عبد الجواد الخنيفي- هسبريس في براعة سردية ونوستالجية تستذكر الذّات والآخر والآفاق المفتوحة وتنعطف بالمعطيات والمصائر والأحداث..يفتح القاصّ والأكاديمي المغربي المرموق الدكتور مصطفى يعلى حقلا متفرّداً على ذكريات وأفكار وهواجس، ليزرع فراشة الرّوح في ذاكرة المكان وأنفاس الطّريق بمسقط القلب والطفولة، مدينة القصر الكبير.هي رحلة تميزت بالدّقة والانسيابية في الوصف، تفيض بالمعاني وتحمل العديد من التفاصيل ومعالم الحياة وجوهرها وتداعيات الماضي والأثر الأبقى وأشجار الحنين..هنا سيرة إنسان وثراء تجربة وانسياب زمن..وشلالات من العطاء وضفّة مبدع كبير تلوّنت بعمق معرفي وجوهر جمالي وبقدرات عالية على إضاءة النّفس الإنسانية.. رحلة الطّفولة..رحلة في الذّاكرة يستحضر يعلى رحلة طفولته المحفوفة بالبساطة والعمق في مدينة القصر الكبير قائلا: “من حظي أنني ولدت ونشأت في فضاء شعبي متقوقع على ذاته، صبغ معين ماهيته الثر جذور هويتي بالصبغة المغربية الصميمة.. وهو عبارة عن أزقة ضيقة ملتوية، ودكاكين صغيرة متهالكة، ومنازل ذات معمار أندلسي، تحتضن تشكيلة بشرية حمَّالة لقيم نبيلة وثقافة شعبية أصيلة بالمعنى الإثنوغرافي؛ هو حي “النيارين” بالقصر الكبير، الذي طالما كان منبع إلهام لكثير من نصوص منجزي القصصي، وخاصة في مجموعاتي “أنياب طويلة في وجه المدينة دائرة الكسوف لحظة الصفر”.. إن تراكم أصواته وروائحه وصيرورة واقعه قد نفذ بمذاقه الشعبي المحبب بين تضاعيف الذاكرة الفتية، فساهم صداه في تكوين الطفل الذي كنته مشرئبا في تفتح لامتصاص المعيش بشغف”. ويزيد صاحب “نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب”، و”أنياب طويلة في وجه المدينة”، ودائرة الكسوف”، و”رماد بطعم الحداد”، وغيرها من المؤلفات الممتدة بعنفوانها وعمقها، أنه تم للخبرات الشعبية الراسخة رسم معالم كينونته، عبر جوارح العين والأذن والأنف والذهن. ففي خضم تفاعله مع هذا النسق الثقافي الأليف بالحي العتيق تشرب يعلى نسغ حياة مجموعته الاجتماعية المنسجمة، أفراحا وأحزانا وتقاليد وقيما واعتقادات ومواضعات وكوابح طابوهاتية، قبل اندماجه في تفاصيل الحياة الاعتيادية للمدينة.. وكان للمتخيل الشعبي خلال المرحلة البيتية أثر قوي في مخيلته، عبر جاذبية الاستماع يوميا للحكايات الشعبية، بعوالمها السحرية المرعبة، لكن الممتعة، من لدن نساء البيت ومن جارات مسنات؛ وقد ساند هذا الإشباع التخييلي في ما بعد هوس وإدمان الحضور إلى “حلقة” راو للحكايات العجيبة في ساحة “لَلاَّ العالية”، إذ لم ينس رفاهية تشخيصه المذهل لما كان يرويه من حكايات خارقة وسير شعبية، مستعينا أحيانا بأنغام “الكنبري”..وها قد مرت عقود على غيابه، دون أن يفقد الحنين العابر للزمن طزاجة كل تلك الرواسب. ثم أضحت حيوية الطفل داخل يعلى تمتطي الحبو نحو عتبة الدار، دون أن يذكر متى وثب منها إلى أرضية الدرب لاكتشاف عالمه، ومشاركة أقرانه من الأطفال الألعاب والمرددات، التي كانوا يبتكرونها موسميا بخيالهم الصغير ومهارتهم الساذجة، فولع بها طلبا للتسلية والإشباع، ولم يمنع تلاشيها في عصر الإلكترونيات الحالي من أن تظل مستقرة في أرشيف الذاكرة.. ولما كبر قليلا أزف موعد خروجه الأول من الدرب المغلق نحو كتّاب الفقيه الجباري بمسجد “لَلاَّعايشة الخضرا” القريب. ولئن كان هنا قد اصطدم مبكرا بتغول العالم، بفضل الولائم السادية لقضيب الرمان النشيط بعشوائية، والذي ما كان يتورع الفقيه عن ترويع الصغار المرتجفين بجلدهم به في أي مكان بأجسادهم الفتية، خصوصا على الرأس؛ فإنه قد فاز بصداقات حميمة، سيرافقه أصحابها طيلة الدراسة الابتدائية والثانوية. ولعل اللحظة المفصلية بالنسبة للطفولة الأولى، يؤكد أحد أبرز الكتاب المغاربة الذين وسموا المشهد الثقافي والأكاديمي بإنجازاتهم الكبيرة والمتفرّدة: “تزامنت مع اتساع رقعة تحركي وشروعي في الشرود نحو مركز المدينة، حيث ساحة “السويقة” المتاخمة ل”النيارين” بفضائها العصري. إن أهمية هذه الساحة بالنسبة لتكويني تؤشر على توطئة تسرب غواية بريق الحداثة الغربية إلى ذهنيتي، من خلال اللقاء بالتجليات الفنية لهذه الحداثة الغازية مع الوجود الاستعماري الإسباني.. ذلك أنه كان يوجد بهذه الساحة مسرح “بيريس غالدوس” كقيمة حضارية مضافة. على أن بصمة هذا المسرح/السينما في نفسي كانت أعمق، فإضافة إلى تشرب حوارات الأفلام وموسيقاها التصويرية، المنبعثة من نوافذ عليا بقاعة العرض، أثناء لعبي كرة القدم يوميا في الدرب الموازي له، صار بالنسبة إلي مدرسة حضارية فعلية ساحرة، بما كان يعرضه من أفلام متنوعة جذابة، خلال العصر الذهبي للسينما العالمية، لمخرجين كبار أكفاء أمثال روبرتو روسيليني وفيتوريو دي سيكا وألفريد هتشكوك وإيليا كازان ووالت ديزني، بأداء ممثلين مشهورين لبطولاتها وهم كثر. كان كل منهم مدرسة مميزة في التمثيل، خاصة أن كثيرا من الأفلام كانت مأخوذة عن أعمال أدبية شهيرة، مثل أنا كارنينا لدوستويفسكي، وعربة اسمها اللذة لتينيسي وليامز، والصخب والعنف لفوكنر، ومرتفعات ويذرنج لإميلي برونتي، ودوريان غراي لأوسكار وايلد، ووداعا للسلاح وغيرها لهمنغواي. وإذ أحاول هنا الاستبصار بأحاسيسي خلال تلقي تلك الأفلام المتنوعة، أسجل أنها كانت تدغدغ خيالي فتجعلني أسمو مؤقتا من واقع متخلف بئيس، إلى عالم من التحضر على مستوى العلائق الإنسانية، والتربية الجمالية، والاستفادة المعرفية. وللأسف فإن تصدّع رافعة التمدن قد تسبب في شطب هذه القاعة السينمائية من الوجود، لتحل محلها بناية مشوهة تكشف فائض التخلف الذي اقتحم المدينة”. تجارب متتالية..مفارقات وأحداث ويلمح يعلى الذي يطرق أبواب بدايات لا تنتهي بالقول: “كما كان يتصدر هذه الساحة ناد للضباط الإسبان (نظيف وحسن الإضاءة) على حد عنوان قصة إرنست هيمنغواي، تتوسطه حلبة رقص، وذو نوافذ واسعة عالية، وبوابة زجاجية دوارة؛ فكان ذا صلة بتسلل بعض الحداثة إلى عرين مجتمع تقليدي محافظ إلى حد التزمت، كما يبدو من تنظيم سهرات راقصة أسبوعيا، كنا نتفرج عليها من بعيد.. لكن ما تغلغل إلى ذائقتي منه هو ما كان يقع في الساحة المقابلة له صباح الأحد، حيث كان يأتي جوق عسكري سيمفوني، يتحلق أعضاؤه مفرِدين أمامهم أوراق المعزوفات الكلاسيكية، فيشنفون أسماعنا بروائعها، ومن يومها وأنا من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، وقد بنيت شكل بعض قصصي على حركاتها الأربع. ومن المفارقات المحمودة كون مصير هذا النادي لم يكن شبيها بمصير سينما “بيريس كالدوس” البئيس، إذ تحول إلى مركز ثقافي نشيط رغم تقهقر الرصيد الحضاري “. ويحسب المتحدث ذاته وهو يقف على سياقات متعددة ومختلفة وعلى جريان الأحداث بأن الحصول على الاستقلال سنة 1956 طفرة استثنائية المخاض غير قابلة للنسيان، كان من اللازم مع حتميتها الانشغال بعدد من المساءلات المصيرية والتوقعات الحاسمة، كان من ثمراتها السارة تصد للتخلص من كابوس الكتّاب رغم اعتراض والده، ملتحقا مثل بعض زملائه في الكتّاب ب”المدرسة الأهلية”، الواقعة بعدوة باب الواد بعيداً عن عدوة “الشريعة” حيث دارهم، تطلعا لفتح كوة في جدار المستقبل.. فكان هذا الخيار علامة فارقة في مساره الدراسي، إذ جذبته المواد الجديدة مثل الجغرافية والتاريخ والحساب والأناشيد والمطالعة والمحفوظات واللغة الإسبانية، فاستسهلّ النهل منها متفوقا في معظمها.. والطريف أنه لم يدرس بالابتدائي سوى سنتين، ذلك أنه بعد اختبار سريع أُلحق رأسا بالسنة الثانية الملائمة لمستواه؛ وفي نهاية السنة الثالثة، كان مارا بباب مدرسة “سيدي بوحمد” في طريقه نحو السوق لشراء بعض الخضر والفواكه للبيت، وكان حشد من المرشحين لاجتياز الشهادة الابتدائية يتجمعون حول الباب، فرمقه المسؤول عن دخول المرشحين وهو من معارفه، وجازف بمناداته أن اقترب، فلما جاءه دفعه برفق إلى الداخل، وطلب من أستاذ إسباني تسجيل ترشيحه لاجتياز الامتحان، ثم قاده إلى فناء المدرسة حيث يجري الاختبار على كراس متحلقة حول طاولات مبعثرة هنا وهناك، كما لو أن الأمر يتعلق بمقهى وليس بمدرسة. وحتى الآن لا يعلم السارد كيف أجاب على الأسئلة، وكيف نجح، فالتحق بالتعليم الثانوي مباشرة، دون المرور بالسنة الرابعة والأخيرة من التعليم الابتدائي. يفاعة الدّرس..ومشاهد دالّة ويضيف ضيف هسبريس الذي ينطلق صوب مساحات مفتوحة على صور ومشاهد مختلفة: “في ثانوية “المعهد المحمدي”، مطلع الستينيات، تضاعف شره جوعي المعرفي والفني، كما تعرفت على زملاء جدد، وأساتذة مغاربة ومصريين وجزائريين وإسبان أكفاء. وهنا أستحضر تباشير تغلغل الهوى المصري في نفسي، ذلك أن البعثة التعليمية المصرية اللامعة لعبت دورا مهما في تكويني على صورة جيدة. وثمة عضو من تلك البعثة لم ينسه جيلي القصري، هو أستاذ اللغة العربية أحمد حمروش، الذي نشّط الفعل الثقافي الموازي بخبرة وكفاءة مذهلتين؛ فقد أنشأ ناديا ثقافيا بالمؤسسة يسيره التلاميذ، وأسس فرقة مسرحية مدرسية، ومجلة حائطية كلفني بالإشراف عليها، تحولت إلى نشرة بالستنسييل، بل وطبعت في مطبعة إسبانية بالمدينة، ونظّم برنامجا رحلياً للتلاميذ نحو آثار الشميش بضاحية العرائش، ووليلي والشعبة السعيدة بضاحية مكناس، ناهيك عن إشرافه المنظم على احتفالات آخر الفصول الدراسية بقاعة سينما أستوريا الفخمة، التي أزهقت أبهتها مع هيمنة العقم الحضاري حاليا، فأمست مرآبا للسيارات!”. “بقدر ما تحتفظ ذاكرتي الأدبية بكون مدينة القصر الكبير أهدتني في هذه المحطة فرصة ارتياد الحلقات الشائقة العفوية في “النادي المغربي”، التي كان يحضرها مثقفو المدينة، أمثال الشعراء محمد الخمار ومحمد الخباز وحسن طريبق وجعفر الناصري، والصديقان محمد العربي العسري ومحمد المصباحي وآخرون، بقدر ما أذكر أن احتفائي بما كان يحمَى فيها من مناقشات ثقافية وإبداعية وسياسية نجم عنه أثر قوي في توجهي الأدبي واستغراقي في القراءة حد الإدمان، بحيث صرت كلما نفحني والدي درهما كل جمعة آثرت شراء كتاب من السلاسل الرائجة في الفترة، مثل اقرأ وكتابي ومطبوعات كتابي وكتاب الهلال وروايات الهلال. بيد أن دوامة هذه السيرورة المتفائلة ستصطدم بانعطافة مقلقة، خيبت انعكاساتها الأليمة انتظارات أمثالي، أقصد الطعنة الماثلة في إحلال اللغة الفرنسية بفظاظة محل اللغة الإسبانية في شمال المغرب، ومن يومها وأوراق التوت تتساقط عن التبعية العمياء. ولكم أن تتصورا مدى ما تقاذف رد فعلنا من استنزاف مرير، قصد رأب ما أحدثه هذا الاستهداف اللغوي من خلل تربوي مستهجن، ومحاولة ركوب الحافلة الفرنسية المتحذلقة. إذ فوجئنا بالفرنسية الكاسحة للعربية أيضا، مستحوذة على الإدارة، وبوابة سهلة للوظائف المهمة، ومصدرا للتعالي والمكابرة؛ بينما كان المفروض بداهة أن يدعو التبصر المثري والمرونة الحكيمة وليس الحول الضار إلى الاحتفاظ لذلك الجيل على الأقل باللغة الإسبانية، توفيرا للأطر الكافية الميسرة للتواصل مع الجارة إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية”، يقول يعلى. صداقات الإبداع.. ضوء لا ينتهي “كانت الرابعة ثانوي بمثابة سقف الدراسة ب”المعهد المحمدي”، لذلك كان خروجي من رحم المدينة شاقا سنة 1963، لمتابعة الدراسة في العرائش. وبعد اجتياز امتحان الباكالوريا سنة 1965 في تطوان، حصل الخروج المصيري للدراسة بكلية الآداب الوحيدة في المغرب بمدينة فاس، حيث انضممت إلى الأصدقاء القصريين، المرحوم محمد الخمار ومحمد العربي العسري ومصطفى الناصري والمرحومة خديجة الجزولي ونفيسة الناصري وعائشة معتكف العرائشية، كما تعرفت إلى أصدقاء أعزاء أمثال المرحوم محمد أنقار ومحمد السولامي وأحمد المديني. وعند تخرجي سنة 1968 عينت أستاذا بالتعليم الثانوي، ثم بالمركز التربوي الجهوي في القنيطرة، ثم بكليتي آداب المحمدية أولا والقنيطرة أخيرا حيث استقررت حتى الآن”، يورد يعلى، ويختم بوحه عبر التداعيات والاسترجاع: “تلك شذرات مكثفة من رحلة خروج الذات من البيت والحي والمدينة لم يسعف المجال للغوص في ما رافقها مما اختزنته الذاكرة من علائق وطرائف وتجاذبات وخفايا.. على أنني كلما استذكرت فيض عبقها استشعرت أنني أعيشها مجددا، أو أنني أشدو شعرا غزليا مفعما بأرق الأحاسيس، أو أتنسم رائحة زهر البرتقال على ضفتي نهر لوكوس في فصل الربيع؛ فشتان ما بين طيف مدينة القصر الكبير المحفورة في الذاكرة، وصورتها البدوية الراهنة”.