عرفت الدكتور عبد الصبور شاهين، الذي توفي إلى رحمة الله خلال الأسبوع ما قبل الماضي، في مناسبات عديدة، حيث التقيت به وجلست إليه وتحدثت معه في كل من الرباطوالقاهرة والرياض ومكة وطهران. وكانت لقاءاتي به المتكررة في العاصمة الإيرانية، أكثر فائدة بالنسبة لي، لأنها أتاحت لي الفرصة للاستغراق معه في أحاديث ثقافية علمية طويلة تناولت القضايا التي ينشغل بها، وتطرقت إلى الأوضاع في العالم الإسلامي وإلى مواقف الغرب إزاء الإسلام واللغة العربية والثقافة الإسلامية، حيث كنا ننزل في فندق واحد، بمناسبة مشاركتنا في ثلاث دورات من المؤتمر الدولي للوحدة الإسلامية الذي ينظمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية. وقبل أن ألتقي بالدكتور عبد الصبور شاهين في الرباط، في إحدى زياراته لها للمشاركة في الدروس الحسنية الرمضانية، كنت قد قرأت له ترجماته لعدد من مؤلفات المفكر الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، خاصة كتابه الفذ العمدة (الظاهرة القرآنية) الذي أذكر أن الدكتور عبد السلام الهراس، متعه الله بالصحة وطول العمر، هو الذي نبهني إليه، وبالخصوص إلى المقدمة الضافية الفريدة من نوعها، التي كتبها الأستاذ محمود محمد شاكر، يرحمه الله، لهذا الكتاب. وبعد أن قرأت المقدمة ثلاث مرات، وليست مرة واحدة، بادرت إلى نشرها في عددين من مجلة (دعوة الحق) التي كنت رئيساً لتحريرها في تلك الفترة. وتصادف أن زارنا الأستاذ محمود محمد شاكر في رمضان تلك السنة، لحضور الدروس الحسنية، لا لإلقاء الدرس، لأن الدروس الدينية ليست من اختصاصاته. وكان لابد من أن نتحدث طويلاً عن الدكتور عبد الصبور شاهين مترجم (الظاهرة القرآنية). وقد سمعت من الأستاذ محمود محمد شاكر ثناء عاطراً على المترجم. وثناء الأستاذ شاكر على شخص ما، هو شهادة له بالتوفيق وبالتفوق في مجاله، لأنه نادراً ما يثني على عمل يقوم به شخص. تخرج الدكتور عبد الصبور شاهين في كلية دار العلوم، التي أصبحت اليوم تابعة لجامعة القاهرة، وكانت إلى الخمسينيات من القرن الماضي، كلية قائمة الذات، تمتاز بالمستوى الرفيع لأساتذتها، وبتميز خريجيها عن زملائهم خريجي الجامعات المصرية الثلاث : القاهرة، وعين شمس، والإسكندرية، الذين كان منهم نابغون في اللغة والأدب والنقد والشعر وفي الصحافة والإعلام وفي الدراسات الأدبية الجامعية والبحوث الأكاديمية. وصاحبنا من تلك الصفوة الطيبة. وتعلم الدكتور عبد الصبور شاهين اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، أولاً، حيث كان يختلف إلى المركز في الدروس المسائية، وأظهر منذ البداية مقدرة عالية على تعلم الفرنسية، أثارت إعجاب المدرسين في المركز، فتعهدوه بالعناية الخاصة إلى أن أنهى السنوات المقررة. ثم التحق بكلية الحقوق الفرنسية التي كانت موجودة عهدئذ ثم ألغيت. وفي فترة مبكرة من حياته العملية، التحق بالإذاعة المصرية مترجماً ومحرراً في القسم الفرنسي، إلى جانب عمله مدرساً في دار العلوم قبل أن يصبح أستاذاً في قسم الدراسات الإسلامية. وفي تلك الفترة من أواسط الخمسينيات، التقى شاهين بالمفكر الجزائري مالك بن نبي الذي كان يقيم في القاهرة، في عزّ الثورة الجزائرية. وكان الدكتور عبد السلام الهراس هو صلة الوصل بينهما. وكان هذا اللقاء بين الرجلين، بداية تعاون فكري ثقافي بينهما كان له آثار طيبة، حيث شرع عبد الصبور شاهين في ترجمة مؤلفات مالك بن نبي الفرنسية إلى العربية، التي توالى صدورها، والتي كان لها تأثير ملموس في الفكر الإسلامي المعاصر، استفادت منها أجيال عربية متعاقبة. وأشهد أني أفدت منها كثيرًا. وترجم الدكتور عبد الصبور شاهين، مجموعة من مؤلفات المفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي، تحضرني منها الآن العناوين التالية : (وجهة العالم الإسلامي)، و(شروط النهضة) بالمشاركة مع عمر كامل مسقاوي، و(مشكلة الثقافة)، و(فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج)، و(ميلاد مجتمع : شبكة العلاقات الاجتماعية). هذا بالإضافة إلى الكتاب الفريد من نوعه (الظاهرة القرآنية) الذي صدر عام 1958. وبين يدي الآن الطبعة الرابعة لدار الفكر في دمشق التي تمتاز بالمقدمة التي كتبها الدكتور محمد عبد الله دراز للطبعة الفرنسية الأصلية. كما ترجم الدكتور عبد الصبور شاهين كتاب (دستور الأخلاق في القرآن : دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن) للدكتور محمد عبد الله دراز، الذي كان في الأصل أطروحة نال بها المؤلف شهادة الدكتوراه من السوربون في أواسط أربعينيات القرن الماضي. وأذكر أن الدكتور أحمد رمزي، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأسبق، نشر الأصل الفرنسي لهذا الكتاب ضمن إصدارات الوزارة. ويقول الدكتور عبد الصبور شاهين عن ترجمته لهذا الكتاب النفيس : «إن أعظم عمل أرجو الله سبحانه أن يقبله ويثيبني عليه، هو ترجمتي للدراسة الرائدة التي كانت في أصلها أطروحة الدكتوراه للعالم محمد عبد الله دراز رحمه الله (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)». أما مؤلفات الدكتور عبد الصبور شاهين، فهي كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، (القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1966 والطبعة الحديثة صدرت عام 2006، و(العربية لغة العلوم والتقنية) الذي صدر عام 1986، و(فن التطور اللغوي) الذي صدر عام 1991، و(أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي : أبو عمرو بن العلاء) الذي صدر عام 1987، و(تاريخ القرآن) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1966، وصدرت طبعة حديثة عن دار نهضة مصر عام 2007، وهي التي بين يدي الآن. وحقق كتاب (تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة الدينوري، وراجع ترجمة كتاب (الإسلام يتحدى : مدخل إلى الإيمان) لوحيد الدين خان الذي ترجمه ظفر الإسلام خان. كما ترجم شاهين كتاب (العربية الفصحى : نحو بناء لغوي جديد) لفليش هنري، وكتاب (علم الأصوات) للكاتب السويدي لبرتيل لمبرج، واشترك مع علي حلمي موسى في تأليف كتاب (دراسة إحصائية لجذور معجم تاج العروس) باستخدام الكومبيوتر، وصدر له كتاب (الإسلام بين الحقيقة والادعاء)، وكتاب (أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة)، وكتاب (قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة). وترجم لرجاء جارودي كتابه (فلسطين: أرض الرسالات الإلهية). وله تحت الطبع ترجمته للموسوعة الفرنسية التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر عن (لغات العالم)، وكتاب (الغزالي والإحياء). أما آخر كتب الدكتور عبد الصبور شاهين فهو (السنة والشيعة أمة واحدة) الذي صدر عن دار نهضة مصر في القاهرة في العام الماضي. وقد قرأت الكتاب أثناء زيارتي ما قبل الأخيرة للقاهرة، وتحدثت حوله مع المؤلف بالهاتف حين تعذر عليّ اللقاء به. وأعترف بأني أعدت قراءة هذا الكتاب الذي يقع في 98 صفحة من الحجم المتوسط، مرتين. وشرعت ليلة أمس في القراءة الثالثة له. فهو كتاب مناسب في الوقت المناسب. فهو يمثل أملاً في عودة الإسلام إلى وحدته، واسترداد قوته وعافيته تحقيقاً لنداء الله سبحانه ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾. كنت أسمع الأستاذ محمود محمد شاكر يثني على الدكتور عبد الصبور شاهين، في مرات كثيرة، سواء هنا في الرباط، أو في بيته بمصر الجديدة في القاهرة، فأزداد إكباراً له وتقديراً لعلمه وفضله. وأنقل للقارئ ما قاله الدكتور شاهين عن صلته بالأستاذ شاكر، في كلمة تصدرت الترجمة العربية لكتاب (الظاهرة القرآنية): «كان من فضل الله أن تولى أستاذنا الكبير (محمود محمد شاكر) تقديم كتاب (الظاهرة القرآنية) إلى القراء، هذا التقديم الثمين الذي يعد بحق أروع ما كُتب في مسألة اتصال بيان العرب في الجاهلية بقضية (إعجاز القرآن)، وإني لأتقدم بالشكر إلى الأستاذ الدكتور (محمود قاسم) رئيس قسم الدراسات الفلسفية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، على توجيهاته التي أفدت منها الكثير، وإلى الأستاذ المحدث (محمد فؤاد عبد الباقي) على تفضله بتحقيق ما عسر عليَّ تحقيقه من أحاديث الكتاب». لقد اهتم الدكتور عبد الصبور شاهين بالتصدّي للهجمات التي يشنها المستشرقون ومن يسير في ركابهم من الكتاب العرب، ضد القرآن الكريم، خاصة في هذه المرحلة التي ظهر فيها عدد من الكتاب المفكرين العرب، الذين يعمدون إلى النيل من قداسة القرآن الكريم تحت دعاوى باطلة وشعارات مضللة. فقد بادر إلى الردّ على الدكتور محمد عابد الجابري، عندما أخذ ينشر فصولاً مختصرة من كتابه حول تفسير القرآن أو فهم القرآن، في إحدى الجرائد الخليجية، قبل أن يصدر الكتاب في أربعة أجزاء عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، فأظهر بطلان الدعاوى التي جاء بها الجابري في كتاباته عن القرآن الكريم التي فاجأ بها الجميع، وخالف فيها ما تواتر عليه علماء المسلمين من عصر النبوة وإلى اليوم. كما ردّ الدكتور عبد الصبور شاهين على الشبهات والأباطيل التي جاء بها الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي كان قد تقدم ببحث له حول القرآن الكريم، إلى اللجنة المختصة بفحص البحوث التي يقدمها المدرسون في كلية دار العلوم للترقية إلى درجة أستاذ مساعد ثم درجة أستاذ، يتضمن طعناً صريحاً في آيات من القرآن الكريم، ورأياً مستغرباً في تجميد العمل بآيات أخرى. وكان ذلك تحدياً صارخاً للمنهج العلمي الذي تقتضيه البحوث الجامعية، أولاً وقبل كل شيء، قبل أن يكون تحدياً للقرآن الكريم، لأن كتاب الله تعالى أكبر من أي تحد. يقول الدكتور عبد الصبور شاهين في المقدمة التي كتبها لطبعة دار نهضة مصر لكتاب (تاريخ القرآن): «تخرج هذه الطبعة من تاريخ القرآن، والجوّ مشحون بالكثير من الكتابات العدوانية التي تستهدف القرآن، شكلاً ومضموناً، ففي الساحة الثقافية أدعياء كثيرون يخوضون في علوم القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وقد أشعلوا فتنة علمانية يريدون بها أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، أو المشركون، أو العلمانيون». ويشرح حيثيات هؤلاء ودوافعهم، فيقول: «إن أخطر ما في هذا الموقف، أن هؤلاء الأدعياء الخائضين في آيات الله، وفي تاريخ القرآن، وفي موضوعات الفكر الإسلامي، يحرصون كلما حوصروا على تأكيد أنهم مناصرون للإسلام، وأنهم أعمق إيماناً من دعاته، وأن العلمانية هي جوهر الدين، رغم أن حقائق الثقافة المعاصرة، تؤكد أنهم دعاة إلحاد، وأن شرط العلمانية أن يخرجوا من العقيدة، ولا بأس عليهم أن يتظاهروا بها خداعاً وكذباً ونفاقاً». كما يعرض في هذا الكتاب لآخر التحديات التي يواجهها القرآن، وهو ما نشرته جهات أمريكية صهيونية من كتاب يحمل عنوان (الفرقان الحق)، وهو ملف يجمع افتراءات المنصرين، لتضليل المسلمين في أطراف الأرض. وقد استخدم هذا الملف أسوأ الألفاظ وأقبحها في محاولته محاربة الإسلام، وتشويه القرآن الكريم. لقد عاش الدكتور عبد الصبور شاهين في محراب القرآن عالماً وأستاذاً ومفكراً ومؤلفاً ومجاهداً بقلمه البليغ وفكره المستنير. وكان مثالاً لأخلاق العلماء ولسمت الفضلاء. رحمه الله برحمته الواسعة.