من أوائل الخطاب النبوي المكي في المرحلة السرية يوم لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا حر وعبد؛ سأله عمرو بن عَبَسَة: ((ما الإسلام.؟ فقال صلى الله عليه وسلم: طِيبُ الْكَلاَمِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ)) رواه أحمد.فكان إطعام الطعام حاضراً في أول خطابات الدعوة المكية، ولما هاجر إلى المدينة كان أول خطاب له صلى الله عليه وسلم فيها فيه ذكر الطعام؛ إذ قال في مقدمه للمدينة: ((يا أَيُّهَا الناس أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بالليل وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)) رواه الدارمي. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ على من عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ)) متفق عليه. وفي أوصاف الأبرار، وذكر أعمالهم التي استحقوا بها الجنة؛ كان من أعمالهم ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]. كما كان من أوصاف أهل النار، وذكر أفعالهم التي أوجبت لهم النار أنهم حبسوا الطعام عن المحتاجين، ولم يدعوا غيرهم للإطعام ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ ﴾ [المدَّثر: 42-44] وفي آيتين أخريين ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ﴾ [الحاقَّة: 34]. من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها أولت معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدت كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتبت عليه الأجور العظام. وسبب ذلك أن الطعام ضرورة لا انفكاك للإنسان عنها، ولا يصبر على فقدها، واختلال هذا الجانب يؤدي إلى الاضطراب والفتن وذهاب الأمن، والتاريخ القديم والمعاصر يدلان على ذلك؛ فأكثر الثورات على مر التاريخ هي ثورات البطالة والفقر والجوع.. هي ثورات الخبز. إن تشارك ملاك الأموال مع صناع القرار يؤدي إلى الفساد المالي والإداري، واستحواذ فئات قليلة على ثروات طائلة، فتنتشر البطالة، ويعقبها الفقر ثم الجوع، وإذا بلغ الناس مرحلة الجوع بدت بوادر الثورة فيهم، يغذيها مخزون هائل من السخط والغضب تراكم مع الأيام، وازداد مع زيادة الفساد حتى ينفجر الناس فيختل الأمن، ويخسر الجميع حكاماً ومحكومين..أغنياء وفقراء.. ولذا فإن من الكياسة وحسن السياسة دعم السلع الضرورية للناس لتكون في متناول الجميع، وتقليص الفارق بين الفقراء والأغنياء، بدعم الفقراء والحد من تسلط الأغنياء، وكلما كانت الطبقة المتوسطة هي الأكثر كان ذلك أدعى للأمن والاستقرار، وكلما تلاشت الطبقة المتوسطة لصالح طبقتي الفقراء والأغنياء اقترب الناس من حمى الثورة والفوضى، وإذا وقع ذلك فلن ينفع ندم نادم، ولن يجدي إصلاح مصلح، وفي أخبار الماضي وأحداث الحاضر عبر للمعتبرين، وآيات للمتعظين، وفي القرآن العظيم ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ ﴾ [القصص: 26] وما أقل الأمانة وأكثر الخيانة في هذا الزمن.