لا يمكن نسيان جامع مولاي التهامي قرب بيت الجنائز بالجامع السعيد ، بهالة مكانه و رونق نقوشه و رحابة صحنه و صرامة صاحبه الفقيه الزكاري ، الذي كان يرتدي جبة -الكاباردين- الزرقاء ، يعتمر دوما قبها ، تحدها على جبينه طاقية بيضاء تتممه لحية كثة هلالية ، تزين وجهه الأبيض المشوب بحمرة على وجنتيه ، تزيده قدرا و هيبة . هذا الفقيه عندما كان يلج بوابة صحن الجامع تسبقه همهمته بالحوقلة إيذانا بوصوله ، تليها جملة كانت لازمة له – ارفد حمل- فيسود صمت مطبق ، فتوجه نظرات المحضرة و الحفظة – المخنشين- و الطلبة الذين هم على وشك إتمام السلكة و من يستعد للاستظهار لمحو اللوح و الكتابة من جديد . يتوجه الفقيه الى مصطبته التي تعلو بحوالي خمسين سنتيمترا ، تتبع حركاته المتئدة هامات الحضور ، هذا المجلس الكبير المفروش بهيادر ناصعة البياض ، و المبرقعة بالسواد ، على جنباتها وضعت ثلاث مخدات ، و بضعة ألواح و جرة ماء طينية مزينة بمادة اللاطوخ ، بجانبها قدح من جنسها ، و على مقربة من مد يده اليمنى رف عليه دواتان و كيس صمغ و أقلام قصبية مختلفة الأحجام و الحدة و في عمق الحائط الخلفي صورة سليمان ذهب بريقها و كلحت ألوانها ، يصطف على جانبيه الجن بأقدام الدواب و القرون يعلو الصورة حرز كبير للوقاية من العين و التابعة لإشهار الرقية الشرعية . كانت المصطبة في مكان استراتيجي هام ، يرقب منه كل أرجاء المسيد ، و على جنبه الأيمن مدت ثلاث عصي مختلفة الأطوال واحدة قصيرة للفلقة يهش بها على طلبته و يؤدب بها عن بعد المشاغبين أو النوم المتهاونين في الحفظ . يبدأ الفقيه في توزيع الأدوار بين الطلبة ، منهم من تكلف بمراقبة الحفظة الكبار ، و منهم من يقوم بتلقين قصار السور للصغار ، و منهم من يقوم بتحنيش ألواح المبتدئين و الأخير يهتم بأغراض الفقيه و قضاء مآربه ، ويبدأ هو في تصحيح ما كتبه المحضرة – السلكة- و الإملاء على حافظي السور الجديدة (الفتية) فيسود أزيز يملأ أرجاء الجامع تتخلله جملة (زيد آسي ) طلبا لتكملة آية او تصحيح خطأ قرائي أو ترتيلي و الكل منهمك في الحفظ ، أجسامهم تعلوا و تنخفظ بشكل غير متناسق يمررون بقوة على ألوحهم بواسطة -الكراك(المحنش)-هذا الأخير هو عود صغير محرف الرأس و مكور العقب ، طوله لا يتعدى عشر سنتيمترات ، مكانته كبيرة عند الطلاب ، فتجدهم دوما يتنافسون في نقشه و صيانته ، كما أنه لا يعار للآخر ، مهمته أساسية إذ يضغط به الحافظ على اللوح لتثبيت المقروء بالذاكرة ، ويستعمل عقبه لتحنيش الحروف و الكلمات للأطفال ، و آخرون يعيدون ما يملى عليهم من طرف الطلبة الكبار لدروس دينية في شكل أرجاز مسجوعة مثل: وجنة محلولة حللها ملانا بصلى مدخولة عند الله مقبولة الما بلا شرى و القبلة بلى كرى الله ينعل تارك اصلى. لا زلت أذكر يوما نالني نصيب من عقاب الفقيه بسبب كلام ظنه بدون سبب مع زميل بجانبي نتيجة خوف من نحلة هاجمتنا ، فكان نصيبي الفلقة ، فذهبت إلى البيت وأنا أتعرج من الألم ، فشكوت أمي ، فردت علي بالوعد و الوعيد لهذا الفقيه الظالم ، و في الصباح أطعمتني خبزا وسكرا مشفوعا بالزيت و كأس شاي بائت ، ثم أمسكت بيدي قاصدة الجامع. خرجنا من دار المصباحي التي كنا نسكنها بالمرياح ملتصقا بتلابيبها ، وما إن ولجنا الباب ، وجدنا الفقيه وسط الصحن فدفعتني في اتجاهه قائلة قبل يد فقيهك ، و تابعت : سيدي الفقي ها هو -انت اقتل و انا ندفن – و فتحت عقدة من سبنيتها وأعطته 50 فرنكا ، بالإضافة الى الحدية 20 فرنكا ، كانت كافية ليمرر يده على راسي و ينبس بكلمة الله يفتح عليك ، فشعرت بفخر كبير لإطراء الفقيه. يوم الفرح عندما يأتي أحد ليحررنا بعد أن يقدم أحدهم تحريرة قيمة تكون في مستوى تحرير المحضرة ، أو أتم أحد الطلبة ختم القرآن حيث يزين هامش لوحه باللون الأصفر المأخوذ من صفر البيض و الموشى بالسمق ذا جودة عالية يستعمله الفقي خاصة ، و يزف هذا الطالب بالتهاليل و الذكر إلى أسرته في موكب جليل ، يتقدمه الطلبة زملاء الفقيه الجديد ، حيث يستقبل من طرف الأسرة بالزغاريد و العسل و الزبدة و الحليب و الزبيب ، أما نحن الصغار فنكون فرحين نتراكض وراء الموكب في قمة البهجة بتعوشيرتنا بعد أن تصادمنا مع بعضنا على صنادلنا اثناء خروجنا من باب الجامع نتسابق على مقدمة الموكب. كانت ذكريات جميلة ، راسخة في ذاكرتنا طبعت سلوكنا وقيمنا نحن أبناء هذا العهد بمدينة التاريخ والقيم و الأخلاق.