في سياق الجدل الدائر حول القوانين المكبلة لحرية التعبير و التفكير أيضا بهذا البلد أو ذلك من البلدان العربية، نحن في أمس الحاجة للنبش في التراث الفلسفي لاستعادته بغية تلمس الطريق أولا لفهم ظاهرة تكميم الأفواه و ثانيا للتحريض ضدها، و لم نجد بُد في هذا الصدد من العودة إلى الفيسلوف الهولندي باروخ اسبينوزا و بالضبط إلى كتابه الشهير أو بالأحرى رسالته “رسالة في اللاهوت و السياسة” لكن لماذا اسبينوزا؟ يقول هيجل جوابا على هذا السؤال: “إن من يرد أن يكون فيلسوفا فعليه أن يقرأ اسبينوا أولا” طبعا أنا لست فيلسفوفا و لا أريد أن أكون كذلك، أنا مجرد عاشق للحكمة/الفلسفة. و أضيف أن ظروف التضييق على حرية التفكير و التعبير لربما متشابهة مع الظروف التي عاشها اسبينوزا في القرن 17م و دفعته لكتابة رسالته، التي انطلق فيها من مسألتين رئيسيتين و هما: حرية الفرد لا تشكل خطرا على الإيمان، و أن أساس الإيمان هو العقل. حرية الفكر لا تمثل خطرا على سلطة الدولة. على اعتبار أن العقل هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة، لأن غياب العقل يعني ظهور الخرافة، عبر إرجاع ظواهر طبيعية و من بينها ما نعيش على إيقاعه “جائحة الكورونا19” إلى علل أولى أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجن و الشياطين أو حتى الأرواح الشريرة، و إن بدا أن هذه الظواهر قد خرجت عن المألوف فمرد ذلك في نظر الفكر الخرافي لمعجزات و خوارق يستطيع السحرة و العرافين و الكهنة وحدهم معرفتها لا عن طريق العلل و الأسباب المباشرة التي تستطيع أن تفسر الظواهر كما يدركها العقل بل بشكل خرافي، و يرجع اسبينوزا نشأة الخرافة إلى سيادة الأهواء و الإنفعالات على العقل، و على رأسها الخوف بحيث أن الشعور الديني يتذبذب بين الخوف و الرجاء أي بين الرهبة و الرغبة فتصبح الحوادث الحسنة فأل حسن و الحوادث السيئة تبعث على التشاؤم و التَطَيُر، إذن سيادة الخرافة و الفكر الخرافي معناه ضياع العقل. و هنا يعترف اسبينوزا بضرورة التمييز بين الإيمان و الإعتقاد من جهة، و بين التصديق و الخضوع الأعمى من جهة أخرى، لأن الإعتقاد في نظره له ما يبرره في فعل النفس و لذلك يتضمن نوعا من الحرية، أما الخضوع الأعمى فهو يعني سيادة الإنفعال و العبودية، و لذلك لا يمكن تبريره، و في تحليل نفسي سابق عن فرويد يحاول اسبينوزا أن يوضح مظاهر التدين باعتبارها ظواهر نفسية، إذ أن معظما يقول قائم على مواقف عزاء أو تعويض نفسي عندما يتم اللجوء إلى الله في حالة الحزن و الضيق،أو موقف نفاق و تغطية، عنذما يتم التستر به عن الغنى في التفاوت في الأرزاق، و بالقضاء و القدر، كما يُتَسَتَرُ بالدين على الإشباع الجنسي كما يفعل الشيخ المتصابي، أو من أجل تحقيق مصلحة شخصية ( النجاح الدراسي أو النجاح في الأعمال و قضاء الحاجات…). و يخلص اسبينوزا إلى أن أنظمة الحكم الإستبدادي تستغل الدين للسيطرة على الناس و إبقائهم تحت سيطرة السلطة، و هو ما يبرر إكثار الديكتاتور من مظاهر العظمة في بناء المعابد و الإضرحة و إقامة الإحتفالات الطقوسية بها و تجميل الدين بها، لذلك كانت الخرافة أفضل وسيلة لتسيير العامة من الناس، و وضع القيود على الفكر و العقيدة، هنا يعتبر اسبينوزا أن حرية الرأي ضرورية للإيمان الصحيح. كما أن اللاهوت ليس نظرية في الله فقط في نظر اسبينوزا بل ينشأ عنه نظام إجتماعي لذلك يعتبر حسن حنفي أن رسالة اسبينوزا ليست دراسة في الصلة بين اللاهوت و السياسة بقدر ما هي دراسة للصلة ما بين السلطات اللاهوتية و السلطات السياسية، و هو أيضا يدرس الوحي في التاريخ، أي عندما تتحقق النبوة في فترة معينة و عند شعب معين باعتبارها حدث يأتي للتغلب على الطبيعة السائدة/الفاسدة في الشعب فيحدث أن يتم التغلب عليها، لكن ما أن تلبث أن تعود الطبيعة السائدة/الفاسدة بالتغلب على الوحي، مثلا جاء الوحي للشعب اليهودي حتى يتغلب على طبيعته الحسية المادية، و على تكوينه الوثني، لكنه انتهى إلى أن سادته الوثنية و تغلبت عليه الطبيعة الحسية، ثم جاء الوحي المسيحي داعيا للسلام من أجل التغلب على الطبيعة الحربية الرومانية، و داعيا للطهارة الروحية، من أجل التغلب على المادية الحسية اليهودية و الرومانية، و لكنه انتهى إلى سيادة التعصب و الحروب، و يمكن القول أيضا أن الوحي الإسلامي جاء للتخلص أيضا من نفس العلل و حتى تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تآمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، فإذا بها تنتهي مستعمرة و مسلوبة الثروات من الداخل و الخارج مريضة فقيرة تعيش التطاحن و الصراعات فيما بينها، و بالتالي انتهت إلى عكس ما قصد إليه الوحي. و الإمعان في ممارسة الحجر و الوصاية على العقل و التفكير أحد مظاهر هذا الإنحطاط، لذا يعتبر اسبينوزا حقيقة أن حرية التفكير لا تشكل خطرا على الدولة و يعبر عن ذلك بالقول: “لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسن لما وجدت أي حكومة نفسها في خطر” و من هنا يوضح أهمية حرية التفكير، بحيث مهما كان للسلطة من حق على شعب فإنها لا تستطيع أن تمنعه حقه في إصدار حكمه أو في أن يشعر بما يريد. صحيح أن السلطة تعتبر كل من لا يعتنق وجهة نظرها عدوا لها، لكن مع ذلك اللجوء إلى أسلوب القهر يقول اسبينوزا يعد خطرا على الدولة نفسها، و هنا يقترح أن لا تتدخل السلطات في الحريات الفردية التي بمجرد سمعاها ترتعش فرائص المتشددين في الدين، و إلا تعرض أمن الدولة يقول اسبينوزا للخطر، لأن الفرد هو الضامن لحريته، بينما تنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية و تنتصر لبعض العقائد و تعادي البعض الآخر، و لن تتوقف الفتن إلا إذا وضعت الدولة الأفعال وحدها دون الأقوال تحت سيطرة القانون، حتى يتمكن كل مواطن أن يعبد الله كما يشاء، و أن يتصوره كما يريد، و ليس من حقها التدخل في حرية التفكير أو الرقابة عليه، لتسمح لكل إنسان بفهم الوحي و تأويله كما يشاء لأن التسلط و الإنحياز لرأي دون آخر سيؤدي إلى ضياع الإيمان و انتشار النفاق الديني، حرية الرأي إذن يجب أن تكون مكفولة للمواطنين جميعا و حتى التعبير عنه، و يضيف اسبينوزا يجب أن تكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية و ليست القاضية عليها، حتى لا تنتشر الخرافة و يسمح للفلاسفة و المفكرين و المبدعين التعبير عما بأذهانهم لأن إلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، بينما إيمان المتدينين القائم على الأوهام و الخرافات وثنية حسية أي إلحاد صحيح كما قال اسبينوزا، و يبقى شرط الإنتقال نحو العقلانية هو القضاء على السلوك الإنفعالي. و كل حجر و أنتم أحرار في الفكر و التعبير