بلا شك تابعتم الإرهاصات و السياقات التي صاحبت خروج قانون الأحزاب .. سنوات قليلة من الممارسة تدفع الملاحظ السياسي للوقوف على تداعيات هذا النص في المشهد الحزبي المغربي .. كباحث أكاديمي .. ما هو تعليقكم على ذلك؟ صدور هذا القانون كان له علاقة بالتحولات الداخلية التي كان لها أثر مباشر على إعادة تعريف المسألة الحزبية في المغرب ، هذا إذا لم نرد أن نقول ، إن الضغوطات و الإكراهات و انتقال السلطة هي من فرضت القيام و الدفع ببعض الإصلاحات دشنها المغرب في كافة المجالات . و في سياق إعادة هيكلة الحقل الحزبي صدر قانون الأحزاب رقم 36.04 الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2004 و هو سياق لا يخرج عن استراتيجية الحكم الشاملة و الرامية إلى إعادة البناء السياسي و المؤسساتي و التشريعي و الإداري „للعهد الجديد”، حيث عرف المشهد السياسي على امتداد هذه الفترة طرح و إقرار العديد من التشريعات و القوانين تهم أغلبها المجالات المرتبطة بالحياة السياسية و مجال الحريات كقانون الصحافة ، قانون الجمعيات، قانون الإرهاب، مدونة الانتخابات و مدونة الشغل ... إذا كان هذا هو السياق العام الذي صدر فيه قانون الأحزاب، فإن هذا الأخير و من خلال قراءة متواضعة لمضامينه، يتضح أنه جاء لتحديث المؤسسات و الهيئات السياسية و دمقرطتها و إصلاح المشهد السياسي الوطني و تأهيله و توفير إطار تشريعي خاص بالأحزاب ، الهدف منه العقلنة و الديمقراطية و إضفاء الشفافية على التسيير الحزبي و بناء الهياكل و التمويل ، و تجسيد رغبة الملك الراحل في تطوير الحقل السياسي عبر إقامة أقطاب قوية مؤهلة للتداول على تدبير الشأن العام . كما كان هناك طموح لوضع و تحديد القواعد و الضوابط العامة التي يخضع لها الحزب من حيث التعريف و الوظيفة و المهام و التأسيس انسجاما مع المنظومة الدستورية و القانونية الوطنية و القيم الكونية . سعى هذا القانون أيضا كما جاء في الديباجة إلى تمكين الأحزاب السياسية من إطار تشريعي يعيد للسياسة مصداقيتها و اعتبارها و تكريس دورها كمدرسة حقيقية للديمقراطية لإنتاج النخب الكفؤة و تخليق الحياة العامة و المواطنة الإيجابية و ابتكار الحلول و طرح المشاريع المجتمعية الناجعة و المبادرات الميدانية الفاعلة . يبدو أن قانون الأحزاب صدر في لحظة سياسية كانت تعيش فيها الأحزاب المغربية نوعا من الترهل التنظيمي.. و صراع مواقع ، و نقاشات حول المستجدات السياسية التي اخترقت البلاد .. ألا تعتقد أن هذه الوثيقة القانونية التي جاء لتؤطر السلوك الحزبي ، لم تطور أو تجدد في طرائق اشتغال الأحزاب السياسية..؟ إن الأحزاب السياسية الوطنية في جزء كبير منها، تميزت بمجموعة من الخصائص و الظواهر السلبية ارتبطت بها منذ نشأتها و رافقتها إلى نهاية القرن الماضي، بل صاحبتها حتى بداية هذا القرن، هذه الظواهر يمكن إجمالها في الآتي: 1- ظاهرة الانشقاقات 2- ظهور الأحزاب السياسية في المناسبات الانتخابية 3- شخصنة السلطة الحزبية 4- غياب الديمقراطية داخل الأحزاب 5- غياب فلسفة إيديولوجية واضحة المعالم 6- عدم امتلاك الأحزاب المغربية لبرامج واضحة 7- صعوبة تصنيف الأحزاب المغربية . و بدون الدخول في مناقشة كل ظاهرة على حدة، يمكن القول بصفة إجمالية أن معظم أحزابنا الوطنية تعاني قصورا و ضعفا في النقد الذاتي الصريح، و هو شرط الوجود، و أدب الحوار في تقريب وجهات النظر. إن جل أحزابنا تعاني انفصاما بين النظرية و التطبيق ، و لعله مرض تشكو منه معظم الأحزاب السياسية في العالم العربي كما عبر عن ذلك أحد الباحثين. هناك أحزاب كثيرة بشعارات متقاربة ، الصراع بينها و داخلها أفضى إلى الانقسام و التفتت و صناعة أجنحة أغلبها تفتقد لتوجهات واضحة . كذلك معظم أحزابنا تنضبط لمقولة الزعيم هو الحزب و الحزب هو الزعيم، و إذا مات الزعيم مات الحزب..! و بهذا تكون قوة الحزب من شخصية قائده أكثر مما نستقيها من قوة إيديولوجيته و توجهاته السياسية، و معظم رؤساء الأحزاب عندنا هم الذين أسسوا أحزابهم و وضعوا نظامها الأساسي و تربعوا على كرسي الرئاسة فيها، فلكي تكون لدينا حكومة قوية يجب أن تكون لدينا أحزاب قوية و هذا غير متوفر ، فأحزابنا تعاني من هشاشة تنظيمية و غياب ديمقراطية داخلية، أبهذه الأحزاب (و أنا هنا لا أعمم) يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي ؟ ألا تحتاج أحزابنا إلى إصلاح حقيقي و عميق لتصحيح أوضاعها ؟ و من سيتولى هذا الإصلاح ؟ هل قانون الأحزاب لوحده ..؟ إذن في تقديرك، فالمسألة غير مرتبطة فقط بالتأطير القانوني .. لابد أيضا استحضار و فرض إرادة سياسية حقيقية لدى مختلف الفاعلين .. بمن فيهم الفاعل المركزي في الحقل السياسي الوطني .؟ يجب التسليم بأن أي قانون ليس بمقدوره أن يعمل على تحديث المؤسسات و الهيئات السياسية و دمقرطتها و تأهيل المشهد الحزبي في غياب إرادة فعلية و حقيقية لدى الفاعلين الرئيسيين، و أعني بذلك الفاعل الحزبي. كما أن محور التأهيل و إصلاح الظاهرة الحزبية بالمغرب يبقى مركز الرحى فيه هو الإنسان ، فإذا كانت معظم أحزابنا لم تتمكن إلى حدود اليوم من خلق و إعداد مناضل حزبي مستقيم، قدوة في سلوكه و أخلاقه ، متماه مع عقيدته و يحترم الاختلاف، فإذا كانت جل هذه الأحزاب لم تنجح في هذه المهمة، فإن قانون الأحزاب سيبقى عاجزا عن التأهيل، و الدليل على ما نقوله، هو بالرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على أجرأته، لا زال المشهد السياسي تخترقه ظواهر و صور سلبية، وضعية مشوهة للإنتخابات و البرلمان، ترحال سياسي يضرب الالتزام و احترام الناخب و إرادته. على هذا الأساس نؤكد أن هذا القانون ضروري في حد ذاته ، لكنه غير كاف لتجاوز هذه الأعطاب. و استراتيجيات بعض الفاعلين يجب أن تقطع مع سياسة إضعاف الأحزاب و تفتيتها . فالمرحلة التي يعيشها المغرب يجب أن تكون فيها أحزاب قوية تجعل من الديمقراطية قضيتها الأولى ، ثم الارتباط ببرامج و أفكار جديدة و آليات قابلة للتنفيذ ، و ذلك حتى تكون السياسة الانتخابية مبنية على توجهات واضحة و مشاريع مضبوطة ، لا صراعا يبدو مشتعلا حول المقاعد و المواقع فقط ، و هو ما سيسمح بإعادة هيكلة المشهد الحزبي على أسس سليمة و عقلانية بشكل يفضي إلى إفراز أغلبية منسجمة و معارضة بناءة . بإلقاء نظرة متمعنة على المواد المتضمنة في هذا القانون ، لا نجد ضمنها حديثا صريحا عن ممارسة الحزب للسلطة ، بل المشاركة في تدبير الشؤون العامة فقط .. ألا يعتبر هذا نوعا من الفرملة الأكيدة للوظائف المعروفة في تعريف الحزب السياسي، كما هو متواضع عليه في الأنظمة الديمقراطية العريقة..؟ صحيح، فالمادة 1 عرفت الحزب السياسي بكونه „تنظيم دائم يتمتع بالشخصية المعنوية و يؤسس بمقتضى اتفاق بين أشخاص طبيعيين، يتمتعون بحقوقهم المدنية و السياسية و يتقاسمون نفس المبادئ قصد المشاركة في تدبير الشؤون العمومية بطرق ديمقراطية و لغاية غير توزيع الأرباح” فهذا التصريف لا يستعمل عبارة ممارسة السلطة التي تميز الأحزاب السياسية عن مجموعات الضغط التي تسعى فقط للتأثير على السلطة بما يحقق مصالحها .. و يعوضها بصيغة „المشاركة في تدبير الشؤون العمومية” . و هذا الأمر أراد من خلاله المشرع أن يكون منسجما مع طبيعة النظام السياسي المغربي ، حيث الموقع المتميز للمؤسسة الملكية التي تعتبر المالك الفعلي و الممارس الواقعي للسلطة ، كما أن هامش الفعل السياسي للأحزاب بما فيها المشكلة للحكومة يظل ضيقا ، فرئيس الحكومة و إن كان ممثلا من الناحية المبدئية لأحزاب الأغلبية ، لا يتولى رئاسة المجلس الوزاري الذي يبقى من اختصاص الملك طبقا للفصل 25 من الدستور. و دور الأحزاب في البرلمان يظل هو الآخر مقيدا. نتيجة تشديد إجراءات العقلنة البرلمانية على صلاحيات البرلمان الرقابية و التشريعية، إذ لا يمكن مثلا لمجلس النواب إحداث لجان نيابية للمراقبة ، كما لا يمكن للنواب استجواب الوزير الأول و الوزراء، و ليس من حق مجلس النواب، في الميدان التشريعي، إصدار العفو الشامل ... بناء على هذا نفهم لماذا تجنب المشرع عبارة „ممارسة السلطة” و استعاض عنها بصيغة „المشاركة في تدبير الشؤون العامة” لم يستطع هذا القانون رغم وجاهة مضامينه و نبل مقاصده .. أن يواجه أعطاب و نواقص الحياة السياسية و الحزبية في بلادنا ..؟ .. يا أخي .. البلاد عاشت منذ الاستقلال سنوات من التشنجات و الصراع حول طبيعة النظام السياسي ، و تعطلت التنمية طيلة هذه الفترة، ذبحت الديمقراطية أثناء هذه التوترات . المرحلة الانتقالية التي نعيشها لابد لها من تراكمات ، و من صبر و حكمة للوصول إلى ما نصبو إليه .. كأكاديميين و فاعلين حزبيين و سياسيين . و مع ذلك فإن المغرب يتحرك و يتغير. أستاذ القانون الدستوري بكلية متعددة التخصصات بآسفي