السّاعة التّاسعة صباحاً.. الشّمس تسطعُ على رقَبتي دافئة ، وهذا القطارُ القادمُ من جهةِ الشّمال، يتحيّنُ الوقتَ ليُلقي بي من جديدْ بعيداً حيثُ لا أهل و لا خلاّنْ .. ريّاحُ الشّمال هبّت تقلبُ أفكاري ، وكل تخميناتي وتُنذرُ بقُدوم المَطر، قلتُ في نَفسي ، من الغباءِ الوُثوقُ في الخَريفْ مُتقلّبٌ كوجهِ امرأةٍ يُؤرقُ مضجعها المرض، فتُقلّبُ وجهها بينَ الزّوايا الضّيقةَ .. قالِ لي الغريبُ بجانبي : في عزّ الخريفْ توقّع أي شيء، حتّى تلكَ المرأة الماثلةُ هُنالك قد يأتيها زوجٌ في قريبِ الأيام ، وقبلَ أن ألتفتَ نحوهُ ، أومأ برأسهِ تِجاهي، "إنّها عانسْ" .. الغريبُ الّذي مافتئ ينزلُ على مسامِعي، يغزلُ حكاياه و ألمه ويُلقي على كاهِلي ثِقلَ الزّمنِ الّذي أعياه .. ليثني استطعتُ أن أفعل مثله ،لكبّهُ بادرني بالشّكوى. وبعدَ سردٍ مُسترسلٍ للفوضى الّتي كانت تدبّ في روحهِ، أحسستُ أنّه نعمَ ببعضِ الرّاحة ، وقبلَ أن ينتهي عمّ صوتُ المُذيعة مقصورةَ القطارْ .. " سيّداتي سادتي ، محطّة المُحمديّة " ومضى الرّجل في حالِ سبيلهِ يتأبّطُ السّواد مقصوصةٌ مَنِكبيهْ، كانَ عجوزاً طاعناً في الجراحْ ولا أدري بعدها أينَ صارَ وبمن التقى فهذا القطارُ يحملُ على ظَهرهِ مئاتَ الحكايا ، وغالباً ما يُخبّئ رُكابهِ خلفَ ابتسامتهم أسراراً لا يعلمها سواهمْ، يتفنّونَ في مُداراة الخيبة ، كأنّهم في حفلٍ تنكّري ...يقولُ كاتب فرنسي " لو أفصحنا عن عُشر أعشار ما يدور في أذهان النّاس، لأثرنا فضائح لا نهاية لها.." .