رأيت فيما يرى النائم حلما، ما أظنه بأضغاث أحلام. رأيت "أبا الفضل بديع الزمان" يقوم من مرقده وفي جعبته مقامة لم يمهله الأجل ليسردها على رؤوس الأشهاد في سوق عكاظ. وسط حشود غفيرة من أقصى جغرافية الأرض، من مغرب لم تطأها قدماه من قبل بُعِثٓ لتلاوة آخر مقاماته. نفض عنه ما تبقى من تراب عالق بعباءته، ثبت عمامته فوق رأسه، نحنح بصوت عال وسط الحشود المتحلقة من حوله ليختبر صوته، أهو على نبرته السابقة، أم أصابه الوهن كما أصاب جسده المتهالك. لن يستعين اليوم "بعيسى بن هشام" ولا "بأبي الفتح"، سيكون اليوم هو بطل المقامات. قبل أن ينطلق في سرد آخر مقاماته، باغثه القوم ممن تحلقوا حوله بإشهار هواتفهم الذكية لتسجيل الحدث. تمادى بعضهم فوثبوا فوق منصة الخطابة لالتقاط"سيلفيات" رفقة بديع الزمان. حولق المسكين في نفسه خيفَةً، وأَسَرَّ لها أن هذا حال قوم آخر الزمان. وسط هذه الحشود المتدافعة فضل آخرون إطلاع "بديع الزمان" على آخر فيديوهات "اليوتيوب" التي حققت نسبة مشاهدة فاقت عدد سكان البصرة وهمذان مجتمعتين. تمايل بديع الزمان وأصيب بالدوار من فظاعة ما شاهده. "ألهذا الحد وصلت المروءة؟!!" "أهكذا انحدرت سفالة القوم؟!!" لقد فاقت جرأتهم "أبا نواس"، فعلى الأقل لم يكن ذاك الصعلوك يعرض عورته على الملأ. لم يكد"بديع الزمان" يتعافى من دواره العابر حتى أصابه الإحباط والحسرة وهو يشاهد لقطات مصورة لمصرع شاب في مقتبل العمر وهو يدافع عن كسبه الذي رآه يتلف أمام ناظريه. لم يتصور يوما أن يشاهد أفظع من ذلك، حتى في عهد أعتى "صاحب شرطة" في زمانه. بكى المسكين بكاء حارقا على ما آلت إليه الأحوال في زمن النخاسة، وقرر العودة من حيث أتى غير آسف على مقامته الأخيرة التي امتنع عن إلقاءها وفضل أن تظل حبيسة صدره وتوارى معه في مرقده فقد ولى زمن المقامات.