ارتبطت المقهى في مخيال المجتمع التقليدي بصورة سلبية تنظر إلى المقهى باعتباره فضاء لا يرتاده سوى الفاشلين في الدراسة وكبار السن من الباحثين عن التسلية وتزجية الفراغ، لكن هذه الصورة النمطية ما لبثت أن تغيرت مع التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المديني الحديث . لقد أصبحت المقهى شيئا آخر خاصة بعدما باتت مجهزة بأحدث وسائل التقنية وأدوات الاتصال. تمثل المقهى بالنسبة إلي مكانا تلوذ به الذات الشاعرة من أجل ممارسة فعل إبداعي مختلف تشرطه الجدة والرغبة الجامحة في التجاوز والتخطي. فهو فضاء يساعد على انفجار الطاقة الشعرية واستنفار الذائقة الأدبية الخلاقة. ففضاء المقهى يتيح للمبدع أن يعيش عزلة الذات في ركن أو زاوية يأوي إليها من أجل ممارسة طقوس الخلق الشعري بكثير من الفرادة والتوهج الإبداعيين؛ فالجلوس إلى منضدة تعتليها كتب وأوراق وأقلام مختلفة الأحجام والألوان وارتشاف الشاي أو القهوة ونغمات الموسيقى تداعب الأذن وتأمل الناس والحياة من النافذة كلها أمور تستنفر الطاقة الإبداعية وتطلق العنان لميلاد أفكار جديدة مبتكرة سرعان ما تتحول إلى نصوص وخطابات تتناقلها ألسنة القراء وأفئدتهم. يتيح فضاء المقهى للمبدع الالتحام بالناس واقتحام معترك الحياة بدل العيش على هامشها في برج عاجي منفصل عن الحياة وتيارها الجارف. وهذا الأمر يساعد على توفير المادة الأولية لنصوص إبداعية قادمة تتخذ من مشاهد المقهى وأحاديثها منطلقا لها. ففي المقهي يلتقي أصحاب الفكر والمنشغلون بثضايا الإبداع من أجل تدارس أوضاع الأدب وقضايا التلقي. كما يرتاده الفاعلون الجمعويون من أجل الترتيب للقاء شعري أو ندوة نقدية. مما يسهل على المنشغلين بالحقل الإبداعي مسألة التعارف فيما بينهم والاطلاع على الجديد الإبداعي لكل واحد منهم. إن المقهى فضاء للنميمة الثقافية بامتياز، حيث تروج أخبار المؤلفين وكواليس الجوائز الأدبية وآخر الإصدارات. كما تمثل المقهى منطلقا لعدوى القراءة؛ إذ يمكن أن يتأثر كثير من رواد المقاهي بالمثقفين الذين يرتادونها من أجل الانهماك في قراءة كتاب أو مجلة. وهو ما يساعد على انتشار "عادة القراءة" في صفوف رواد المقاهي. وما من شك أن هذه الممارسات من شأنها أن تجعل من المقهى رافدا من روافد الفعل الإبداعي والثقافي بشكل عام؛ فعديد من الأفكار الأدبية والنصوص الإبداعية رأت النور في المقاهي كما يشهد على ذلك سير المبدعين واعترافاتهم. فقد تولدت فكرة مسرحية "أهل الكهف" في مقهى تعود الحكيم أن يجلس عندها كل جمعة حيث تنتهي إليه أصوات المقرئين وهم يتلون سورة الكهف فلمعت في ذهنه فكرة تأليف مسرحية تتناول قصة شباب الكهف وقد استقى نجيب محفوظ كثيرا من أحداث وشخوص رواياته من المقاهي الشعبية التي تعود ارتيادها فقد استلهم شخصية أحمد بن عبد الجواد (السي السيد) بطل الثلاثية الشهير من الحاج فهمي الفيشاوي صاحب "قهوة الفيشاوي" الشهيرة في مصر الذي كان فتوة حي الجمالية. لقد أصبحت المقهى جزءا جوهريا من الوعي المجتمعي الجديد باعتبارها فضاء لبث المعرفة وتأصيل قيم التنوير. أما بالنسبة إلى الكتاب والأدباء فإن المقهى تشكل فضاء ملائما لاقتراف الفعل الثقافي واجتراح الكتابة الإبداعية على نحو يمكن من فتح الإبداع على حدود المدهش والمختلف.