ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الحب إلى التاريخ .. قراءة في كتاب»أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث» لمحمد العربي العسري

صدر للأستاذ محمد العربي العسري كتاب بعنوان:أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث،ويعد هذا الكتاب الجزء الثاني لكتاب صدر بنفس العنوان سنة 2008.
وقد صدر الكتابان معا ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير التي دأبت منذ تأسيسها سنة 1988 على إصدار مجموعة كبيرة من المؤلفات التي يغلب عليها الطابع التاريخي الاجتماعي الخاص بالقصر الكبير ومناطقه الجبلية.
وتهدف منشورات هذه الجمعية إلى التعريف بالدور الحضاري للمدينة قديما وحديثا خاصة وأن هناك إحساسا لدى الجمعية بإهمال هذا الدور الذي كانت له انعكاسات سلبية على الوضع الاعتباري للمدينة.
يقف القارئ على ذلك الإحساس في عدد من الكتب التي نشرتها الجمعية،إذ يسجل الأستاذ محمد بن خليفة أن الدافع إلى إنجاز كتاب:القصر الكبير،أعلام أدبية،علمية،تارخية هو ما لاحظه(من وجود حاجة ماسة بالتعريف بالحياة الأدبية والعلمية لمدينة القصر الكبير عبر تاريخها الطويل،وما كان لها من إسهامات في مد المجرى العلمي والأدبي بمادة الحياة لهذا البلد الكريم...وشعورا مني بهذا الواجب المقدس تجاه مدينتي العزيزة وأمتي الكريمة...)(1).
كما يعتبر الأستاذ أخريف أن التأريخ لهذه المنطقة من شأنه أن يساعد (على إخراج هذه المدينة من العزلة والتهميش )(2).وقد عبر الأستاذ عبد السلام القيسي عن ذلك الإحساس بمرارة حيث قال في هذا السياق:(قام عدد من الأجلة من إخواني أعضاء الجمعية ببذل المجهود ...في إخراج أعمال ...كشفت عن تاريخ ...هذه المدينة العزيزة علينا،والتي نكن لها كل الحب،ونتمنى لها كل الخير والمجد وهي مجيدة وأصيلة فعلا وقولا والتاريخ يشهد بذلك،ولا نحتاج إلى القول بأنها عانت من الإهمال والتجاهل بقدرها وماضيها المجيد الشيء الكثير،من أبنائها وعلمائها وفقهائها وطلبتها وهم كثر ومن الشهرة والعلم بمكان ثم من غيرهم من المؤرخين والأدباء والكتاب بالمغرب.وقد حان الآن الوقت الذي يجب علينا فيه أن نتدارك الأمر ونجد ونعمل على إبراز ما خفي وإظهار ما طمس،والنبش عما وقع تجاهله والتغاضي عنه من تاريخ هذه المدينة ونحن بعون الله وتوفيقه سائرون في هذا السبيل ) (3).
ويبدو أن الجمعية على وعي بأن مقاربة تاريخ المدينة بأبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية (تتوخى في مقصديتها البعيدة،المساهمة في بناء حاضر المدينة وتنميتها انطلاقا من فهم وتحليل هذا الماضي بكل مكوناته وتجلياته)(4).
ويندرج كتاب الأستاذ محمد العربي العسري في هذا السياق إذ يعتبره ( امتدادا أو ذيلا وتكملة «لكتاب القصر الكبير أعلام أدبية علمية تاريخية» لصاحبه الأستاذ محمد عبد الرحمان بن خليفة،فالحافز واحد في كلا الكتابين)(5)،كما يتقاطع أيضا مع كتاب»أدباء و مفكرو القصر الكبير المعاصرون:بحث وتراجم» للمرحوم بوسلهام المحمدي وهو من منشورات الجمعية، إذ يلاحظ القارئ الترجمة لبعض الشخصيات هنا وهناك مع اختلاف في منهجية العرض بحيث يسجل الأستاذ المحمدي أن الطابع الاستعجالي لتأليف كتابه جعل منه مجرد نظرة خاطفة تحتاج إلى مزيد من التوسع والتعمق)(6).وبالفعل فإن ما قدمه المرحوم لا يعدو التعريف الموجز بالأشخاص دون التدخل بالتنويه أوالنقد إلا قليلا (7)،لأنه وعد القراء بإعداد كتاب آخر يضم دراسة لنماذج من نصوص المبدعين والباحثين، ولكن وفاته حالت دون ذلك.أما عمل الأستاذ م.ع.العسري فبالرغم من أنه يندرج في إطار التراجم،فإنه ليس (ترجمة بالمعنى المألوف لفن الترجمة،وإنما هي ترجمة توخت رسم صورة عامة لثلة من الأسماء تركت بصماتها في صيرورة الحركة الثقافية بمدينة القصر الكبير في السنوات الأخيرة)(8).
ويهدف الكتاب وسائر منشورات الجمعية على المدى البعيد إلى (التأصيل لدراسة تنطلق من المحلي إلى الوطني )(9).
وقد فطن لأهمية هذا النوع من الكتابة في المغرب الحديث كل من محمد داود مؤلف»تاريخ تطوان» والفقيه محمد المختار السوسي الذي صنف مؤلفات كثيرة في تاريخ سوس على رأسها»سوس العالمة» الذي خصه المؤلف كما هو معلوم للحياة الثقافية بسوس .
وأعتقد أن كتاب الأستاذ محمد العربي العسري يشكل امتدادا لهذا التقليد،بل هو تنفيذ عملي لدعوات المختار السوسي في هذا الباب .يقول الشيخ المختار في الكتاب السالف الذكر:
1-(ويعلم الله أنه لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف أو جبالة أو الأطلس أو تادلة أو دكالة ،لرأيت الواجب علي أن أقوم بمثل هذا العمل نفسه،لتلك الناحية التي تنبت نبعتي فيها)(10)
2- ويقول في نفس الصفحة:( إيه فهذه سوس وجدت من هذا السوسي من يبذل جهوده حول إحياء تاريخ بعض رجالاتها،فليت شعري هل تجد تلك البوادي الأخرى ...من تثور فيه الحمية المحمودة ...فيفتح لنا الأبواب التي نراها لا تزال موصدة؟ إننا أيها الفيلالي والدرعي والريفي والجبالي والأطلسي والدكالي لمنتظرون أم يذهب هذا النداء كصرخة الوادي بين ثنايا الصدى)(11).
3- ويقول أيضا في موضع آخرمن الكتاب :(فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب،من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية،فلعل من يصيخون يندفعون إلى الميدان فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها ويعرف برجالاتها ويستقصي عاداتها فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة أمام من سيبحثون في المغرب العام على منضدة التاريخ المغربي العام)(12).
وقد تضافرت جهود ثلاثة أطراف في رسم الصورة المذكورة:
1-الأول تكفل به أصحاب الترجمة أنفسهم،إذ تولت بعض الشخصيات التعريف بنفسها.
2-الثاني تكفل به بعض المهتمين بالشأن الثقافي للمدينة بحكم صلتهم المباشرة أو غير المباشرة بالمترجم لهم .
3-الثالث من إنجاز المؤلف نفسه لصلته الوثيقة بأغلب الشخصيات التي اهتم بها في الكتابين.
وسنركز هنا على الجانب الأخير لأنه يعكس بوضوح الجهد الذي بذله م.ع.العسري ليس في جمع المادة فحسب،وإنما في قراءتها وتأويلها.
يحتوي الكتابان على ست وثمانين ترجمة بدأت في الجزء الأول بست عشرة ترجمة وتواصلت في الجزء الثاني بسبعين وستنتهي في الجزء الثالث،الذي يبدو أنه في طور الإعداد،بعدد آخر من الترجمات.ويزدان الكتابان بحوالي مائتين وثلاث عشرة صورة للأعلام والأماكن والوثائق من رسائل وظهائر ومنشورات وغيرها،كما يضمان بالإضافة إلى ذلك مجموعة كبيرة من النصوص الشعرية والنثرية أغلبها للمترجم لهم بالكتابين.
وأغلب الأعلام المترجم لهم بالكتابين من المتوفين،إذ تصل نسبتهم إلى 11،65 في المائة،ولعل هذه النسبة من بين الأسباب التي كانت وراء إقدام المؤلف على التأليف في هذا الموضوع،إذ يقول:( منذ مدة أحسست أنه،من باب الوفاء والبرور الالتفات إلى رهط من عشيرتي ربطتني وإياهم صلات وثيقة ،أسعدني الحظ فتتلمذت على يد بعضهم،وصادقت البعض الآخرمنهم مددا متفاوتة عاشرتهم خلالها وعايشتهم ،كما أن فريقا ثالثا اقتصرت معرفتي به عن طريق ما خلفه من أثر مكتوب.ولكل واحد من هؤلاء وأولئك له في قلبي مكانة،وهم جميعا يستحقون الثناء والذكر الجميل.)(13)
كما تفسر لنا أيضا الاهتمام بالجانب المضيئ لتلك الشخصيات دون غيره عملا بالحديث النبوي الشريف «اذكروا محاسن موتاكم «.
وكيفما كان الحال،فإن الأستاذ العسري لا يعتبر كتابته عن أقلام وأعلام المدينة كتابة نهائية لأنه قد اختار زاوية نظر واحدة لا غير هي(رصد جوهر تلك الشخصيات أو ما قد تبدى...أنه جوهرها،وذلك عبر مظاهر من سلوكها في الحياة أو عبر ما تركته من منتوج) (14).
والواقع أن ما سجله المؤلف هنا ينطبق أساسا على الشخصيات التي كان قريبا منها سواء عن طريق التتلمذ أو الصداقة وخاصة في سنوات الدراسة أو غيرها،أما باقي الشخصيات فيعرف بها وبإنتاجها بنوع من الحياد أو يكتفي في بعض الأحيان بإثبات التراجم التي سجلها بعض الأعلام عن أنفسهم
ويلاحظ بالنسبة للنموذج الأول أن الأستاذ العسري يجتهد لبناء شخصية العلم انطلاقا من مختلف المعطيات المتوفرة بين يديه،فينتقي منها ما يلائم الشخصية التي يروم بناءها،ولا يهمه ،بعد ذلك، أن تكون مطابقة تمام التطابق للشخصية الحقيقية،لأن( الكتابة عن أشخاص معينين ليست نهائية،ولا ضربة لازب،فالشخصية الواحدة قد ينظر إليها من زوايا عدة) (15).
وغالبا ما يستهل المؤلف حديثه عن تلك الفئة من الأعلام بما يمكن اعتباره مفتاحا لشخصية كل علم، كأن يورد قولا لأحد النقاد أو المؤرخين أو المبدعين قيل في حق أعلام آخرين أو مناسبات معينة فيعممه المؤلف على بعض أعلام المدينة ويجعل منه مدخلا لفهم شخصياتهم، إيمانا منه بأن التجارب الإنسانية واحدة بالرغم من اختلاف الزمان والمكان.
كما يجعل، أحيانا،بعض نصوص أولئك الأعلام أو بعض الحوادث البسيطة في حياتهم مفتاحا لفهم شخصياتهم.
ويحرص المؤلف،في كل ذلك،على ربط الشخصية بمحيطها الجغرافي والإنساني متتبعا الأثر المتبادل بينهما ما يجعل من عمل الأستاذ العسري في الكتابين لا مجرد ترجمة لأقلام وأعلام مدينةالقصر الكبير خلال العصر الحديث، وإنما هو، بالإضافة إلى ذلك،سيرة ثقافية للمدينة ،لأن تلك الأقلام وأولئك الأعلام الناشئة بالمدينة أو الوافدة عليها زاولت أنشطتها المختلفة بالمدينة ومنطقتها الجبلية سواء كمتعلمين بمدارسها ومراكزها العلمية بالبادية أومدرسين بمؤسساتها أو مزاولين لأنشطة أخرى.
يذهب « ديل إيكلمان «إلى أن( المجتمع المغربي، بسبب تعقد تركيبه،من المجتمعات التي يمكن فهم مظاهر واقعها السياسي والاجتماعي عن طريق السيرة أو بيوغرافية الأفراد)(16).
وقد استدل» إيكلمان « على صحة رأيه بالإشارة إلى بعض النماذج التي انطلقت من السيرة لرصد بعض التحولات التي عرفها المغرب قديما وحديثا ،كما يعتبر عمل إيكلمان نفسه استدلالا مباشرا على صحة الرأي المذكور.
وإذا كان الأمر كذلك ،فما هي النتائج التي يمكن استخلاصها من التراجم الواردة بكتابي الأستاذ م.ع.العسري؟
لنسجل أولاأن ما قدم بالكتاب عبارة عن مقاطع من تراجم وليس تراجم كاملة .ومن ثم فإنها لن تؤدي ،منفردة،إلى نتائج دالة،غير أن ضم مجموع المقاطع إلى بعضها،بغض النظر عن الأعلام المرتبطة بها،سيجعلنا أمام ترجمة» لشخصية جمعية» تختزل مجموع الأعلام الواردة في الكتابين ما قد يساعد على استخلاص بعض النتائج التي يمكن الاطمئنان إليها.
ولعل أهم نتيجة يمكن تسجيلها من خلال تلك «السيرة الجمعية» هي حركة التعليم بالمدينة وأرباضها الجبلية وما عرفته من تحولات،إذ يلاحظ في مرحلة أولى أن بعض المداشر المحيطة بالمدينة كانت مراكز علمية يقصدها بعض طلبة القصر الكبير مثل «عين مامون» و»الدمنة» و»الساحل « و»عين قرار»و»أمجادي» ...حيث كان يتولى شيوخ تلك المراكز تحفيظ القرآن برواية ورش وتدريس مختصر الشيخ خليل وكذا بعض المتون كالأجرومية وابن عاشر والألفية...
ويبدو،من خلال مواد التدريس،أن أغلب شيوخ تلك المراكزالقروية تابعوا دراستهم بالقرويين ثم عادوا لمزاولة مهامهم العلمية بالمداشر أو القصر الكبير وبعض المدن المجاورة.
بموازاة مع تلك المراكز القروية بدأت مدينة القصر الكبير تتحول بالتدريج إلى مركز علمي بعد عودة طلابه من القرويين وتصدرهم للتدريس ببعض المساجد إلى أن التحق بعضهم للتدريس بالمعهد الديني الذي فتح سنة 1937 .
من هنا يتضح أن المدينة كانت منفتحة منذ وقت مبكر على جامع القرويين بدليل تطبيقها لبرنامج التعليم الذي أقره المولى عبد العزيز بالجامع المذكور.
وقد كانت بعض المدارس الابتدائية أحد الروافد التي تمد المعهد الديني بالتلاميذ،إذ تأخر فتح المعهد المغربي للدراسات الثانوية ( الثانوية المحمدية الآن)إلى سنة 1956.
ومن أشهر تلك المدارس المدرسة القرآنية التي أسست سنة 1937 حيث كانت تلقن الدروس باللغة العربية وتقرر الكتب التي كانت تدرس بمصر وكذا المدرسة الحسنية التي تأسست سنة 1939،ليتوالى بعد ذلك فتح مدارس أخرى كمدرسة التقدم ومدرسة سيدي بوأحمد ومدرسة الأمل الحرة.
ويبدو أن هذه المدارس أنشئت بديلا للكتاتيب القرآنية التي لم تكن تستجيب للشروط التربوية والبيداغوجية ما يفسر تبرم بعض التلاميذ وآبائهم من أدائها.ومع ذلك ظلت تمارس نشاطها التعليمي إلى جانب المدارس المذكورة بل فتحت إلى جانبها كتاتيب خاصة بالإناث تديرها فقيهات أشهرهن الفقيهة عزيزة الأزرق (ت.1976)والفقيهة شريفة بوسلهام بوحيىوالفقيهة خديجة التكموتي .
وقد اتخذت الفقيهات المذكورات من دورهن السكنية كتاتيب قرآنية تحول بعضها إلى مدرسة عصرية.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى ما كان يعانيه الطلاب القصريون من صعوبات في طلب العلم يسبب الفقر أوسيادة الطرق التقليدية في التربية والتعليم وهو جانب مسكوت عنه باستثناء إشارتين وردت الأولى عند الأستاذ عبد الرحمن الروسي أثناء حديثه عن شيخه المرحوم علال الزرهوني خلال دراسته بفاس (حيث لم يكن له من مساعد يساعده على ضائقة العيش إلا أمه الفقيرة،والتي لم تكن لتبخل عليه بما يتوفر لديها من نقود لقاء عملها بغزل الصوف،لتبعث له بها بين الحين والآخر على قدر استطاعتها،وهو مع ذلك لم يعدم بعض المساعدات من بعض المحسنين الكرام)(17)،مماجعله (يشعر بوخز من ضميره يؤنبه من أمه المسكينة التي كانت تتعب كثيرا من أجله) (18).
أما الإشارة الثانية فتعكس المعاناة الكبرى للأستاذ سعد الدين الطود في حفظ القرآن الكريم ومجموعة من المتون إذ اضطر والده،بسبب فراره المستمر من الكتاب ،إلى تقييد رجليه،لمدة سنتين،بسلسلة طويلة مربوطة بأحد أعمدة المنزل حتى تسمح له بالتحرك في ساحته وسائر مرافقه،وتعيين فقيه غليظ القلب يقض مَضجعه يوميا قبل الفجر لتحفيظه القرآن الكريم (19).
وباستثناء هاتين الإشارتين لا نكاد نعثر على ما كان يكابده الطالب القصري من مشاق وصعوبات في طلب العلم وخاصة أثناء رحلته إلى فاس،كيف سافر؟وأين سكن ومع من؟وكيف كان يدبر المأكل والملبس والكتب إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بالحياة الدراسية بالقرويين سيما وأن بعضهم مكث هناك عشر سنوات.
ومن حسن الصدف أن ما سكت عنه الطالب القصري أفصح عنه الطالب التطواني محمد داود في الجزء الأول من سيرته الذاتية «على رأس الأربعين» إذ خص حوالي ستين صفحة للحديث عن رحلته من تطوان إلى فاس وحياته الدراسية بهذه المدينة وما يتصل بها من سكن ورفقة وتتلمذعلى مجموعة من الشيوخ الذين تتلمذ عليهم الطلبة القصريون(20).وليس من المستبعد أن يكون طلبة تطوان،ومنهم محمد داود،على صلة بطلبة القصر الكبيرلتواجد الجميع خلال مدة زمنية واحدةوانتمائهم لمنطقة واحدة .
بالرغم من المآخذ التي يمكن أن تسجل على بعض منشورات الجمعية، فإنها تشكل مادة لا غنى عنها أبدا في كتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للمدينة والمنطقة الجبلية المحيطة بها،إذ يشعر قارئ تلك المنشورات،وخاصة الذي لا يعرف شيئا عن المدينة وأرباضها،أنه أمام مدينة عريقة تاريخا وحضارة وأنها كانت قديما أحد المعاقل الكبرى للحركة الصوفية بالمغرب ولعل هذا ما يفسر كثرة أضرحة ومزارات أوليائها وصلحائها،كما ساهمت بفعاليةفي دحر الغزوات الصليبية (معركة وادي المخازن)والاستعمارية،وبهذا كانت محطة لعدد من قادة السياسة والفكر(علال الفاسي،المهدي بنبركة،محمد بلحسن الوزاني،المكي الناصري،نزار قباني...).
كما كانت المدينةعلى صلة بالشرق العربي حيث تابع بعض طلاب المدينة دراستهم بمصر والعراق وسوريا.وقد كان لهذه البعثات ،إلى جانب المطبوعات المشرقية،دور في نشر الفكر القومي والتمسك باللغة العربية،ولهذا لم تتمكن لغة المستعمر(الإسبانية)من مزاحمة اللغة العربية كما حدث بالنسبة للغة الفرنسية في باقي المناطق المغربية،بل إن المنطقة الجبلية بالقصر الكبير كانت تعرف حركة علمية كبيرة خرجت مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين زاولوا مهامهم العلمية والتربوية خارج المنطقة الخليفيةنفسها.
ويبدو لي أن الأستاذ محمد العسري وبوسلهام المحمدي وقبلهما محمد بن خليفة يصدرون في تراجمهم،ولو بدون شعور،عن قناعة راسخة بأهمية المكان والجغرافية بصفة عامة في تشكيل وعي الإنسان ومن ثم فإن مدينة القصر الكبير بأرباضها الجبلية وعمقها التاريخي والحضاري هي التي ساهمت في صناعة عدد من الأعلام في مختلف المجالات .ويلمس القارئ هذا من خلال بعض الإشارات الواردة في نص عبد السلام القيسي السالف الذكر إذ يستعمل كلمات :أبنائها وعلمائها وفقهائها وطلبتها وهم كثر ومن الشهرة والعلم بمكان ،كما يلمس أيضا في الاختيار الذي سلكه بسلهام المحمدي في كتابه إذ ترجم للقصريين بالولادة وإن أقاموابعد ذلك بمدن أخرى لأن(القصري قصري أينما حل وارتحل)،كما ترجم أيضا للذين أقاموا بالمدينة وولدوا في مدن أخرى لأن (القصري بالإقامة قصري ولو ولد بمدينة أو قرية أخرى)(21).
وعلى هذا الأساس فإن أثر المدينة يتجاوز المولودين فيها إلى المقيمين أو الذين أقاموا بها.كما تظهر هذه القناعة عند محمد العربي العسري أثناء ترجمته للشاعر المهدي زريوح،إذبالرغم من أن الشاعر ولد بمدينة مليلية (فإن مدينة القصر تعتبر مدينته الأصلية ،ذلك أن علاقة الإنسان بالمكان وكما يجب أن لا يغيب عن البال،لا تحددها سقطة الرأس الأولى بقدر ما تحددها مجموعة من العوامل والمؤثرات الأخرى .النشأة ،الحي،المدرسة،الرفقة...وغيرها من المؤثرات.هذه العوامل وسواها تمت هنا بهذه الأرض ?فلقد نشأ بالقصر الكبير ودرس بالمدرسة الأهلية وفيها تعرف على رموز الحركة الوطنية وتأثر بهم وهو شديد الاعتزاز بهذه النشأة،فوجدانه وليد هذه التربة،وكذا ثقافته وتكوينه المعرفي.)(22).كما سلك نفس المسلك مع الشاعر محمد الغربي قائلا:( إن سقطة الرأس الأولى،ليست وحدها من تحدد هوية الشخص المكانية،وإنماتحددها فضاءات أخرى عاش المرء فيها القسط الأوفر من طفولته وشبابه،وهذا هو حال مترجمنا فلقد ولد بأصيلة ولكننا نعده من أبناء جلدتنا،فمنذ أن وعينا بأن بالقصر الكبير شعراء،كان محمد الغربي أحدهؤلاء)(23) .
وينطبق نفس الأمر على محمدالبوركي الرحماني الذي ولد بتطوان واعتبره المؤلف،مع ذلك ، من القصر الكبير(لأننا حينما نعده أحد أبناء مدينتنا وأحد أقلامها فإننا لا نبتعد عن الصواب،فالمدة التي قضاها في كنفها ليست بالقصيرة)(24).
وبفعل هذه القناعة حسم اعتراض الترجمة للمرحوم أحمد أجزناي لأنه ليس من أقلام المدينة ولا من أعلامها وذلك بإدراج الرجل ضمن أعلام المدينة مبررا ذلك بالقول: (والحق أن مثل هذا المأخذ لم يغب عن بالنا ونحن بصدد كتابة كلمة حول هذه الشخصية.وكدنا نحجم عن إتمامها بيد أن نداء قويا داخليا ألح علينا في تجاهل المعترضين)(25).
وأحب أن أقف هنا عند هذا النداء الداخلي القوي الذي ما فتئ يضغط على الأستاذ العسري حتى أدرج الرجل ضمن أعلام المدينة .لمن هذا النداء؟ولما ذا قوته؟ .إن الأستاذ العسري نفسه غير متأكد من الجواب الصحيح ولذا أفترض أن ما أقدم عليه (قد يعود...إلى المدة التي قضاها بالقصر الكبير على رأس الثانوية المحمدية رغم قصرها (ثماني سنوات ) جعلته يندمج في المجتمع القصري،وهواندماج مكنه من ربط صلات ود وصداقة مع الكثير من الأسر والأسماء القصرية.واستطاع خلالها أن يجعل لاسمه وقعا خاصا في نفوس الساكنة القصرية فلا يذكر إلا مقرونا بالإعجاب والتقدير .ثم إن جيلا كاملا من أبناء مدينة القصر الكبير يدين له بالشيئ الكثير )(26) .
إن هذا الجواب لا يخلو،بطبيعة الحال، من صحة ولكن الأصح منه،في نظري،هي تلك القناعة الراسخة ب»عبقرية المكان» ودوره في تشكيل وعي الإنسان إن لم أقل تحديد مصيره ولعلها العبقرية التي دفعت الأستاذ العسري إلى إدراج مدرس إسباني (دون خوان طريس) ضمن أعلام المدينة لاشتغاله بها .ولعلها الدافع لمواظبة أبنائه على زيارة القصرالكبير لاستحضار روح والدهم (27).
وتدل هذه المؤشرات على أن المدينة كانت مكانا جاذبا يستقطب العابرين ويحولهم بسرعة إلى مقيمين بل مساهمين في بنائها لا فرق في ذلك بينهم وبين سكانها الأصليين.
وقد ساهمت الحركة العلمية بالقصر الكبير قديما وحديثا في رسم بعض الملامح الفكرية والاجتماعية للمدينة،إذ يلاحظ نزوع واضح إلى الثقافة العربية الإسلامية سواء على مستوى الإنتاج أو الاهتمام ولهذا يلاحظ أن أغلب الفاعلين الثقافيين بالمدينة ينتمون إلى مجال التعليم بمختلف المستويات وخاصة في اللغة العربية والعلوم الإنسانية بصفة عامة ،كما أن النشاط الدعوي بالمدينة تعود جذوره لا إلى ما هو ماثل أمامنا الآن من أعلام ،بل إلى أولئك الفقهاء الذين كانوا يعملون ،في صمت ،سواء بمدينة القصر الكبير أو مناطقها الجبلية .
وأزعم أيضا أن تلك الحركة ساهمت ،إلى جانب عوامل أخرى،في تشكيل» الشخصية القصرية» التي تتميز ببعض الصفات منها على الخصوص:
1-الميل إلى العزلة .
2-التواضع.
3- النزوع إلى التفوق .
وهذا موضوع في حاجة إلى شرح واستدلال لا محل لهما الآن في هذا المقام.
التاريخ المحلي والجهوية المتقدمة
معلوم أن الدستور الجديد للمملكة ينص في الفصل الأول من الباب الأول على أن (التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي،يقوم على الجهوية المتقدمة ) .
ومن المأمول أن يكون للثقافة نصيب في الجهوية المتقدمة وذلك بإحياء وتنمية ثقافة الجهة ونشرها بين السكان بل إدماجها في البرامج التعليمية،بحيث يكون التلميذ على بينة من تاريخ مدينته وجهته وأعلامهما في شتى المجالات وفي ذلك إغناء للجهة والوطن بصفة عامة.
وأعتقد أن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصرالكبير تساهم في وضع أساس صلب لبناء تاريخ المدينة وأرباضها الجبلية ما سيساعدلاحقا على كتابة تاريخ الجهة برمتها .
ويعتبر عمل الأستاذ العسري أحد الدلائل على ذلك بفضل الجهد الكبير الذي بذله في التعريف بأعلام المدينة وأقلامها.
كما أن السلطات المحلية والمجالس المنتخبة،من جهتها،مطالبة بتشجيع مثل هذه الجهود وأقلها إطلاق أسماء أحد الأعلام على إحدى المؤسسات التعليمية أو الاجتماعية وكذا الأزقة والشوارع والساحات والحدائق العمومية ...فلماذا لم تفكر الجهات المعنية بالمدينة في إطلاق اسم الشاعر محمد الخمار الكنوني مثلا على إحدى المدارس أو الثانويات أو المراكز الثقافية بمدينة القصر الكبير ؟ ثم ألا يستحق المرحوم أحمد أجزناي إطلاق اسمه على إحدى قاعات الثانوية المحمدية اعترافا بفضله على أبناء المدينة ؟،وما المانع من إطلاق اسم الموسيقار الكبير المرحوم عبد السلام عامر على المعهد الموسيقي بالمدينة؟
ومن شأن هذه الالتفاتات،على بساطتها،أن تسهم في ترسيخ الجهوية التي تعتبر الثقافة،بمعناها الواسع،بوابتها الرئيسية.
هوامش
1-تقديم المؤلف(دون ترقيم الصفحة)لكتابه الذي صدر عن منشورات الجمعية المذكورة 1994.
2-القصر الكبير وثائق لم تنشر ج.1،ص.3.منشورات الجمعية 2001.
3-مدينة القصر الكبير،تاريخ ووثائق ،ص.9،منشورات الجمعية2006.
4-ن .م.،ص.7.
5- أقلام وأعلام ...ج.1.ص.7.
6،7أدباء ومفكرو القصرالكبير المعاصرون،ص.9.
8- أقلام وأعلام...ج.1.ص.7.
9- نفس المرجع ص.8.
10- سوس العالمة ،ص.ج،مؤسسة بنشرةللطباعة والنشر ،البيضاء 1984.
11- نفس المرجع.
12- نفس المرجع،ص.ه،
13- أقلام وأعلام ،ج1ص.7.
14،15-نفس المرجع، ص.8.
16- المعرفة والسلطة في المغرب،ترجمة :محمدأعفيف،ص.23 ،منشورات طارق بن زياد للدراسات والأبحاث،الرباط2000.
17،18- أقلام وأعلام ...ج2،ص.15.
19- 20، نفس المرجع،ج1،ص.388-389.
21- على رأس الأربعين (مذكرات) ج1،صص.180-236،منشورات جمعية تطاون أسمير،تطوان 2001.
22- أدباء ومفكرو القصر الكبير المعاصرون،ص.9.
23-أقلام وأعلام ...ج2،ص.352.
24- نفس المرجع،ص 365 .
25- نفس المرجع،ص 242 .
26،27- نفس المرجع،ص 431.
28- نفس المرجع،ص 147-148.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.