رأيته في سكر طافح، وكنت أعرف كيف ينقلب حاله رأسا على عقب حين يعاقر الخمر؛ يتنصل من طبعه الهادئ ويمتطي صهوة العنف، كنت أتحاشاه كلما رمقته سكرانا، فأغير اتجاهي لكي لا يقال عني ما يقال عنه، لكن في مساء ممطر وبارد التقيته وجها لوجه في زقاق الحي فوجدتني كطريدة وقعت في كمين، رمى بجثته على صدري، رفع بصره نحو وجهي وعانقني كعاشق ولهان، قبلني على خذي وعانقني حتى ملأهما بزاقا كريه الرائحة، شعرت من أولها أني وقعت في ورطة غير منتظرة، طوقني من جديد بذراعه وشرع في سرد مواويل أقرب إلى الغزل منها إلى المدح، ناداني باسمي ولقبي واستعرض على مسمعي معرفته بي، ذكر أيام الصبا والدراسة واللعب في فضاءات الحي، ولم ينس سينما "بيريس كالدوس" وأفلامها الهندية فأعاد سرد قصصها الطويلة، بل تذكر حتى يوم تغيبنا عن حصة الرياضيات بعدما تواعدنا مع فتاتين فكانت الحصيلة دورية شرطة في "سيدي بلعباس" فررت على إثرها في حين قبض عليه لبطئه الشديد وضخامة جثثه وبطنه المنتفخ، ولما تذكر أمه دخل في نوبة من البكاء، قال أنها في سن شبابها كانت رائعة الجمال تشبه إلى حد كبير جميلات يوليود "هيما ماليني"، لكنها رحمها الله لم تجن من أبيه السكير إلا التعب والشقاء، فطلقت منه وأكملت حياتها بدون زواج في حين تورط هو الآخر في زواجه من ابنة أحد تجار الحشيشة والخمر فأدخلته إلى عالم الضياع من بابه الواسع، بعدها خاض في مواضيع سياسية، حلل وناقش أوضاع الأمة العربية والأوروبية، لعن "ستالين" وأثنى على "تروتسكي"، امتدح "تشي غيفارا" و"ماركيز" وانتقد "عرفات" و"جمال عبد الناصر"، اقترح حلولا خيالية لمشاكل العالم، استسلمت لقدري لكنه لما سقط على أم رأسه تحولت قضية صديقي إلى واجب أخلاقي، ولأجله ذلك قررت ألا أتركه عرضة للسخرية، توسلت إليه أن يرافقني إلى الشارع العام لنستقل سيارة أجرة كي أصطحبه إلى منزله، لم يهتم لتوسلي، تحلق الناس حولنا أشار بأصبعه ليصمت الجميع، صعد عتبة مطعم شعبي وبدأ يخطب: "أيها الناس السكارى، يا فقراء العالم، أيها المغفلون، الانتخابات على الأبواب، وهذا هو مرشحكم، وأشار إلي مجاز، مثقف، مؤدب، خدوم، شبعان، جميل، عطوف، لن يخون الأمانة أبدا، وأول ما سيبدأ في تنفيذه إذا وضعتم فيه ثقتكم هو منع ترويج الخمر، هذه السلعة الملعونة". فأخرج القنينة، ورمى بها فكادت أن تقع على رأس عجوز واقف، تحسس داخل معطفه فإذا به يعثر في أحد جيوبه على قدر كبير من المال أدركت أنها أجرته الشهرية، فزاد ذلك من إصراري على مرافقته غاية بيته محمولا لكي لا تتلاشى أجرته في الأزقة المظلمة. وفي الطريق غنى كشكولا من الأغاني: "الأطلال" و"فات المعاد" و"قارئة الفنجان"، وبعدها ردد أشعار "نزار قباني" و"محمود درويش". عندما طرقت باب منزله، أطلت زوجته من النافذة، مد ذراعيه وغنى لها أغنية "La vie en rose" ل "خوليو اكليسياس" وصاح: " أيها الغافلون ، يا سكان العالم ، الانتخابات على أبواب منزلي، صوتوا على زوجتي فوالله لن تجدوا أحسن منها نبلا وأخلاقا".