عندما قال جون جاك روسو بصريح العبارة "إن القوة لا تخلق الحق " كان صائبا في تصويب السهام نحو السياسة والحق الطبيعي المطلق في الهيمنة لإعادة النظر في معايير البناء للمجتمع والدولة. وضد سياسة الاستحواذ والسيطرة على أملاك الغير والاندفاع البدني ونقد من يقول أن القوة تنشئ الحق وتحميه في حق الأقوياء على الضعفاء وفي إرغام الكيانات الصغرى في الامتثال للإمبراطوريات الكبرى في المراحل السابقة قبل التفكير في الصيغ الجديدة للمجتمع التعاقدي والدولة الحديثة كما تبلورت في الغرب خلال القرن السابع عشر الميلادي .ما يؤسس الحق المشروعية القانونية والفكرية والأخلاقية والعواطف الإنسانية النبيلة للعبور نحو حالة التمدن والسلم الاجتماعي. مكاسب الحياة المدنية لا تحصى في الانتقال الكيفي ومنها إحلال السلم بدل الحرب والعدل محل الجور والحكمة محل الاندفاع وقوة الحق بدل حق القوة.في عالم الاندفاع وهيمنة الأقوى بالقوة الجسمانية والتحايل لا سبيل في العيش المشترك إلا بطرح القوة المادية والنزوع نحو القوة القانونية في بناء صرح مجتمع مدني ودولة حديثة باليات ديمقراطية ومؤسسات بوظائف مختلفة في سد النقص وضمان الحق . وتحرير الإنسان من الاستبداد والظلم . وتلبية الحاجات وتأهيل الناس وتكريس النزعة الحقوقية والحرية الفردية والجماعية والالتزام بالقوانين الوضعية . فالحق الطبيعي مجموع القواعد التي تفرضها الطبيعة على الإنسان في الفعل والسلوك .الحرية الطبيعية الممنوحة لكل إنسان في الدفاع عن نفسه بكل الوسائل في حفظ البقاء وصد الأخطار . والحق الطبيعي محدد بصيغتين الشهوة والرغبة. فليس الناس على درجة واحدة من الأخلاق والسلوك المستقيم .بوادر الصراعات وفق روسو نابعة من الملكية الخاصة والأصل في التفاوت يعود إلى غياب المساواة في الحقوق والواجبات واندفاع الناس نحو القوة . وظهور القلاقل والنزاعات في لهفة الإنسان ونوازعه نحو الشر والسيطرة . فالإنسان بتعبير توماس هوبس بطبعه ميالا للشر وارتكاب أفعال منافية للعقل والأخلاق . ولا يردع الإنسان إلا بالقوانين وسلطة الحاكم المستمدة من اتفاق الناس وتواضعهم من خلال صياغة بنود العقد الاجتماعي . الإنسان ذئب لأخيه الإنسان لا يؤمن جانبه. من الكبرياء والغدر والسيطرة بمبررات واهية. حيث يتولد في الجماعة نوع من الحذر والنفور والتنافس ويبقى صوت القتل والانتقام من خصائص ما تحمله حالة الطبيعة في اندفاع الناس نحو الحرب وتصفية الحسابات وفق ما يمليه الحق الطبيعي المطلق بدون قوانين زجرية في المعاقبة والمحاسبة . الحرب الشاملة التي جاءت نتيجة غياب الأمن وسيادة القوة وعدم تحكيم العقل وبالتالي فالمجتمع في حاجة لبدائل في القوانين والحكم .هنا يكتشف الفلاسفة في العقد الاجتماعي صيغة توافقية عندما يمتثل الكل بطواعية للبنود والمواد التي يتضمنها العقد في كامل الحقوق والحريات .في العقد التزام وإلزام بما يحمله من معالم في السلطة وتحكيم القوانين وتحقيق العدالة الاجتماعية في الشعور بالانتماء والمواطنة . قوانين العقد وبنوده منصفة لأنها صادرة من الإرادة الكلية. ولا يفقد الإنسان من حقوقه إلا التنازل عن منطق القوة والعنف والدخول في السلم والسلام . فالبديل يوجد في الدولة القوية حسب توماس هوبس. "اللوفيتان" التنين القوي والوحش المهيمن على الحياة . في قوة الحاكم الذي يستند على سلطة أقوى مستمدة من الحكم المطلق . ومن الاتفاق المبرم بين الناس في منحه الصلاحيات المطلقة وتفويضه الأمر لاستتباب الأمن ووضع حد للحرب الشاملة ومنطق القوة . وفي ملامح فلسفته هناك صيغة توفيقية للجمع بين الحق الطبيعي والحق المدني والثبات على قيمة الحرية التي لا تتعارض والقوانين الوضعية . في نوازع الناس وميلهم نحو الشر والصراع فكرة صريحة للتعبير عن الطبيعة الإنسانية وتفنيد فكرة أن الإنسان مدني بطبعه وان العلاقة بين السياسة والأخلاق يعاد النظر فيها من خلال رؤية هوبس الجديدة عن حاجة الناس إلى حاكم قوي للعيش في السلم والأمن وحاجة الناس للعقد الاجتماعي في وضع الاجراءات الأمنية وتدبير شؤونهم السياسية والاجتماعية .ففي الصلاحيات المطلقة والواسعة حقيقة لا تتناسب ومضامين العقد الاجتماعي في رؤى الفيلسوف جون لوك . من حق الشعب أن ينتخب حاكما مدنيا بصلاحيات معينة مقيد بأدبيات السلطة التشريعية وهي أعلى سلطة . من البديهي أن تكون حالة التمدن في غاية الوضوح من ممارسة السياسة والسلطة بقيود القوانين المدنية المبنية على الإرادة الكلية وسلطة الأغلبية . فالعقد المصاغ بين الحاكم والشعب ينص على ضرورة تحديد مهام الحاكم المنتخب من ممارسة سلطة مدنية مقيدة بصلاحيات لا يمكن تجاوزها وهي تلك الأشياء التي كرست القواعد الجديدة للديمقراطية الحديثة وفي ميلاد المجتمع المدني .لا سلطة تعلو فوق سلطة الشعب . ومشروعية الحكم المدني . الحق الطبيعي فطري وغريزي في الإنسان . لذلك بدأ روسو في مقدمة كتاب " في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي " من فكرة جوهرية لازالت تسري في بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مفادها أن الإنسان خلق حرا فلماذا يستعبد ؟ كان الإنسان قبل القوانين المدنية يعيش على طبيعته وفطرته . حالة الطبيعة تلك اللحظة السعيدة التي يتمنى روسو العودة إليها في ظل فساد القوانين المدنية وجموح الإنسان نحو العنف والقوة . في الأمر ما يجعل الإنسان ينفر من المدنية التي كان روسو يعتقد أننا في واقعها يمكن أن ينعم الإنسان بالسعادة إلا أن الصراعات التي تولدت من نزوع الناس وجشع بعضهم في القوة والسيطرة على أملاك الغير وبالتالي هيمنة الأقوى وتكريس اللامساواة هي العوامل التي سرعت في الانتقال إلى حالة التمدن والحضارة . مكاسب يجنيها الإنسان من عملية الانتقال النوعي عندما تختفي الهمجية والتوحش ويسود العدل بدل الجور والحق المدني بدل حق القوة والاندفاع. وبذلك يتجلى السمو الفكري والروحي والوجداني ويختفي التحايل والمكر وتسود الدولة بقوانين مدنية. فالعقد الاجتماعي حسب روسو مجرد اعتراف مطلق وليس تنازلا نهائيا عن الحقوق الطبيعية .ولا يخول للحاكم أن يمتلك كل السلطة التامة والمطلقة من منطلق أن بنود الدولة المدنية الحديثة يتناقض والحكم المطلق . فمن قوة العنف وحالة الطبيعة والحرب الأهلية يخشى الناس العودة للصراعات وحرب الكل ضد الكل في غياب الضوابط القانونية والأخلاقية .في استحسان المجتمع البديل القائم على المشروعية السياسية والقانونية أفضل بكثير من الانجرار وراء القوة المادية وانعدام القوانين .في الحكم المدني هناك نزوع نحو تقسيم السلط ومنح الحاكم المدني اختصاصات معينة مقيدة في الالتزام بالسلطة التشريعية وتنفيذ مقتضيات القوانين . فالعقد الاجتماعي يكون بين الأفراد أنفسهم في إقامة السلطة وتخويلها إلى حاكم يعمل في الحفاظ على الأمن وتطبيق القوانين . والعقد اتفاق بين الأفراد والحاكم حسب هوبس .وفي منطق روسو العقد يكون بين الأفراد أنفسهم في تنازلهم عن الحق الطبيعي المطلق والنزعة الأنانية . ومن وجهة ثانية العقد يعتبر الفرد جزء من جماعة ينبغي أن تكون موحدة في هيئات مدنية وسياسية مبنية على الإرادة العامة في تدبير أمورهم وطرح القوة .وهي السلطة العليا في القرار وإرغام الناس طواعية في الالتزام ببنود العقد … كانت لحظة التفكير في بناء الدولة الحديثة والمجتمع المدني من أقوى اللحظات التي عرفها الفكر السياسي والاجتماعي في الغرب الحديث .من تنافر الأهواء وتباين المصالح تشكلت الرؤى في واقع شهد صراعات سياسية وحروب أهلية . وظلت النتائج قاسية في العيش المشترك .أما نوازع الإنسان نحو الشر في غياب قوة مادية وهيئة فاعلة ترغم الناس بإرادتهم وقوة القوانين والردع نحو الامتثال للمؤسسات وضمان كامل الحقوق الطبيعية والمدنية فلا تؤسس للمجتمع المدني السليم . الإنسان في حالة الطبيعة لم يكن وحشا وطاغية بل كان مسالما وطيبا يعيش على الفطرة وعلى قوانين الطبيعة ويقتات من الأشجار ويعيش على الصيد والتنقل ويأكل من خيرات الطبيعة دون صراعات .وبازدياد المتاعب والصعوبات بزيادة عدد السكان وهيمنة البعض على الخيرات عن طريق القوة والتحايل أصبحت الحاجة ملحة لإقامة مجتمع بديل والانتقال إلى حالة التمدن رغم ما في حالة الطبيعة من مزايا . من العقد الاجتماعي والحق الطبيعي إلى القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية تشكلت الرؤى في صيانة الإنسان ووضع النهاية للقوة وإلزام الدول في تطبيقها . ومن هنا يمكن القول أن المواثيق قابلة للتبديل والتعديل من خلال السياقات الاجتماعية وخصوصية البلدان . وتعديل العقود والمواثيق في إطار البحث عن حلول عملية للتوافق وكل ما يرضي الأطراف ويصون الحقوق ويعزز الواجبات . من الأمثلة الآنية واقعنا التعليمي الذي يشهد احتجاجات على قانون التعاقد . العقد الذي لم يعترض عليه الطرف الآخر من البداية واصب حالان في خطاب الأستاذ المتعاقد مفروضا بالقسر والإكراه .في الخطاب الرسمي العقد والتعليم التعاقدي من خيارات الدولة لأجل نقل الصلاحيات من المركز نحو الإطراف. ونهج سياسة القرب وما يعرف باللامركزية وعدم التمركز . في العقد مرامي وأهداف لا يستسيغها الطرف الآخر . فهو مجرد خطاب مكتوب بلغة الإملاء والإلزام . ولا يتضمن العقد ما يتعلق بالحقوق الثابتة للمدرس .من عدم التكافؤ وغياب الترسيم والتوجس الدائم من عدم تجديد العقدة أو الطرد من العمل بدون إخطار وأسباب أخرى .لا يمكن أن يكون العقد منصفا وعادلا حتى في ظل التنازل والتوقيع على مضامينه . نهاية القوة والاندفاع يعيدنا للتأمل في مرامي العقود وأهدافها البعيدة المدى. قوة المجتمع المدني في مختلف الفعاليات والهيئات المدافعة عن الحق والحريات حالة سوية للمجتمع الدينامي الذي يتغير باستمرار ويعيش مخاض الانتقال الديمقراطي وحالة للمجتمع المطالبة بالإنصاف والعدالة الاجتماعية . لا تبنى القوانين إلا وفق منطق الحق والمنفعة المتبادلة. لا حاجة للقوة المفرطة التي لا تؤدي في بناء الثقة والتسريع بالحوار وحلحلة المشاكل بكل ما يرضي الأطراف .وما يعزز المصلحة العامة للبلد. خيار العنف المشروع للدولة تبرره دوافع الحفاظ على سلامة الناس في ممتلكاتهم وسلامة المؤسسات. وفي غياب مسببات القوة رسم الأستاذ المتعاقد صورة وردية وحضارية عن سلمية الاحتجاج وعدالة المطالب حيث تساءل الناس في الداخل والخارج عن الأسباب والدوافع وراء خروجهم للشارع . فدونت أقلام في الأمر مقالات ودراسات وتدوينات .ونقلت صور عديدة عن القوة في تدخلات أمنية . وتعالت أصوات النقد والآراء المتباينة في تحليل المشاهد من مواقع الاعتصام .لا تنازل عن القرار القاضي بالترسيم . ولا بديل عن التعاقد كخيار استراتيجي .وعدم الالتحاق بالأقسام يعرض الأستاذ للطرد باعتباره متغيبا من وجهة الوزارة المعنية بالشأن التربوي. لسنا في "حالة الطبيعة" وصراع الكل ضد الكل . نحن في عالم تدبير الأزمات بالحوار والتنازل . البديل في إعادة تصويب القوانين والعقود في تكريس الوحدة والإنصاف خصوصا إذا كانت القوانين غير منصفة . تدبير الأزمات ومعالجة الملفات العالقة من اختصاص أصاحب القرار. وللمغرب في هذا الشأن تجارب كثيرة في حسن الإنصات والاستماع.لا بد من إزالة الضرر والنظر للمصلحة العامة . وخلاصة القول أن العقد الاجتماعي المبني على الاتفاق والمنافع المشتركة ينهي الاحتقان والاحتجاج. ويعيد النظر في صيانة حق الإنسان في الكرامة بشروط معقولة ويرضي كل الأطراف لأجل سلامة المدرسة العمومية الرابح الأكبر. والعودة للفكر التعاقدي في القرن السابع عشر يعتبر بمثابة استلهام الفكرة في الوقوف على مضامين العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع .للعبور نحو بناء المجتمع الديمقراطي . وأمل المغاربة في تحقيق دولة الحق والقانون .