بقلم: محمد منار هناك علاقة وطيدة بين الأحزاب السياسية والدستور في الأنظمة الديمقراطية، بحيث لا يمكن قيام حياة سياسية سليمة في غياب تنافسية سياسية ودستور ينظم تلك التنافسية، بل لا يمكن تصور دستور ديمقراطي في غياب أحزاب ديمقراطية وتنافس حزبي ديمقراطي. فالهدف الأساس للأحزاب السياسية هو تطبيق برامجها من خلال وصولها إلى مواقع السلطة، بل من المفترض في تلك الأحزاب تمثيل الشعب ليكون مصدر السلطة، التي تتم مأسستها وتنظيم المنافسة عليها بواسطة الدستور. لذلك فهذه الثلاثية؛ الدستور والأحزاب السياسية والانتخابات، تشكل أهم المقومات التنظيمية والآلية للديمقراطية المعاصرة، إلى جانب مقومات فكرية وثقافية لا يتسع المقام للتفصيل فيها. ولقد تبنت أغلب دول ما كان يسمى بالعالم الثالث تلك المقومات التنظيمية والآلية بشكل مشوه، بحيث لم ينتج عنها في أحسن الأحوال إلا مأسسة شكلية تفتقد إلى الجوهر الديمقراطي، الذي يمكن تحديد أهم عناصره في امتلاك الشعب للسيادة وممارسته لها، وما ينتج عن ذلك من حفظ للمصالح العامة في إطار مأسسة فعلية. ولم يخرج المغرب عن دائرة ذلك التبني المشوه للديمقراطية، رغم بعض المحاولات، وإذا بحثنا عن مظاهر ذلك فيما يخص علاقة الأحزاب السياسية بالمسألة الدستورية، يمكن أن نقف عند مجموعة من المفارقات منها: أ- رغم أن المغرب كان سباقا إلى تأسيس أحزاب سياسية، وإقرار تعددية حزبية، فإن المسألة الدستورية لم تشكل على أهميتها أولوية عند جل الأحزاب السياسية لحظة حصول المغرب على الاستقلال، بحيث تم الاهتمام بقضايا أخرى كالانتخابات وتنظيم الإدارة المغربية وغيرها. وكانت النتيجة أن تأخر المغرب في إقرار أول دستور إلى سنة 1962 رغم أنه حصل على الاستقلال سنة 1956. فست سنوات من الفراغ الدستوري، أو من الوقت الضائع كما سماها الأستاذ عبد الهادي بوطالب، شكلت مفارقة واضحة في التأسيس الدستوري، علما أن ذلك الوقت الضائع شكل فرصة لدى الملك الحسن الثاني لتغيير ميزان القوى لصالحه، بحيث أصبح المالك الفعلي والوحيد لسلطة تأسيس الدستور. ب- ارتباطا بالملاحظة السابقة، يلاحظ أنه إلى حدود عقد التسعينيات من القرن الماضي لم تكن ممارسة الحياة الدستورية بالمغرب إلا في فترات متقطعة. فالعمل بأول دستور، الذي جاء متأخرا، لم يدم سوى 18 شهرا و19 يوما، لتتوقف بعد ذلك كل مظاهر الحياة الدستورية بفرض حالة الاستثناء، التي دامت 5 سنوات. وحتى بعد وضع دستور 1970 فإنه سرعان ما عادت البلاد إلى حالة الاستثناء دون أن يعلن رسميا عن ذلك. ليتم وضع دستور جديد سنة 1972، إلا أن العمل به لم ينطلق فعليا إلا سنة 1977. ت- بعد أن كانت بعض الأحزاب السياسية تؤكد في بداية الاستقلال على ضرورة انتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور، على اعتبار "أن قيمة المؤسسات مرتبطة بقيمة الطرق التي استعملت في إنشائها"، أصبحت، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، في ظل ميزان قوى مختل تأَكد أنه لصالح المؤسسة الملكية، تكتفي بمطالب في مضامين الدستور بغض النظر عن طريقة وضعه. ث- لقد أظهرت بعض الأحزاب السياسية تشبثا بمطلب الإصلاح الدستوري، لكن مع التسليم بأنه مجال ملكي خالص، فهي لا تضغط من أجل ذلك، وكل ما ترفعه من شعارات وتقوم به من مبادرات، لا يخرج عن دائرة الالتماس، الذي لا يكون في الغالب إلا بعد إذن ملكي. لتتحول جل الأحزاب السياسية بمناسبة دستور 2011 من وضعية الملتمس من المؤسسة الملكية إلى وضعية المنبهر بما تقدمه هذه الأخيرة. ج- من المفارقات أيضا، نجد التناقض بين الموقف الرافض للدستور وموقف المشاركة في الانتخابات المنظمة على أساسه. قد يكون من المستساغ التصويت بنعم على الدستور، ورفض المشاركة في الانتخابات التي تتم على أساسه، إذا لوحظ أن هناك اختلالات تنظيمية وعملية تفرغ الدستور من محتواه، لكن يبدو من غير المستساغ رفض الدستور ومقاطعة الاستفتاء عليه وبعد ذلك المشاركة في الانتخابات والمؤسسات المنظمة على أساسه. إن هذه المفارقة لم تكن استثناء بل تكررت أكثر من مرة في تاريخ المغرب المعاصر. ح- يلاحظ أيضا أن لحظات التعديل الدستوري أسهمت بشكل واضح في إضعاف الأحزاب السياسية بالمغرب، فمن جهة تصدعت بعض الأحزاب والتحالفات السياسية بسبب الموقف من الدستور، ومن جهة ثانية عرفت الأحزاب السياسية ضبطا دستوريا من مراجعة دستورية إلى أخرى. انطلاقا من هذه الملاحظات يتبين أن المشهد الحزبي لم يكن مؤهلا سنة 2011 لأي تدافع أو ضغط بخصوص التغيير الدستوري، لذلك لم يكن من المستغرب أن تقبل جل الأحزاب المغربية المبادرة الدستورية للملك، وأن تنخرط فيها وفق ما هو محدد ومرسوم. وإذا أضفنا إلى نخبوية حركة 20 فبراير وإذعان جل الأحزاب السياسية الانقسام السياسي للإسلاميين الذين هم الأكثر قوة، وتفشي ثقافة التبعية والانتظار في صفوف فئات عريضة من المجتمع، فإن النتيجة كانت هي استمرار تملك الملك لزمام المبادرة الدستورية.