افتتاح المنتدى الدولي "الترابط الماء-الطاقة-الأمن الغذائي-الأنظمة البيئية" بمدينة طنجة    السياحة المغربية.. ارتفاع قياسي بنسبة 27% في عدد السياح خلال يناير    الحكم على الغنوشي ب 22 سنة.. وعشرات السنوات من السجن النافذ ضد سياسيين وصحافيين    التاريخ والذاكرة.. عنف التحول ومخاضات التشكل    جبهة الإنقاذ في سوريا تطالب الشرع بقطع العلاقات مع جبهة البوليسايو    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون الإضراب    نقابات بالناظور تستجيب للإضراب الوطني احتجاجا على حكومة أخنوش    معرض "أليوتيس" يروج للابتكار في قطاع الصيد ويعزز الشراكات الدولية    مؤشر "مازي" يسجل تراجعا في تداولات بورصة الدار البيضاء    الراشيدي: الثقة في المؤسسات تتراجع.. ونصف المغاربة يريدون مكافحة الفساد    الكاف يكشف موعد ومكان قرعة ربع نهائي العصبة وكأس الكونفدرالية    تهريب المخدرات يطيح بثلاثة أشخاص    الإضراب يشل النقل الحضري بوجدة    ستيني يُنهي حياته داخل منزله في مرتيل    اختفاء طفلين في طريقهما إلى سبتة من مدينة العرائش والمصالح الأمنية تواصل البحث    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يرحب باعتماد اللجنة العربية لحقوق الإنسان لتوصيات تقدم بها المغرب    وفاة المغنية الشعبية غيثة الغرابي    غياب اللقاح بمركز باستور بطنجة يُثير استياء المعتمرين    السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن وفلسطين تجدد رفضها تهجير سكان غزة في "رسالة مشتركة" لوزير الخارجية الأمريكي    مجلس النواب يصادق بالإجماع على مشروع قانون متعلق بالتنظيم القضائي    مسؤول نقابي بتطوان: سنبقى في الشارع حتى يسقط هذا قانون الإضراب المشؤوم    بلال الخنوس يتوج كأفضل موهبة لعام 2024    إطلاق نار في محيط محطة ميترو ببروكسيل    منتخب لبؤات الأطلس أمام مواجهات ودية    مجموعة إسبانية تعتزم افتتاح منتجع فاخر في طنجة    المعقول .. من اللامعقول السياسي عند تبون من خلال حواره! -2-    أخنوش يستعرض المؤشرات الاقتصادية والمالية للمغرب ويؤكد مواصلة الإصلاحات    جامعة عبد المالك السعدي تعزز البحث العلمي في مجال القنب الهندي باتفاقية جديدة مع الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المرتبطة بالنبتة    انحراف حافلة يخلف قتيلة ومصابين    انتقادات لعدم تنفيذ الحكم ضد المتهمين في قضية "كازينو السعدي" رغم صدور قرار النقض    منصة "واتساب" تعلن عن تحديث جديد لتشات جي بي تي داخل تطبيقها    رونالدو بعد بلوغ سن الأربعين: أنا أعظم لاعب في التاريخ    أجراس الحداثة البعدية في مواجهة منابر الحداثة    تأجيل أم إلغاء حفل حجيب بطنجة؟ والشركة المنظمة تواجه اتهامات بالنصب    كعكتي المفضلة .. فيلم يثير غضب نظام المرشد في إيران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ماذا يعرف الأطباء عن أعراض وعلاج الاحتراق النفسي؟    أولمبيك آسفي يتمسك بمدربه أمين الكرمة بعد فترة توتر    بلقاسمي: ملعب الرباط سيدخل كتاب " غينيس"    ميلان يعلن تعاقده مع جواو فيلكس على سبيل الإعارة    تنقيط لا يليق بالحارس الرجاوي أنس الزنيتي في مباراته الأولى مع الوصل    أسعار الذهب ترتفع إلى مستوى تاريخي جديد    الرباط.. العرض ما قبل الأول لفيلم "الوصايا" لسناء عكرود    سياسات ترامب الحمائية هل ستؤدي إلى حرب تجارية جديدة؟    الولايات المتحدة.. مجلس الشيوخ يؤكد تعيين بام بوندي في منصب وزيرة العدل    بلغ عددهم 67.. فرق الإنقاذ تعثر على جثث جميع ضحايا تحطم طائرة واشنطن    الحكومة حريصة على توفير المواد الاستهلاكية بوفرة خلال شهر رمضان المبارك    ترامب يوقع على أمر تنفيذي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان    خبراء يؤكدون أن جرعة واحدة من لقاح "بوحمرون" لا تكفي للحماية    الصحة العالمية : إطلاق أول تجربة لقاح ضد إيبولا في أوغندا    جولييت بينوش تترأس لجنة التحكيم في "مهرجان كان"    التقلبات الجوية الحادة تؤثر على الصحة العقلية للمراهقين    الرباط: تنصيب الأعضاء السبعة الجدد بأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسبينوزا والدولة المدنية
نشر في هسبريس يوم 16 - 12 - 2015

لا داعي للقول إن أنظمة الحكم منذ التجمعات البشرية الأولى إلى الآن قدمت نموذجا راقيا و إيجابيا في أسس الحكم, أو قامت بالحد من النزعات الفردية و الأنانية و وسائل استخدام العنف و تهذيب الغريزة, و متعت الإنسان بجميع حقوقه الطبيعية و المدنية, و اعترفت بالكرامة و بالحق المتساو في الحرية و العدل, و تحقيق الغايات التي يرنو إليها عامة البشر في الاعتقاد و حرية الرأي, و حاربت كل أشكال الاستبداد و الظلم, فمملكة البشر يمكن القول أنها مملكة حرب و صراع و اقتتال أكثر من كونها مملكة سلم و أمان و طمأنينة, مملكة تعصب و إقصاء أكثر مما هي محطات تسامح و اعتراف بالأخر ألم يقل "نيتشه" يوما أن الحضارة لا يمكن أن تنسى رائحة الدم و التعذيب و حتى في الواجب الأخلاقي الكانطي نجد أثرا للقسوة.
ليس الغرض هنا تقديم عرض كرونولوجي لتاريخ الفكر السياسي و استقراء مراحله, سنركز على حقبة هامة من التاريخ البشري تقديرا منا على أن هذه المرحلة شهدت سيلا هائلا من التنظيرات العقلانية و الواقعية, و بعثا جديدا للعقل و مهدت لفصل الدين عن السياسة بدء بكتابات ماكيافيلي الذي مهد لنظام الحكم الواقعي عملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة, و حتى تفسيرات ابن خلدون لنظام الدولة اعتبرت ثمرة مجهود لربط السياسي بالواقعي رغم أن الهدف منها لم يكن فصل الدين عن الدولة, إلا أنه قدم تحليلا عميقا و مفصلا لنظام الدولة منذ النشأة حتى مرحلة الانهيار و الأفول, و بشهادة الغربيين اعتبرت كتاباته أول تقديم لاديني للتاريخ, كونها قامت على منهج يرى أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط بعضها ببعض, و كلها تندرج ضمن إطار ما أسماه بالعمران البشري سواء كانت سياسية, جغرافية, اقتصادية, ثقافية, أو اجتماعية, أما الدعامة الأساسية للحكم حسب ابن خلدون تكمن في العصبية (مفهوم خلدوني) التي ترتبط بالعديد من المؤثرات الأخرى التي تأثر في نظام الحكم كالنسب, البداوة, التحضر, القبلية, الصراع الطبقي و حتى المناخ ...يكفي أن نقول هنا أن مجمل التحليلات التي قدمها ابن خلدون تشابهت في جوانب عديدة منها بكتابات مونتيسكيو في عصر الأنوار.
إلا أن التجلي الواضح لنظام الحكم المدني أو الدولة المدنية بمفهومه الحقيقي ظهر مع كتابات فلاسفة العقد الاجتماعي رغم اختلافهم في تعريف الحرية الفردية و حدودها داخل الدولة بين هوبز و اسبينوزا و لوك و روسو و غيرهم, و هو اختلاف مرده للنسق الفكري لكل منظر و كذا الظرفية السياسية و الدينية لكل فترة, فتصور اسبينوزا لأساس الحكم المدني كاد يودي بحياته لكونه تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة. فكيف يمكن فهم الأساس الذي عرضه اسبينوزا في مؤلفه"رسالة في اللاهوت و السياسة"؟
لفهم أساس الحكم الذي نظر إليه اسبينوزا ينبغي الرجوع إلى النسق العقلاني الفلسفي الذي اشتغل في إطاره و من خلاله قام بتوضيح حدود العقل و الإيمان و وضائف كل منهما, يرى اسبينوزا أن العقل و الإيمان منفصلين تماما و لكل واحد منهما وظيفة تجعله يختلف عن الثاني, و العقل من هذا المنطلق ليس خادما للاهوت كما اعتقد الفلاسفة المدرسيين و فلاسفة الإسلام اللذين حاولوا اجتراح حجج عقلية لإثبات وجود الله و خلق العالم و خلود النفس, و لأن مجال الإيمان يختلف عن مجال التفلسف فإن هذا الأخير لا يشكل خطرا على الأول, و المؤمن الحقيقي حسب اسبينوزا هو الذي يدعو الناس إلى العدل و الإحسان كعقائد ثابتة , و ليس من الضرورة البرهنة عليها بالحجج العقلية, فوظيفة العقل هي اكتشاف القوانين المتحكمة في الطبيعة. لكن إذا كان العقل ينفصل عن الإيمان و التقوى, فكيف ينبغي للإنسان أن يسلك داخل الدولة؟ بمعنى هل الدولة قائمة على قوانين العقل أم أخلاق الإيمان و التقوى؟
هنا يرى اسبينوزا أن قوانين الطبيعة لا تخضع لقوانين العقل وحدها بل تشمل مالا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها, و هذا التعدد في القوانين هو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن القانون الأنسب, و لا يمكن أن يوجد هذا القانون إلا في اتباع قوانين العقل و ليس الشهوة العمياء, فالعقل هو الضامن الوحيد للحفاظ على الحياة و العيش في أمن و استقرار, لهذا كان لزاما على الإنسان الانخراط في نظام موحد, و بهذا أصبح الحق الذي كان لكل فرد بموجب الطبيعة ينتمي إلى الجماعة, و لم تعد تتحكم فيه القوة و الشهوة, بل قوة الجماعة و تحاد إرادات الأفراد, و إذا كانت قوانين العقل هي المتحكمة في الطبيعة فلا مجال للعودة إلى التفسيرات الخرافية, لأن الدولة الديمقراطية هي دولة عقلانية هدفها الأول إشاعة حرية التفكير و ليس التخويف و القهر و الاستبداد و هذه أبرز أسس الدولة المدنية التي تعترف بإنسانية الإنسان," ...تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها و متعصبة لحقوقهم عندما تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه رفضه على أنه باطل, و أن تفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله, ذلك لأن هذه الأمور تعد حقا خالصا بكل فرد, و لا يمكن لأحد - إن شاء- أن يسلبه إياه, و أنا أعترف بأن هناك أناسا كثيرين لا يخضعون حقا خضوعا مباشرا لسلطة فرد اخر, و لكن ذهنهم يحتشد بقدر من الأفكار المسبقة العجيبة ينساقون وراء أفكار هذا الاخر, إلى حد نستطيع معه أن نصنفهم بأنهم تابعون له في فكره ..."(1),"...فإذا كان موسى نفسه لم يسلم مع ذلك من الشبهات و التأويلات المعارضة له, فكيف يسلم الملوك أنفسهم من ذلك, فإذا كان من الممكن تصور عبودية الأذهان في النظام الملكي فإن هذا الاحتمال مستبعد تماما في نظام الحكم الديمقراطي, حيث يشارك الشعب كله أو معظمه في السلطة الجماعية ..."(2)
بهذا يمكن اعتبار موقف باروخ اسبينوزا من المواقف الداعمة لنظام الحكم المدني الديمقراطي القائم على مبادئ إنسانية محضة كالحرية و العدل, باعتبار السلطة السياسية تكون أشد عنفا إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير و الدعوة لما يفكر فيه, و معتدلة إذا سلمت له بهذه الحرية, فالغاية من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس و ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات و الات صماء, بل إتاحة الفرصة لأبدانهم لكي تقوم بوظائفها دون إشهار لأسلحة الحقد و الكراهية, و ذهب اسبينوزا إلى أبعد من هذا حين اعتبر حرية الفكر و الحكم فضيلة من الفضائل, بدونها لما استطاع الإنسان الكشف عن أسرار الطبيعة و تطور العلوم و الفنون, "إن العلوم و الفنون لا تتقدم تقدما ملموسا إلا على أيدي أناس تخلصوا تماما من المخاوف و أصبحت لهم حرية الحكم". (3)
غير أن موقف اسبينوزا بالرغم من كونه كان بمثابة رسالة واضحة لرجال الدين المحاطين بالحصانة الإلهية, فلم يصل إلى الجرأة التي ميزت كتابات جون لوك, على اعتبار أن اسبينوزا سلك في الأخير مسلك المهادنة مع رجال الدين و ختم رسالته بكونه قادر على التنازل عن مواقفه "و هكذا انتهيت من معالجة جميع المسائل التي اعتزمت بحثها عندما شرعت في الكتابة. و لم يبق لي إلا أن أعلن صراحة أنني أقدم عن طيب خاطر كل ما كتبت للسلطات العليا لوطني لكي تفحصه و تحكم عليه. فإن بدت لها إحدى قضاياي معارضة لقوانين البلاد أو الضارة بالمصلحة العامة, فإني أتراجع عنها. ذلك لأني أدرك أنني بشر و إن من الممكن أن أكون قد أخطأت. و لكني على الأقل حاولت بقدر طاقتي ألا أقع في الخطأ, حرصت بوجه خاص على ألا أكتب شيئا يتعارض مع قوانين بلدي أو يتنافى مع الحرية و الأخلاق الحميدة".(4).
الهوامش:
(1)رسالة في اللاهوت و السياسة, ترجمة و تقديم حسن حنفي, دار التنوير للطباعة و النشر بيروت الطبعة الأولى 2005.ص 436
(2)نفس المرجع ص 435
(3)نفسه ص440
(4)نفسه ص 444
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.