في إطار سلسلة تاريخ الفكر السياسي، الحلقة الثالثة، نظمت الكلية المتعددة التخصصات بالعرائش لقاء علميا عن بعد، في موضوع الدولة والحرية في فكر ” باروخ اسبينوزا” Baruch Spinoza و”جان جاك روسو ” Jean-Jacques Rousseau بمشاركة الدكتور أحمد كوال (أستاذ باحث في السوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة) بمحاضرة تحت عنوان “الدولة والحرية في فكر اسبينوزا ” والدكتور زين الدين الحبيب استاتي (أستاذ القانون الدستوري والفكر السياسي بجامعة عبدالمالك السعدي) بمحاضرة تحت عنوان “الدولة والحرية في فكر روسو”، وذلك يوم السبت 09 مايو 2020 على الساعة التاسعة والنصف ليلا، عبر تقنية “Meet Googele” . كلمة السيد العميد افتتح هذا اللقاء العلمي المتميز الدكتور محمد العربي كركب، عميد الكلية المتعددة التخصصات بالعرائش، بالترحيب بالأستاذين المحاضرين والمشاركات والمشاركين من أساتذة وطلبة ومهتمين، منوها في نفس الوقت بالمبادرة القيّمة ومستحضرا أهمية موضوع هذا اللقاء مقدما بشكل مباشر لموضوع المحاضرتين المرتبطتين أساسا بمفاهيم جوهرية وهي الدولة والحرية في الفكر السياسي. توطئة الدكتور الحبيب استاتي زين الدين بدأ بالترحيب بالمشاركين، ونوّه بتجديد اللقاء والتواصل مع الترحم على ضحايا الجائحة والدعاء بالسلامة للجميع، بعدها أبرزا أهمية وراهنية الارتباط الوثيق والجدلي الخالد بين “الحرية والدولة ” موضوع اللقاء. اعتبر الدولة والسلطة من أهم مواضيع الفكر السياسي وتاريخه، ثم حدد الأستاذ وبدقة علمية متناهية الغرض من هذا اللقاء في هدفين إثنين متداخلين: هدف معرفي يتمثل في استكمال الحوار والنقاش حول رموز الفكر السياسي الليبرالي وإن كانت الليبرالية متعددة الدلالات كما وضح لاحقا. أوضح أن المقصود بالاستكمال الوعي بالترابط بين حلقات الفكر السياسي على اختلاف السياقات والأمكنة والأزمنة؛ والهدف الثاني بيداغوجي يرتبط بضرورة التقاط الدروس والعبر في أفق أن يستطيع الباحث أو الطالب توظيف المكتسبات المعرفية في قراءة الحاضر وفهم أحداثه (مع وضع المسافة الكافية بين الحدث والذات من باب الحذر الابستمولوجي واستحسان قراءة الأفكار السياسية انطلاقا من الكتاب الأصلي لامتلاك القدرة على نقد ما يكتب عنها أو مساءلتها هي نفسها أو مقارنتها مع غيرها من الكتابات. وتفاعلا مع السياقات الحاضرة والأحداث اليومية، خلص الأستاذ إلى إمكانية تجديد التساؤل عن الهدف من الدولة، أي الانتقال إلى موضوع الدولة انطلاقا مما نعيشه اليوم، فيطرح السؤال: لم الدولة؟ هل لهذا السؤال معنى بعد كل هذا الزمن؟ خاصة بعد هذه القرون العديدة من الدراسة والبحث حول أهمية الدولة والغاية منها. بمعنى، مدى راهنية ودلالة التساؤل الأول، الهدف من الدولة؟ للإجابة عن هذا التساؤل اقترح الأستاذ استاتي طريقتين: إما وضع الهدف داخل نطاق الدولة أو مسبقا خارجها. في الحالة الثانية، تصبح الدولة وسيلة في خدمة ما سواها (رئيس دولة أو أحزاب سياسية أو أي جهة ذات قوة أو نفوذ)، عكس البحث في الدولة من الداخل (الحالة الأولى)، أي ربط هدف الدولة بالممارسة والواقع لا بالأفكار والنظريات فحسب. ويضيف الأستاذ استاتي قائلا: وأنا في إطار السؤال عن معنى الدولة، أجد نفسي متسائلا من باب الوعي الشقي عن معنى السياسة؟ العلاقة قوية بينهما، على اعتبار أن الحديث عن الدولة لا يستقيم بدون ربطه بالسياسة، مما سيسعف للوصول إلى الجواب عن سؤال: لماذا تصلح السياسة اليوم؟ في هذا السياق، يقدم الأستاذ جوابين اثنين على شكل فرضيتين، مفضلا البدء بالفرضية المتشائمة على حساب الفرضية الثانية المتفائلة. الأولى تنطلق من كوننا مارسنا ربما السياسة إلى التخمة، حتى لم تعد نعرف كيف نزاولها، بحيث اختلط علينا الأمر من كثرة ممارستها. النتيجة غادرتنا السياسة وتخلت عنا، والموجود حاليا بعيد عن السياسة وأقرب إلى اللاتسييس من جراء التسييس المفرط غير المجدي وغير النافع. الافتراض الثاني يفيد أنه لا وجود لتخمة سياسية ولا ممارسة سيئة ومتهالكة، أي لا توجد لدينا سياسة بشكل كاف وأننا بحاجة إلى ممارستها. هذه الفرضية أقرب، في تقديره، إلى الرجاء والنداء الداعي إلى ممارسة السياسة وتوفير الشروط الضرورية لقطف ثمارها. يوضح أن هناك من سيدرج الفرضيتين معا في خانة التصور والتنظير ليس إلا، لكن الواقع لا يرتفع. ما أحوجنا إلى السياسة! ليس المجال مناسبا للحديث عن مدلولاتها المختلفة، أو إثارة قضية السلوك السياسي اليوم ضمن زوج الخطاب والممارسة (الخطاب واحد والممارسة متعددة) التسييس أو اللاتسييس، المصلحة العامة أو الخاصة. الأمر أعمق من ذلك، لقد انتقل هذا العمل في حد ذاته من تدبير الصراع مع الغير، إلى تدبير الندرة بمنطق اقتصادي محض في ظل اختلال العلاقة بين العرض الضئيل والطلب المكثف، إلى الحديث اليوم وفرة الفرص وسوء التقدير. ما تحقق في فترة الحجر الصحي اجتماعيا يحمل بعض المؤشرات على هذه الفرص. ما ظل معلقا بسبب حسابات سياسوية لسنوات تحقق في أقل من شهر – تعبئة جماعية (من الأعلى إلى الأسفل)- دعم تجهيز- تصنيع تعليم عن بعد رغم الإكراهات، والأهم تحقيق تعبئة ومبادرة جماعية سيكون من المفيد استثمارها لاحقا لتعزيز هذه الوفرة والاستفادة منها، ومن ضمنها وفرة الموارد اللامادية، وعلى رأسها العنصر البشري الذي منه تنطلق الدولة وإليه تعود، خصوصا وأن جائحة فيروس كورونا المستجد أثبتت أن دور الدولة استراتيجي في الرفع من جودة وقوة القطاعات الاجتماعية ليشعر المواطن بالاطمئنان وليس فقط الاستقرار (والاطمئنان ماديا كان أو معنويا يعزز لا محالة مشروعية الدولة). بعدها أعطى للدكتور أحمد كوال، وهو كما قدمه باحث متخصص في السوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة، سبق أن أصدر كتاب بعنوان ” التحضر والتحديث والحداثة ” ، ومؤخرا كتاب ” فلسفة اسبينوزا “، سيوضح من خلال محاضرته العلاقة بين الدولة والحرية في فكر اسبينوزا. المحاضرة الأولى في موضوع : “الدولة و الحرية في فكر باروخ اسبينوزا ” بعد أن عبّر الدكتور أحمد كوال عن شعوره بالغبطة، معتبرا إياه شعورا سبينوزيا للمشاركة في الندوة، لأن للباحث قصة مع اسبينوزا لاعتباره يعيش في الحاضر ولا يعيش في الماضي، وأنه يؤمن بتحقيق السياسة للمصلحة الجماعية كفضيلة أخلاقية بالنسبة للأفراد. استهل بعد ذلك، محاضرته بالحديث عن واقعية الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، واعتبر أن فلسفته ارتبطت دائما بالواقع، فاسبينوزا لم يحاول بناء مدينة فاضلة، ثم تناول علاقة الأخلاق بالسياسة، فاستشهد بأرسطو الذي كتب كتابات ممجدا بالسياسة كركيزة وفضيلة للفرد لا تكون ذات قيمة إلا إذا انصبت في خدمة الجماعة/المدينة، لتبرير أن الأخلاق فضيلة الأفراد، وهي لا تقوم إلا إذا انصبت في مصلحة الجماعة. وأما السياسة فهي فضيلة الجماعة، وبالتالي فالأخلاق أساس السياسة، وأن هذه الأخيرة وسيلة لتحقيق مصلحة الجماعة. حسب اسبينوزا السلطة السياسية الشرعية تتأسس على الحق الطبيعي، فهو جوهر كل شيء وشرط أساسي للدولة والحرص عليه، وبالتالي المحافظة عليه ومحاولة تصحيحه بالقانون والارتقاء به إلى حق جماعي، لأنه جوهر كل شيء و شرط أساسي لبناء الدولة، على خلاف هوبز، الذي وضع جميع السلطات في يد حاكم مستبد لتوفير الأمن والاستقرار دون مراعاة لهذا الحق الطبيعي ( من المصلحة الفردية إلى المصلحة الجماعية). من هذه السياقات، انتقل الأستاذ كوال إلى مفهوم الحرية عند اسبينوزا ، في البداية أشار إلى ضرورة رفع اللبس عن أحد أشهر مؤلفات اسبينيزو “الايتيقا” إذ اعتبر أن ترجمة عنوان هذا الكتاب ب “علم الأخلاق “من طرف جلال الدين سعيد ترجمة معيبة ومجانبة للصواب، فاسبينوزا عرف عليه تصديه لمفكري الأخلاق و للفلاسفة اللاهوتيين للقرون الوسطى، الذين انشغلوا بثنائية “الخير والشر” و “الجميل و القبيح”، والتي حولها لشيء واحد، واحد ووحيد. ويضيف أن هذا الكتاب لا علاقة له بمفهوم الأخلاق لدى ” أرسطو ” و ” ايمانويل كانت “، ولا يفي بالغرض. الأخلاق تجيب على ما يجب أن أفعل اما ايتيقا اسبينوزا( انفعالات سلبية وإيجابية )، حيث يجب تغليب الفرح على الحزن مثلا..، الانفعالات السلبية يجب مقاومتها وتحويلها إلى إيجابية. وعلى الإنسان أن يغلب الفرح/ الإيجابيات على الحزن/ السلبيات.إنما اسبينوزا في كتابه”ايتيقا” درس الانفعلات لدى الإنسان، علما أن الإنسان يتميز بالانفعلات الايجابية والانفعالية السلبية. ويميل إلى تغليب الانفعالات الايجابية على السلبية، فاسبينوزا يرى بأن الإنسان يصبح حرا عندما ينسجم مع طبيعته الخاصة ولا تكون مفروضة عليه من الخارج، ولذا فالحرية عند اسبينوزا منسجمة مع قوانين الطبيعة، والطبيعة عند اسبينوزا هي الله، والله هو الحياة. كما أن ابسينوزا كان ضد ما يسمى بحرية الإرادة أو ما يطلق على تسميتها “بالمشيئة الحرة”، التي يؤمن بها الفلاسفة اللاهوتيون كما كان يؤمن بها أستاذه ديكارت، والتي تعني فيما تعنيه حسب الأستاذ كوال بأن الإنسان يستطيع فعل أي شيء دون وجود أسباب تحد من تلك الحرية. فالحرية عند ديكارت هي حرية مطلقة، لأنها مستمدة من الإله. ومادام الله حر مطلقا، فالإنسان كذلك. فكل إنسان فرد يجب ألا يستجيب للخارج بل عليه أن يستجيب لطبيعة وقوانين الطبيعة، نسق فلسفي (طبيعة الله)، ضد ما يسمى حرية الإرادة (اللاهوتيين والفلاسفة السابقين) وشيخهم ديكارت ( افعل ما تريد، فأنت حر تستمد حريتك من الله). اسبينوزا و إن كان يتفق مع أستاذه في اعتبار الإنسان حرا، و لكن يختلف معه في اعتبار الحرية مطلقة مستمدة من الله، وبالتالي فهو ضد “المشيئة الحرة”، وإنما الحرية هي تلك التي تحرر الإنسان من الانفعالات السلبية كالأهواء والتي ينتج عنها القلق و الحزن، و بالتالي فالحرية هي معركة ضد تلك الانفعالات السلبية. والعقل يحولها إلى انفعالات ايجابية، ولكن ليس من منظور أخلاقي. كما أن هذه الحرية ليست مطلقة. الحرية عند ديكارت ثلاثة أشكال (الحرية اللامبالاة: الدرجة الدنيا من الحرية، الحرية اللاعقلانية: مثلا قتل إنسان بدون سبب، الحرية العقلانية: يقين مطلق واضحة و متميزة كالحقيقة الرياضية)، اسبينوزا أنا حر حينما اتحرر من انفعالاتي السلبية ( هذه هي الحرية وعلي أن أستمر في وعيي والعقل هو الذي سيجعلنا ضد الانفعالات السيئة والرفع من الانفعالات الإيجابية) ضد الأهواء والانفعالات الحزينة ليس من منظور أخلاقي بل التقليل من السلبيات والرفع من الإيجابيات والإرادة الحرة التي بلورها ديكارت، لكنه ضد هذا الاتجاه. بعدها، تطرق إلى تطور مفهوم الحرية عند اسبينوزا انطلاقا في كتابه “رسالة اللاهوت والسياسة”الذي كتبه باسم مستعارو قد عاش ظروفا صعبة التي ذهب ضحيتها اثنين من صديقيه المعارضين للواقع المعاش آنذاك، ولنجاته هو أيضا من الاغتيال، كما كتب كتاب ” مبادئ ديكارت ” وكتاب ” رسالة السياسة ” – فيشير إلى أن حالة الطبيعة ليست بظاهرة تاريخية، وإنما فرضية فقط ، ولذا فالدولة تنشأ انطلاقا من التخلص من الانفعالات السلبية التي طبعت مرحلة الطبيعة، وذلك دون التخلص من الحق الطبيعي، لأن هذا الأخير فهو يلازم الإنسان كيفما كان وضعه إلى مماته. يقول:( على الدولة أن تتأسس على الابتعاد على الانفعالات السلبية وبالتالي الحفاظ على الحق الطبيعي الفطري والقانون التزام، الحق الطبيعي يجب أن يلازم الإنسان كيف ما كانت وضعيته وحتى مماته). على خلاف هوبس مثلا الذي نادى بضرورة التخلص من الحق الطبيعي، فيقول:( الحق الطبيعي يجب أن يزول ويحل محله الحاكم القوي، لأنه فوض له كل السلط من طبيعية، والحال لا تعنيه هو بل من فوضوه ليفرض السلم والأمان للقضاء على الرعب، وهذه ضريبة يؤديها الناس من أجل السلم والأمان، وبالتالي تفويض الحاكم كل شيء وإن كان مستبدا/الوحش…)، بمعنى أن الحاكم القوي حل محله وتم تفويض كل السلط لهذا الحاكم من طرف العامة عن طرق العقد الاجتماعي( تأسيس الدولة بعقد اجتماعي يضع الحاكم في الأعلى )، من أجل تحقيق السلم والاستقرار. لأن حالة الطبيعة بالنسبة لهوبس تتميز بالفوضى والرعب. ولذا كانت غاية الدولة لدى هوبس هو توفير الأمن والاستقرار، أما اسبينوزا فيعتبر أن وظيفة الدولة هو الحفاظ وتقوية الانفعالات الايجابية كالفرح والطمأنينة، التي تتقاسمها الجماعة والقضاء على الانفعالات السلبية التي تؤدي إلى الحقد والفوضى.. بين أفراد الجماعة، فوظيفة الدولة على نقيض هوبس، كانت هي الحرية وذلك بتأمين هذا الفرح والطمأنينة للمواطنين. والحق الطبيعي الذي يتحدث عنه اسبينوزا، لا يتناقض مع هذا. الفرق مع اسبينوزا فرق جوهري الذي يعتبر أن فعالية الدولة باعتماد الانفعالات التي يؤدي إلى الاطمئنان، فالحرية عنده معناها؛ أنني يحق لي العيش في فرح وطمأنينة، والحق الطبيعي لا يتعارض مع هذا، وأتقاسم وأشاطر مع المواطنين الانفعالات الإيجابية على السلبية التي تؤدي للقتل مثلا. وفي الأخير، عاد الأستاذ كوال لتذكير المشاركين بواقعية فكر اسبينوزا من جهة، ومن جهة ثانية فاسبينوزا لا يبني ولا يؤسس ل “يوتوبيا ” / ” المدينة الفاضلة “، وعدم تكريس زمن يوتوبيا المسيحية، بل كان يرفض الاعتراف بها، ويضيف الاستاذ كوال، إذا كانت السياسة مصالح عند ميكيافيلي؛ حيث يقول: (السياسة هي تحقيق المصلحة)، وأن الإنسان تحركه المصالح ولا يحركه الحق، فاسبينوزا يرى بأن الإنسان كائن راغب، والرغبة هي جوهر في الإنسان، والعقل هو الذي ينظم هذه الرغبة، فالإنسان كائن راغب وله رغبة عقلية، بمعنى أنا أرغب وليس أنا أفكر كديكارت، فلسفته مرتبطة بالواقع وليس بيوتوبيا. وفي هذه السياق، يضيف الأستاذ كوال، أنه إذا كان ديكارت يقول أنا أفكر، العقل يأتي أولا، أما اسبينوزا يقول أنا أرغب ثم يأتي العقل ثانيا لينظم رغباتي. ويختم الأستاذ كوال قائلا: (من هنا كتب بعض الكتاب: اسبينوزا المعاصر لنا)، لأنه مشروط بالواقع وليس بالمثاليات/ بيوتوبيا. المحاضرة الثانية في موضوع “الدولة و الحرية في فكر جون جاك روسو ” في تفاعل مع محاضرة الدكتور كوال – الذي توقف عند قضية ” الرغبة ” – نبه الدكتور الحبيب استاتي زين الدين عموم المشاركين في هذا اللقاء العلمي، أنه إذا غاب في فكر اسبينوزا “le libre arbitre” فقد حضر عنده “l'arbitre absolu ” مما يجعله يستنتج أن اسبينوزا رغم اعترافه بالحرية انطلاقا من رغبات الإنسان وتنظيمها عن طريق العقل وذلك بتقوية الانفعالات الإيجابية، فهو لم يتخلص من قبضة الطبيعة (الله أو الطبيعة)، كقوة قاهرة، أطلق عليها اسم “العلة الخارجية”، على اعتبار أن اسبينوزا وإن نجح في الدفاع عن ضرورة تخليص الإنسان من قبضة الدولة بوضوح، فالأمر لم يتحقق في علاقة الإنسان برغباته القوية. ألم يعترف في الرسالة 58 بأن ما ينطبق على الحجر ينطبق على البشر لأنه لا يستطيع التغلب على الرغبة القوية، تساءل عن وجود تناقض من عدمه بسبب شعور الباحث في كتاب اسبينوزا “رسالة اللاهوت والسياسة” أن هذا المفكر الهولندي يقر بوجود قوة قاهرة (العلة الخارجية) تتحكم في رغباته، وفي نفس الوقت يدعو إلى ضرورة ضمان الدولة لحرية الإنسان، مبينا أن علاقة الفرد مع الله/الطبيعة هي التماهي، ومع الدولة هو متعاقد ومؤسس وبالتالي عليها أن تحفظ له حقوقه/حريته. ولذا يجب أن نميز في فكر اسبينوزا بين علاقة الإنسان كمخلوق بالله علاقة خضوع، وبالتالي فعلاقته بالطبيعة هي علاقة تبعية لأنه لم يتعاقد معها. أما علاقة الفرد كمتعاقد وكصانع للدولة، فعلى الدولة أن تضمن حريته وحمايته من جبروتها وبطشها. قسم الدكتور الحبيب استاتي محاضرته “الدولة والحرية في فكر جون جاك روسو” إلى ثلاثة محاور أساسية. -المحور الأول، خصصه لتعريف الحرية في الفكر الليبرالي: اعتبر الأستاذ استاتي أن الحرية لها ارتباط شديد بالفكر الليبرالي كمنظومة فكرية وقيمية، فهذا الفكر يعتبر الحرية المنطلق والمنتهى، هي الأصل والنتيجة، ومع ذلك يصعب إعطاؤها تعريفا جامعا مانعا، ولذلك، يلزم لتعريفها ربطها بسياقات ومراحل تاريخية محددة، والتي يجب احترامها عند تعريف الليبيرالية. وفي هذا السياق، حدد الأستاذ أربع مرحل للفكر السياسي الليبرالي، وهي كالآتي: المرحلة الأولى: وأطلق عليه اسم مرحلة التكوين، ليبيرالية النهضة والتنوير، وتميزت هذه الليبرالية بإنسية الأوربية أي وجه من أوجه الإنسان الأوروبي والغربي، إذ كان يعتبر الإنسان خلال هذه الفترة كفاعل وصاحب اختيار في جميع المجالات كالفن وإلى غير ذلك، فاحتل الإنسان مكانة متميزة في هذا الفكر. المرحلة الثانية: مرحلة الاكتمال وتزامنت مع القرن الثامن عشرة، وكانت سلاح موجه ضد الإقطاع والحكم المطلق والاستبدادي، شيدت على الاقتصاد والسياسة من الناحية النظرية، تميزت بجمعها بين ديموقراطية روسو ونخبوية فولتير واستبدادية هوبس. وان اختلف فلاسفة العقد الاجتماعي كجون لوك واسبينوزا حول طبيعة الدولة وطبيعة الإنسان، فثنائية العقل والرغبة ظلت حاضرة، الرغبة كقاعدة وكقوة والعقل كمسير ومدبر لهذه الرغبة، ومن خلال هذا التفاعل، يحاول الإنسان التخلص أو على الأقل تقليص هذه الرغبات. وهذه الثنائية الرغبة والعقل، تدل على وجود حياتين، الحياة الخاصة والتي تبرز فيها الرغبات القوية والشخصية، والحياة العامة التي تحاول التخلص وتقليص هذه الرغبات وذلك بواسطة النظام والقانون وصوت الجماعة. و من هنا يبرز الأستاذ أن ما قد يفشل معه الضمير الفردي قد ينجح معه قانون الجماعة ( العقل الاجتماعي)، من هذا المنطلق، انطلق فلاسفة العقد الاجتماعي من التمييز بين طبيعتين، طبيعة الإنسان الطبيعة حيث( الرغبة والانفعالات والوعي في صراع دائم…)، وطبيعة إنسان الإنسان (المدنية والثقافة)، فإنسان الطبيعة مرتبط برغباته وانفعالاته الخاصة وإن ظل وعيها بها دائما حاضر، ومن هذه الثنائية (الطبيعة والحياة المدنية والسياسية) انطلق حميع فلاسفة العقد الاجتماعي باستثناء مونتسكيو الذي اهتم بالتجربة الواقعية على التجربة النظرية المتمثلة في العقد الاجتماعي، إذ يعتبر الوحيد الذي لم ينطلق من نظرية ” العقد الاجتماعي ” واعتبره نظري، واهتم بالواقع، بينما باقي المفكرين كانوا أقرب إلى الفكر الأرسطي، فالإنسان يمر من حالة الطبيعة حيث الانفعالات والرغبات والقوية إلى حالة الحياة المدنية والسياسية حيث تعم السعادة والخير العام خلال هذه المرحلة انطلق كذلك فلاسفة العقد الاجتماعي من القياس الأرسطي ومن الحاجة إلى الاجتماع، فالعقد هو الخير العام، مجموع المصالح/الأفراد، وهي الربح والفائدة الني يحصل عليها الفرد، حيث لم يعد يشعر بالخوف والهشاشة ودخول المجتمع حيث سيادة السعادة. مرحلة الاستقلال ليبرالية إدموند بيرك Edmund Burke (الذي انتقد الحق الطبيعي ودفع في اتجاه تغيير وتكييفه مع طبيعة المجتمع المدني) وألكسيس دو تكفيل Alexis de Tocqueville في بداية القرن التاسع عشر التي نقدت الدولة العصرية المهيمنة على الأفراد والجماعات، الدولة التي ورثتها أوربا عن الثورة الفرنسية. هل الناس يقبلون القانون ويخضعون له لأنه نابع من قيم خالدة مصدرها العقل والضمير (النور) الذي يسكن كل واحد فينا؟ وهل فعلا الإرادة الحرة هي سبب الامتثال للقانون؟ أليس القول بوجود إكراه داخلي أقرب إلى التفسير الديني (تأثير المرجعية الدينية)؟ ليست كل أفعالنا عقلانية، وفي وقائع كثيرة اتفق الناس على مخالفة القانون الطبيعي، منها إبادة الشعوب، وقتل الأبرياء في الحروب، والتشبث بعقوبة الإعدام في حالات معينة. مرحلة التقوقع أو انقلاب الأصول عند التطبيق أي ليبرالية نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن حيث تلتقي في كثير من مطالبها مع طوبى الفوضوية وتعتبر أن الشر كله في الدولة التي تنظم حياة الناس وتضيق الخناق على مبادرة الفرد. لكن لنكن صرحاء، ألم يتحول الفكر الليبرالي، اليوم، إلى أدلوجة )بتعبير العروي( تبريرية للرأسمالية؟ هل ملكية لوك وروسو المتمثلة في إشباع الحاجات الخاصة هي ملكية الاحتكار والمضاربة؟ ويستنتج الأستاذ قائلا النتيجة من هذه المراحل الأربع، الانتقال من الحقوق الطبيعية للفرد التي لم تعد مرتبطة بالفرد بل بالمجتمع، بدل الحديث عن الطبيعية أصبحت خصائص إنسانية موضوعية، التحول الحاصل من الحقوق الطبيعية إلى الحقوق الفردية، ثم ارتباط هذه الحقوق بالمجمتع بدل ارتباطها بالفرد. وبالتالي أصبحت هذه الحقوق خصائص إنسانية موضوعية، ومن هذا المنطلق يشير الأستاذ يروز توجه يدرجها في خانة الامتيازات الشكلية القانونية أو القضائية ليس إلا. وبخصوص جان جاك روسو يشير الأستاذ أنه يمثل فكر “جان جاك روسو” Jean-Jacques Rousseau قيمة مضافة للفلسفة العقدية، إذ رغم تقاطعه مع أبرز عناصر نظريات العقد الاجتماعي كما صاغها كل من طوماس هوبز وجون لوك، اكتسبت اجتهاداته طابع التميز من حيث صياغتها، وطريقة الدفاع عنها، فضلا عن الخلاصات التي وصلت إليها، فهو في منزلة بين “طوماس هوبز” و”جون لوك”. ولد بمدينة جنيف سنة 1712؛ لم يكن نبيلا من النبلاء، بل عاش طفولة قاسية. توفيت أمه وهو في ثامن أيامه، وقد تنقل بين عدة حرف وعانى من الفقر المدقع، تشرد وقبل الصدقات بل غير حتى دينه من أجل كسب منافع مادية، لكن لقاءه بالسيدة دووارنس غير جذريا مجرى حياته وجعله يتذوق لذة القراءة والمطالعة في مكتبتها حيث قرا كتاب ” الجمهورية” لأفلاطون الذي سوف يؤثر عليه بشكل كبير. كما أقام بباريس ما بين 1742 – 1750 وعمل في البندقية ككاتب لسفير فرنسا حيث سيكتشف عالم السياسة. ترك عدة مؤلفات اشتهر بها منها: ” خطاب حول العلوم والفنون” سنة 1749 و”خطاب حول الاقتصاد السياسي” سنة 1758 و”إميل أو التربية” ولكن كتابه الرئيسي يبقى بدون شك هو ” العقد الاجتماعي” سنة 1761، الذي عالج فيه الانتقال من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني والعقد الاجتماعي والإرادة العامة وأخيرا أشكال الحكم. بعد هذه السيرة المقتضبة، نبه إلى أنه سيقف عند نقطيتين اعتبرهما أساسيتين للتعريف بموقف روسو من حرية الإنسان وطبيعة علاقته بالسلطة السياسية. أولا- الانتقال من حالة الطبيعة إلى المدنية (من إنسان الطبيعة إلى إنسان الإنسان) أشار إلى أن حالة الطبيعة، عند روسو، ليست، كما جاء عند هوبز، وضعية فوضى مطلقة نتيجة النزوع الفطري إلى الشر لدى الأفراد، كما ليست منظمة بشكل كامل، كما ذهب إلى ذلك نسبيا لوك، بل هي في ”حالة براءة لم تدم طويلا بسبب توسُّع الملكية الخاصة ومسؤوليتها على انهيار المساواة الطبيعية وتفاقم شقاء الإنسان وازدياد آلامه ومعاناته، وتوسع دائرة حروبه”. لكن أضاف إلى أنه يجب أن لا يفهم من هذا أن روسو ينطلق من الفردانية والملكية الخاصة ليبرر قيام مجتمعه، بل على العكس من ذلك، فالعلاقة تبقى وطيدة بين الفرد والمجتمع، وليس هناك مجالا للحديث عن حقوق الأفراد إلا في علاقاتهم بالمجتمع ككل (المجتمع الذي تعلموا فيه لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم)، لأن الدولة هي مصدر الحقوق كلها فالملكية عنده ليست حقا فرديا وإنما حقا اجتماعيا، ولكن هذا لا يعني بالنسبة إليه إلغاء الملكية الخاصة وإقرار نظام شيوعي بل هو يقرر فقط أنه لا وجود لحقوق فردية مستقلة إلا في إطار المجتمع وليس خارجه. ثانيا- الإرادة العامة إلى جانب مفهوم ”العقد الاجتماعي”، لم تفته الإشارة إلى أن كتابات ”روسو” وظفت مقولة ”الإرادة العامة” (في كتاب الاقتصاد السياسي) التي تتحقق بانصهار إرادات الأفراد وتداخلها وتمازجها، بيد أن “الإرادة العامة” ليست تجميعا حسابيا ورياضيا لمجموع إرادات الأفراد أو توليفا لها، بل هي، على عكس ذلك، مركب نوعي، يتشكل أساسا من إرادات الأفراد لكن يختلف عنها، الأمر الذي سمح لها، حسب روسو ، أن تكون قادرة على ” توجيه قوة الدولة وفق الغاية التي تأسست من أجلها”، وفي مقدمتها تحقيق العدل وتجاوز ”اللامساواة” باعتبارها مصدر العنف والشقاء. صوت الكل لصالح الكل، ويقصد الصالح العام ومصالح الدولة التي تعلو فوق مصالح الأشخاص (المجتمع فئاته متعددة ومختلفة/ التمييز بين الإرادة العامة والإرادة الخاصة. الإرادة العامة، من وجهة نظره، مصدر مشروعية الدولة والسلطة، وأصل القانون وأساسه، إليها يقع الاحتكام عند التنازع والاختلاف، باعتبارها رافعة المصلحة العامة ومدافعة عنها، مقارنة مع الأفراد الذين يسعون إلى تحقيق أهدافهم الخاصة. تنبثق من فكرة الإرادة العامة فكرة لا تقل أهمية عنها وهي تلك المرتبطة بالسيادة التي لا تقبل الانقسام ولا يجوز التنازل عنها أو التصرف فيها، إذن ما هو مصير الذين ينتخبهم الشعب لتمثيله؟ يجيب روسو على ذلك قائلا: ”إن نواب الشعب ليسوا ولا يمكن أن يكونوا ممثليه، إنهم ليسوا إلا مفوضيه، إنهم لا يستطيعوا أن يبرموا شيئا بصفة نهائية، إن كل قانون لم يصادق عليه الشعب شخصيا فهو باطل، ولا يعتبر قانونا قط”. النواب عند روسو، هم وكلاء فقط، وحتى الحكومة ليست إلا منفذة لما يقرر الشعب ولا تعلو عليه، فهي منفذة تنوب عن صاحب السيادة الذي قد يعهد بمهمة التنفيذ لفرد أو لفئة أو للشعب كله، ومن هنا جاءت أشكال الحكومات عند روسو والتي تكون إما حكومة يسيطر فيها فرد واحد وهي الملكية أو تسيطر فيها مجموعة من الأفراد وتكون بذلك حكومة أرستقراطية، أو يحكم الشعب فيها كله أو أغلبيته وهي الحكومة الديمقراطية، وهذه الأشكال الثلاثة تبقى شرعية لكونها منبثقة من إرادة صاحب السيادة. إن روسو يميل إلى الحكومة الأرستقراطية القائمة على الانتخاب. الجدير بالذكر أن روسو يتخذ موقفا حذرا من الديمقراطية التي تتداخل فيها حسب رأيه السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية. يلفت الانتباه إلى السلوك البرلماني تفاعلا مع الفيروس التاجي كوفيد 19 وما تربب عنه من تدابير وقوانين مستعجلة: أن نضع نصا دستوريا ينص على عدم جواز تفويض التصويت، ونصل إلى لحظة نضع النص الدستوري جانبا تحت مبرر الظروف الطارئة يحتاج في تقديره مستقبلا لنقاش وطني متأن يحضر فيه صوت الحكمة والتعقل. ويختم هذه المحاضرة بفكرة أن القانون يجب أن يتمتع بالسمو، ويخض له كافة الناس دون تمييز. الحاكم خادم لا سيد، والإرادة العامة هي صانعة القانون الذي يكون العمل به احترامه أمر ملزم، لكن هذا القانون يستطرد الأستاذ ينبغي أن يكون معززا للحرية وضامنا لها وليس العكس. يرى الأستاذ إمكانية ارتباط الحرية بانزلاقات كالأخبار الزائفة إلى غير ذلك، لكن في يمكن التصدي لهذه السلوكات باللجوء إلى مقتضيات القانون الجنائي (يرى أنه كاف)، مع التنبيه على أن الحرية هي مصدر القوانين وهدف الإرادة العامة في جميع الحالات العادية أو الاستثنائية. تفاعل المحاضران مع أسئلة المشاركات والمشاركين، وانتهى اللقاء بتجديد التذكير بدور العلم لتحقيق التحرر المنشود، المتمثل في توفير الشروط المحفزة على البذل والإبداع والتميز للرقي بعمل وفكر الفرد والجماعة.