بداية تعالوا نتفق على مُسَلَّمة وهي أن الدسترة (من الدستور) لم تأت مِنَّةً أو منحة هكذا بدون مقدمات، بل هي جاءت نتيجة نضالات وتضحيات لعقود وعقود من قبل أحرار هذا الوطن عبر مذكرات مطلبية، ودعوات شعبية، اقتداء بشعوب تنفست نسمات التحرر من الحكم الفردي المطلق. الدسترة هي تعاقد وميثاق غليظ يربط أركان أي نظام سياسي ليغدو صرحا متراصا محكم البنيان. هذا ما تعلمناه حين كنا نقتعد مقاعد الدراسة والتحصيل لدى أساتذة وفقهاء في القانون، كانوا يسقون طلبتهم من نبع اسمه روح القانون، قبل أن يترجموه إلى نصوص وقواعد ودروس. بعض من الأساتذة الأجلاء اليوم (خاصة في مجال العلوم السياسية والقانون الدستوري) نسي أو تناسى ما درسه بالأمس القريب، لذلك نراهم أصيبوا بالخرس وهم يشهدون آخر فصل من طقوس الاعتداء على الدستور. فلنترك هؤلاء في سباتهم العميق ولنتحدث قليلا عن المؤسسات، وتحديدا المؤسسات الدستورية (الحكومة، البرلمان، المحكمة الدستورية)، التي خولها دستور 2011 صلاحيات واسعة، لنطرح السؤال التالي؛ ما موقع هذه المؤسسات مما يجري من خرق واضح للمقتضيات الدستورية، فيما يتعلق بإبرام اتفاقيات دولية من قبل وزراء في حكومة تصريف الأمور الجارية، المرافقين لعاهل البلاد في جولته الإفريقية؟ إذا رجعنا إلى النص الدستوري سنجد أن الفقرة الأخيرة من الفصل 47 من الدستور تنص على ما يلي: "تواصل الحكومة المنتهية مهامها تصريف الأمور الجارية إلى غاية تشكيل الحكومة الجديدة". كما يحيل الفصل 87 من الدستور على القانون التنظيمي الذي يحدد وينظم القواعد الخاصة بتصريف الحكومة المنتهية مهامها للأمور الجارية. وبالرجوع إلى هذا القانون التنظيمي رقم 065.13 (الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6348 في 2 أبريل 2015)، نجد أن الفصل 37 يبين عبارة "تصريف الأمور الجارية" في اتخاد المراسيم والقرارات والمقررات الإدارية الضرورية والتدابير المستعجلة اللازمة لضمان استمراية عمل مصالح الدولة ومؤسساتها، وضمان انتظام سير المرافق العمومية. الفقرة الثانية من الفصل 37 توضح ضمن القواعد الخاصة المحددة لحكومة تصريف الأمور الجارية أنه لا تندرج ضمنها أي التزامات تلزم الحكومة المقبلة بصفة دائمة ومستمرة، وخاصة المصادقة على مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية وكذا التعيين في المناصب العليا. أما فيما يخص الاتفاقيات والشراكات كيفما كانت وطنية أم دولية، والتي تؤسس لوضع قانوني جديد ولالتزام الدولة بنفقات مالية جديدة خارج القانون المالي المؤطر لهذه النفقات، فإنها لا تدخل ضمن صلاحيات ومهام حكومة تصريف الأعمال، لأنه وفق منطوق الفصل 37 من القانون التنظيمي السالف ذكره "تلزم الحكومة المقبلة بصفة دائمة ومستمرة"، وهو ما يعد خرقا فاضحا للأحكام التطبيقية للدستور والذي ينظمها هذا القانون التنظيمي. وتجدر الإشارة إلى أنه حتى وإن تعلق الأمر بمعاهدات دولية خاضعة للقواعد والممارسات التي يؤطرها القانون الدولي، فالفقرة الثانية من الفصل 55 من الدستور واضحة ولا تحتاج إلى تأويل، إذ تنص على ما يلي: "يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون". خرق الدستور هو أحد الأعطاب القديمة التي تجعل المؤسسات ضعيفة، ولا تقوم بالأدوار المنوطة بها دستوريا على أكمل وجه، وتقوي نزعة شعبية مضادة للمَأْسَسَة. والحديث عن الخرق الدستوري لوزراء في حكومة تصريف الأعمال بتوقيعهم على اتفاقيات ومعاهدات تلزم ماليا الحكومة المقبلة بصفة دائمة ومستمرة، لا يعفي الحكومة المكلفة برمتها من المسؤولية، إعمالا لقاعدة التضامن الحكومي. كما أن الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، ويقومون بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة (الفصل 93 من الدستور). في هذا السياق نتساءل، أين هي الأمانة العامة للحكومة من كل هذا؟ أليست هي المستشار القانوني للحكومة، وملزمة بتقديم الاستشارات المتعلقة باحترام الحكومة لتطبيق النصوص القانونية إن على المستوى الدستوري أو التشريعي أو التنظيمي؟ ماذا عن رأيها بخصوص الطابع القانوني لتصرفات حكومة تصريف الأعمال؟. أما فيما يخص البرلمان بغرفتيه، فرغم ما له من اختصاصات واسعة في مجال المصادقة على الاتفاقيات الدولية، جاءت بها المقتضيات الدستورية لدستور 2011 (معاهدات السلم أو الاتحاد، أو رسم الحدود، معاهدات التجارة، المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، معاهدات يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، معاهدات متعلقة بحقوق المواطنة وبالحريات العامة والخاصة)، وما له من أدوار رقابية على أعمال الحكومة، ولو كانت حكومة تصريف أعمال، لم نره (البرلمان) قام بدعوة لا لرئيس حكومة تصريف الأعمال ولا لأي وزير لمساءلته حول هذه الاتفاقيات التي تم توقيعها. وإذا كانت الغرفة الأولى بالبرلمان لازالت تعيش وضعية عطالة إجبارية بحكم تأخر انتخاب رئيسها ومكتبها المسير، فلا نفهم صمت الغرفة الثانية عن الكلام في الأمر. وليس خاف على كثير من المهتمين بالقانون الدستوري، أن القضاء الدستوري والذي تمثله المحكمة الدستورية، هو الفيصل في كثير من الإشكالات الدستورية، والساهر على حماية تنزيل الدستور تنزيلا سليما، وأحكامه نهائية غير قابلة للمراجعة أو الطعن. وسواء تعلق الأمر بالاتفاقيات أو المعاهدات التي يوقع ويصادق عليها الملك ويصدر الأمر بتنفيذها بظهائر ملكية، أو تلك التي يصادق عليها البرلمان بقانون وتدخل حيز التنفيذ، ففي كلا الحالتين تتم الإحالة إلى المحكمة الدستورية لتبت في مطابقتها للدستور داخل أجل شهر يبتدئ من تاريخ الإحالة، و يخفض الأجل في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام بطلب من الحكومة. وتؤدي الإحالة إلى المحكمة الدستورية في هذه الحالات، إلى وقف سريان أجل إصدار الأمر بالتنفيذ (الفصل 132 من الدستور). والإحالة على المحكمة الدستورية يمكنها أن تأتي من قبل الملك، أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين. بعد كل ما تقدم، يظل السؤال -الذي يصيبنا بالدهشة والصدمة في نفس الآن- مطروحا، إن كنا حقا دولة مؤسسات، فأين هي مؤسساتنا الدستورية مما يجري من خرق للدستور؟ الجواب قد نلخصه في كون جلباب الدستور ربما لم تتم خياطته ليكون لباسا ملائما لمؤسساتنا الدستورية، أو إنه فُصِّل على غير المقاس.