابه القيم والعظيم الفائدة "البيان الدعوي"، يقول فقيدنا رحمه الله: "ُثُم قال الاستاذ (يقصد الشيخ ياسين في كتابه "نظرات في التاريخ") معلقا بعد إيراده الحديث (يقصد حديث العرى): "لنزداد يقينا بأن الحكم قد فسد مبكرا جدا"، ظنا منه أن الحكم هنا هو رئاسة الدولة. وهو ليس كذلك، بل هو القضاء والدليل استقراء المصطلح في الكتاب والسنة."(5). كما أنه ذكر أن الأستاذ فهم من لفظة الحكم ما تعنيه في عصرنا، مُسقطا حاضر مفهوم لفظة على مفهومها في الماضي. وردّي هنا إبداء لرأي في مسألة اختلف فيها عالمان أحدهما كنت ولازلت أفتخر بالتلمذة عليه في الفكر والأخلاق، والآخر عَلَمٌ من أعلام الفكر والدعوة في هذا البلد. عندما قرأت نص الأستاذ الأنصاري وكان الجزء الخاص بنقد فكرة الحكم بمعنى القضاء عند الشيخ ياسين قد نُشر على صفحات جريدة قبل أن أجد نسخة من الكتاب بشق الأنفس، انقدح الرد في ذهني ساعة قراءتي نص كلام فقيدنا في الجريدة، وحاصله أن عالمنا الأنصاري هو من أسقط مفهوم الحكم المُحدث على مفهومه في عصر النبوة، وبعده بقرون وقبله بقرون، فالقضاء لا ينفصل عن الحكم ولم ينفصل عن الحكم، إلا نظريا ابتداءا، عند تأليف فيلسوف السياسة الفرنسي مونتيسكيو كتابه "روح القوانين" في منتصف القرن الثامن عشر لميلاد المسيح، و الذي نظَّر فيه للفصل بين السلط، أما قبل ذلك فلم يوجد فصل بين الحكم ،بمعنى الإمارة والرئاسة من جهة، و القضاء و الحكم بين الناس من جهة أخرى. وآية ذلك أن سليمان الذي آتاه الله الحكم والنبوة كان ملكا في نفس الوقت وكذلك كان أبوه داوود عليها الصلاة والسلام، والمُجَادلُ في فصلهما إنما يُسقط مفهوما معاصرا على مجال تداولي لم يكن له فيه مكان. ختاما أرجوا أن يكون في أسطر هذا المقال معالم لفهم فكر الأستاذ عبد السلام ياسين أو مداخل لهذا الفهم وإن كانت قبل ذلك وبعده عرفانا بفضل هذا الرجل على كاتب هذه الأسطر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. هوامش: (*) مقالَيْ "طه عبد الرحمان والمهام العالقة" و "طه عبد الرحمان: في المنهجية والخطاب : الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري نموذجا" (أنظر الشبكة العنكبوتية) (1) أكره هذا اللفظ في الحديث عن حيوات الناس، لكن ما العمل والطريق أمامنا طويل لرتق خروم سفينتنا اللغوية. (2) "تَجمُّل بالكفر" في نص الغزالي. (3) أبوحامد الغزالي نقلا عن عبد السلام ياسين "الإسلام والقومية العلمانية" 1989 ص 101 (4) هاهي استعارة من اقتصاد السوق تتربص بنا. والحديث صححه الحاكم من المتقدمين والألباني من المتأخرين. (5) فريد الانصاري: البيان الدعوي. دار الكلمة 2004 ص170.