بقلم : عبد الحق الريكي »خلق إرادة جماعية جديدة « أنطونيو ݣرامشي منذ مدة طويلة، وأنا أفكر في الكتابة حول دور الإسلاميين داخل الحقل السياسي والمجتمعي في مغربنا اليوم. ليس من أجل مواجهتهم أو إضفاء نوع من الشرعية على عملهم، بل من أجل محاولة فهم الظاهرة من جهة ومقاربة مدى استعدادهم لقبول الآخر وقبول الآخرين لهم وكذا التحولات التي أفرزتها الممارسة السياسية للمرحلة الأخيرة وموقف العديد من الفاعلين داخل النظام والأحزاب الوطنية من هذا الوافد الجديد الإسلامي، القوي، المنظم والذكي. حين أتحدث عن الإسلاميين، أعني ثلاثة جماعات مؤثرة في المشهد السياسي رغم تموقعاتها المختلفة وتباين مواقفها من النظام السياسي والمجتمع. هناك أولا حزب العدالة والتنمية، الذراع السياسي لحركة الإصلاح والتوحيد، الذي اختار منذ زمن بعيد الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة والذي استطاع في ظرف وجيز احتلال الصف الأول في آخر انتخابات برلمانية مما بوأه ترأس الحكومة والمشاركة عبر كوادره في تسيير العديد من الوزارات والإدارات. حزب براغماتي، ذات رؤيا واضحة على المدى القصير، المتوسط والبعيد، ذو قيادة جماعية وتقسيم محكم للأدوار... مفاجأة هذا الزمان... ثانيا، جماعة العدل والإحسان، التنظيم الذي حافظ على قوته وإشعاعه رغم كل المضايقات التي ما فتئ يتعرض لها والذي حسم بطريقة مثلى أحلك مرحلة انتقالية على إثر وفاة مرشده العام – رحمه الله – "الشيخ عبدالسلام ياسين". هذه الجماعة التي تعد حسب تقارير محلية وأجنبية أقوى تنظيم دعوي وحزبي على الساحة المغربية، اختارت الاستمرار في معارضة النظام ومعارضة إخوانه الإسلاميين المشاركين في الحكومة الحالية... في انتظار الآتي... القوة الإسلامية الثالثة، الموزعة بين العديد من التيارات، هي الحركة السلفية الجهادية، التي بدأت تحتل رويدا رويدا المشهد السياسي والنقاش الحقوقي والمراجعات الفكرية والتي من أبرز قادتها، الذين يتقنون فن "الإشهار" و"الماركوتينغ" السياسي بذكاء كبير، هم "أبو حفص محمد عبدالوهاب رفيقي" و"الشيخ عمر الحدوشي الورياغلي" و"الشيخ حسن الكتاني". هذا التيار يمكن أن يصبح قوة فاعلة على غرار السلفيين المصريين – حزب النور - الذين قرروا المشاركة المباشرة في العمل السياسي الشرعي... هناك أيضا تيارات وزعامات أخرى لها كاريزما وحضور وتأثير في الساحة إن على مستوى التأطير الفكري ك"المصطفى المعتصم" و"محمد المرواني" أو على المستوى الميداني من خلال دور القرآن ل"الشيخ محمد المغراوي" أو الحضور الإعلامي ل"الشيخ محمد النهاري"...دون إغفال "الشيخ محمد الفيزازي" الذي يبقى حاضرا كداعية وكسياسي وكرجل يجيد الخرجات الإعلامية... وقيادات أخرى كثيرة تقبع في السجون... هناك الآخرون الذين ليس لهم حضور ظاهر للعيان اليوم والذين يمكن لهم أن يلعبوا دورا ما في لحظة ما... إما لصالح النظام أو لصالح التنظيمات السياسية والدعوية الإسلامية... وأقصد على سبيل المثال الزوايا والطرق الصوفية وأقواهم حضورا الطريقة القادرية البودشيشية... إني من الذين يعتبرون أن التيار الإسلامي بمختلف روافده يشكل الأغلبية العددية والسوسيولوجية والفكرية داخل الكتلة الناخبة والمجتمعية بالمغرب وعلى صعيد الجالية بالخارج وأن هذا الأمر سيستمر لفترة طويلة، إن لم تحدث وقائع كبرى في المجتمع وفي المحيط الدولي تغير موازين القوى جذريا لصالح قوى فكرية واجتماعية أخرى. هذا التأكيد ليس مطلق بل نسبي بمعنى أنني لا أزعم أن التيارات الإسلامية حولها إجماع الأمة المغربية بل هي أغلبية اليوم دون أن تكون مهيمنة وأن هناك تأثير لأطراف مجتمعية عديدة داخل المجتمع المغربي تتبنى أفكارا مختلفة ومتنوعة متناقضة أحيانا مع التيارات الإسلامية... هكذا نجد استمرار وتواجد للأفكار الليبرالية والاشتراكية والماركسية والعلمانية... كما نجد مقاومة فئات عديدة للتيار الإسلامي من حركة نسائية وأمازيغية وشبابية وإدارية واقتصادية وفنية إبداعية... لكن ما ينقص المعسكر "الحداثي" هي الرؤيا والبرنامج، الشعارات والكوادر... والأهم المصداقية... هذا التنوع والغنى والاختلاف حتى التناقض أحيانا والتقاطع أحيانا أخرى يشكل بالنسبة لي فرصة تاريخية لبناء النهضة المغربية إن تكاثفت جهود فاعلين رئيسيين من ملكية وإسلامي محصن واشتراكي مستقل، هذا الموضوع أتمنى أن تسمح لي الظروف بكتابة مقال حوله في فرصة أخرى. أعود إلى موضوعي الأصل، وهو حواري مع ماركسي مغربي حول التحالف مع الإسلاميين. لكن قبل ذلك علي أن أشير إلى نقط مهمة لا يجب أن تمر دون الإمعان فيها نظرا لكوننا منغمسين في القضايا اليومية والنقاشات البوليميكية وقليلا ما نجد الوقت للتفكير العميق حول قضايا أساسية. السؤال أولا، وهو بسيط: هل تغير الإسلاميون أم لا، مقارنة مع مواقفهم وأدبياتهم واستراتجياتهم في الثمانينات من القرن الماضي إلى يومنا هذا؟ جوابي: بالقطع نعم. وهل تغيرت نظرة الحاكمين والأحزاب الوطنية الليبرالية والاشتراكية والماركسية للتيارات الإسلامية؟ الجواب أيضا: نعم. المشكل الكبير هو كون التحليل الصحفي والأكاديمي لم يواكب هذه التغييرات ولم يتعمق فيها حتى تتراكم أدبيات وإحصائيات وأركيولوجيات لهذا التطور "العميق" في التربة السياسية والاجتماعية والفكرية بالمغرب. لقد قبل النظام السياسي بمشاركة التيار الإسلامي المعتدل – حزب العدالة والتنمية – في العملية الانتخابية الديمقراطية منذ أمد بعيد مما بوأته مواقع سياسية داخل البرلمان واليوم داخل الحكومة وأجهزة القرار. هل النظام قَبِلَ بهذا الوافد الجديد مرغما أم براغماتيا، هذا ما ستوضحه لنا الأيام القادمة وخاصة ما وقع داخل الدائرة المصغرة لقلب النظام في ذلك الأسبوع "الفريد" الذي عرف سياسيا بانتخابات 25 نونبر 2011 والتي مكنت حزب إسلامي مغربي لأول مرة في تاريخ المغرب المستقل من تصدر عدد الأصوات وعدد المقاعد... والتي كانت مفاجئة لقادته أولا ولكل المواطنين والفاعلين ما عدا القليلين الذين يعلمون ما لا نعلم. هذا تغيير كبير ما زال يحتاج إلى استقراء ودراسة وتحليل وجمع المعطيات. الظاهرة الثانية هي "الاجتهادات" العميقة داخل الصف الإسلامي بمختلف تلاوينه والتي لم تجد أيضا صدى وتتبع وتحليل من طرف الصحافة الوطنية والمثقفين ولم تنل حظها في المناظرات والندوات. من ضمن هذه الاجتهادات، أذكر على سبيل المثال اجتهادات ومقالات وتصريحات "الدكتور أحمد الريسوني"، حول ضرورة «الوسطية» و«الاجتهاد الديني» و«التحديث الدنيوي»، وهما قضايا كبرى، قديمة وحديثة، تشكل جوهر الصراع العالمي والمحلي اليوم، بمعنى أي إسلام نريد لهذا العصر يحافظ على كينونته ويمكنه من التعايش والاستمرار ضمن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية العالمية المعروفة بالعولمة، التي لا مجال لمقارنتها مع أوضاع نزول الرسالة المحمدية وما تلاها من نهوض ومن بعد انحطاط ما زلنا منغمسين فيه. إنني لا أتحدث عن المواقف السياسية للعالم المقاصدي "الدكتور أحمد الريسوني" التي هي نتاج صراع سياسي ولحظة وميزان قوى على شاكلة موقفه من الأمازيغية و"الهوتو والتوتسي" التي أسالت الكثير من المداد... لا، أتحدث عن عمق الأشياء وجوهرها، لا الظواهر... وسأعطي مثالا واحدا بقي عالقا في ذهني وهو ما صرح به مؤخرا بقوله »أنه لا ينبغي أن نمنع التبشير المسيحي ما دامت الدول المسيحية تسمح للمسلمين بممارسة التبشير الإسلامي... «. هذا الكلام لم يكن ممكنا الجهر به فيما مضى لأنه كان سيقلب الدنيا على "الفقيه أحمد الريسوني" من داخل صفوف أتباعه. إنه موقف جريء لم يستطع العلمانيون البوح به مخافة من شيطنتهم... ومع الأسف الشديد لم يلقى من طرف الصحافة والمثقفين اهتماما ولا تحليلا ولا نقدا... وعلى شاكلة هذه المواقف هناك الكثير الصادرة عن أهم منظر لحركة الإصلاح والتوحيد. هناك اجتهادات أخرى ما زالت جارية إلى يومنا هذا وتتعلق بالتيار السلفي الجهادي يصعب التكهن بنتائجها وتأثيراتها داخل الجسم الإسلامي وعلى الفعل السياسي لهذا التيار داخل المشهد الحزبي الوطني... أتمنى أن يستمر بعض الشباب من تنويرنا في هذا الجانب أذكر منهم على سبيل المثال "ادريس الكنبوري" و"منتصر حمادة" كصحفيين ومفكرين "محايدين"... و"بلال التليدي" الإعلامي المغربي الإسلامي الغزير الكتابة والذي يهمه كثيرا »الاقتراب والتفكير في طبيعة اشتغال العقل السياسي الحركي الإسلامي«... دون إغفال المفكر والسياسي اللامع "الأستاذ محمد الساسي" ذو التوجه الاشتراكي وقراءاته المستمرة للمشهد السياسي الوطني ول"حكم الإسلاميين الآن" وهو واحد من العديد من المواضيع التي تحدث فيها عن الإسلاميين ... وآخرون... سيكون مفيدا أن يدلى ويساهم شباب التيار السلفي علنية في هذا النقاش حتى تعم الفائدة... هناك اجتهاد وتحول واقعي ميداني جاء هذه المرة من داخل صفوف جماعة العدل والإحسان، الذي حسب المتتبعين يعرف صراعا خفيا داخل صفوفه ما بين الشباب والكوادر الطموحة لمساهمة ومشاركة أكثر في الفعل السياسي الميداني وما بين الماهدون الذين أسسوا لفكر الجماعة وعضدوا وقوا صفوفها وجعلوها تحتل اليوم موقعا محترما داخل المشهد السياسي. إن أكبر تغيير عرفته الجماعة هو خروجها في مسيرات 20 فبراير مع أطياف من مختلف فئات الشعب ولكن بوجوه قيادية تنتمي أغلبها للتيار الاشتراكي العلماني والماركسي. مع الأسف الشديد لم يجد هذا الموقف والتغيير الهام في فكر وممارسة جماعة العدل والإحسان أية اجتهادات عميقة سوى تحاليل من قبيل الصراعات ما بين قياديين من الجماعة ومن النهج الديمقراطي والجماعة تشارك أو تقاطع 20 فبراير، دون أن يتم التمحيص في موقف الجماعة، هل قرارها استراتيجي أم تكتيكي أم ناتج عن ضغط الكوادر والشباب داخل الجماعة... بمعنى آخر هل هذا الموقف الفريد للجماعة بالخروج إلى الشارع للاحتجاج مع قوى أخرى ليست بالإسلامية هو بداية منعطف جديد لأقوى تنظيم إسلامي معارض للنظام وللحكومة يومنا هذا... هذه اجتهادات داخل صفوف الإسلاميين المغاربة... وهناك أيضا اجتهادات تأتينا من تيارات كانت تنعت وما زالت الإسلاميين بالتيار "الظلامي" وتطرح أفكار جديرة بالاهتمام والنقاش والتحليل والنقد، ألا وهي التحالف مع التيار الإسلامي المعارض – بالتحديد جماعة العدل والإحسان – في مواجهة "المخزن" أي النظام. هذا هو الموقف الذي وددت مناقشته في هذا المقال والذي عبر عنه بوضوح القائد السابق لتيار "النهج الديمقراطي" المتشبث بفكر ومنهج الحركة الماركسية اللينينية الماوية. إنه "عبدالله الحريف" المنتمي سابقا لحركة إلى الأمام والمعتقل السياسي لسنوات عديدة، المهندس الذي استطاع بعد فترة السجن الأليمة التي قضت على الحركة الماركسية اللينينية المغربية من إعادة بناء تنظيم جديد ويؤسس حركة جديدة لها أتباع فاعلين في قطاعات نقابية وجمعوية وطلابية. لقد ترأس المهندس "عبدالله الحريف" تنظيم النهج الديمقراطي لفترة طويلة قبل أن يسلم رئاستها لمهندس آخر ومعتقل سياسي سابق هو "مصطفى البراهمة"، خريج المدرسة المحمدية للمهندسين، الناشط في صفوف الطلبة القاعديين وعضو المكتب التنفيذي لسنوات وما زال للمركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بجانب قائدها التاريخي "محمد نوبير الأموي". أعتقد أن تخلي "عبدالله الحريف" عن القيادة المباشرة للنهج الديمقراطي مكنه من مساحة كبيرة للتفكير وطرح أفكار واجتهادات جديدة كان من الصعب عليه الإدلاء بها وهو المسؤول الأول لحركة النهج الديمقراطي. أعتبر هذا الموقف – بعد النظر عن سياقه ودوافعه وأهدافه السياسية المرحلية – اجتهاد وتغيير جدري في نمط تفكير التيار الاشتراكي الديمقراطي والماركسي من الإسلاميين وموقعهم وطرق التعامل معهم مرحليا واستراتيجيا. لقد كان لمقال موجز، هو في الحقيقة رؤوس أقلام لمداخلة ألقاها "عبدالله الحريف" في الدارالبيضاء يوم 16 مارس 2013 حول موضوع "موت السياسة"، صدى مهم. ابتداءً برفاق "عبدالله الحريف" الذين باغتهم - حسب قراءتي الشخصية المتواضعة – موقف قائدهم السابق والمتمثل في التحالف مع جماعة العدل والإحسان لمواجهة "المخزن"، العدو المشترك للنهج وللجماعة. اسمحوا لي أن أقتطف من المقال الذي يعنينا هذه الجمل والأفكار حيث يقول "عبدالله الحريف": »هل الصراع بين "حداثيين" و"ظلاميين" أم هو صراع طبقي؟ هل يجب أن نواجه في نفس الآن عدوا واضحا وسائدا (المخزن) وعدوا كامنا (يقصد العدل والإحسان)، هذا التوجه يحكم علينا بالعجز وبالتالي بتكريس الوضع القائم« وصار بعيدا في تحليله وجرأته حيث أكد بلا جدال »أن التغيير ستقوم به القوى المناهضة للمخزن ومن ضمنها "العدل والإحسان"« مذكرا ومنبها بشيء جوهري هو »أن السياسة لا تركز على جراح الماضي، بل على المصلحة الأكبر«... كلام لو كان صادرا عن أحد السياسيين البارزين والمعروفين إعلاميا ولو بصغة معتدلة ومنقحة لكان صداه وصل إلى كل بقاع المعمور... لكان زلزالا حقيقيا... رغم ذلك أعتبر شخصيا أن الموقف الشجاع والاجتهاد الغير مسبوق لهذا المعارض للنظام وللحكومة يستحق قراءة متأنية وتحليل لما قبله ولما بعده لأنه قبل كل شيء تعبير عن تحولات عميقة في فكر وممارسة جزء من النخبة السياسية والفكرية المغربية. إن هذا الاجتهاد لا يقل قيمة من اجتهادات الإسلاميين في التعامل مع الواقع والمتغيرات. قلت أن الدهشة ظهرت في صفوف معسكر "النهج الديمقراطي" الذي قام بعض مفكريه ومناضليه بمحاولة إعادة قراءة لموقف "عبدالله الحريف". هكذا نجد أن "عزيز عقاوي" في مقال حول الموضوع ذكر في بدايته بمسار ونضالية وخصال "عبدالله الحريف" منعرجا حول موقف هذا الأخير من التحالف مع جماعة العدل والإحسان في مواجهة ما سماه "الدولة" عوض الكلمة التي استعملها "عبدالله الحريف" وهي "المخزن"، مذكرا قراء مقاله أن جوهر التحليل الماركسي يكمن في »كيف ومتى وماذا« ليقر في الأخير أن "الحريف" »لم يدع إلى التحالف مع العدل والإحسان« بل دعا إلى »التفكير في كيفية التعامل مع هذه القوة (يعني العدل والإحسان)« وعدم وضع »الرفيق (يعني الحريف) في قفص الاتهام لأنه تجرأ على التفكير بصوت عال!! «... جميل هذا الذي يقع ولو من داخل تنظيم سياسي صغير... والأجمل هو ما ختم به "عزيز عقاوي" مقاله مطالبا "الرفيقات والرفاق" بالاجتهاد على المستوى النظري واعدا إياهم أنه »من أصاب له تحيتان ومن أخطأ له تحية«... على شاكلة »من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد«، مما يدل في التحليل النفسي أن شعارات ومقولات الإسلاميين حاضرة وضاغطة على تفكير النخبة، وما أدل على ذلك هو قبول استعمال على نطاق واسع مفردة "تنزيل" حين الحديث عن الدستور وكيف تدخل الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، "الأستاذ ادريس لشكر" في ندوة "مركز الشروق" المعنونة ب»خلوة علمية حول تنزيل الدستور والقوانين«، أمام رئيس الحكومة وقيادات كل الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان ومفكرين، ليوضح أنه لا يقبل استعمال مصطلح "تنزيل الدستور" لأنه مصطلح أصولي المرجعية وأنه المطلوب هو "تفعيل الدستور لا تنزيله"... ورغم ذلك فالأغلبية تنطقها تنزيلا... هناك أشياء كثيرة تتغير في محيطنا وبداخلنا لا تترك لنا مشاغل اليومي الانتباه لها وتحليلها والتعمق فيها لفهمها وضبطها ومعرفة تأثيراتها على الواقع... إننا لا نرى في الغالب إلا الوجه الظاهر من الجليد ونترك الجزء الخفي الباطن والأساس، وما زاد في إذكاء حواسي وعقلي للنبش حسب إمكانياتي في هذا الموضوع هو استطلاع الرأي الذي طرحه أحد المواقع الإلكترونية عبر سؤال وجيه لزوار الموقع: »هل على اليسار الديمقراطي و"العدل والإحسان" أن يتحاورا لإيجاد تصور مشترك للديمقراطية؟« ... تمعنوا معي الصيغة التي طرح بها السؤال، إذ نجد أن "العدل والإحسان" ذكر بالإسم وهو ما يدل على الحضور القوي لهذا التنظيم، لكن الأهم هو تعويض "النهج الديمقراطي" ب"اليسار الديمقراطي" وهو يدل على أن التحالف مع العدليين يتجاوز التنظيم الماركسي اللينيني ل"النهج الديمقراطي" إلى قوى يسارية واشتراكية أخرى، أما جوهر الموضوع فتم اختزاله في "التحاور" من أجل قضية أعم من مواجهة "المخزن" بل »إيجاد تصور مشترك« حول ماذا... حول موضوع الساعة في المغرب... الديمقراطية... انتبهوا معي أيضا إلى نتائج هذا الاستطلاع، الذي سيفاجئ العديد من الفاعلين، بحيث نجد أن الموقف الغالب لأكثر من 4.000 مشارك هو نعم للحوار ما بين الإسلاميين واليسار الديمقراطي بنتيجة تفوق 70 في المائة وهي جد مرتفعة في علم الاستقراءات. يبقى السؤال الآخر هل رغبة العمل المشترك ما بين الإسلاميين والاشتراكيين آتية من صفوف الإسلاميين أم اليساريين بمعنى آخر كان سيكون هذا الاستطلاع شاملا ومانعا لو تم تصنيف المصوتين حسب توجهاتهم الفكرية والسياسية كما هو الحال في استطلاعات الرأي التي تعهد إلى معاهد متخصصة بأوربا... وأظن أن مراكز القرار الأمنية والاستراتجية المغربية لها من الإمكانيات والتجربة للتوفر على معطيات مدققة حول الاتجاهات العامة للشعب وفئاته الإنتاجية المختلفة ونخبته السياسية... سيقول قائل، وأين الحوار مع الماركسي المغربي حول التحالف مع الإسلاميين، سأجيب أن إعادة قراءة ما سلف سيحيل القارئ على جزء من تفكيري ومحاورتي لفكرة "عبدالله الحريف". أزيد في التوضيح لأؤكد على بعض القضايا المهمة: - وأنا أحاور "عبدالله الحريف" مع نفسي قبل تسطير هذا المقال، وجدتني أحاوره بأدوات ظننت أنها دُفِنَت إلى الأبد مع تغير موقفي السياسي من ثوري إلى إصلاحي ديمقراطي، وإذا بي أسترجع مصطلحات ماركسية تتعلق بخلافات داخل التيار الواحد، إذ "الحريف" ذا توجه ماوي وأنا كنت ذا توجه تروتسكي – جناح "لامبير" وليس جناح "إرنست مانديل"-، الذي كانت إحدى سماته الرئيسية التواجد "entrisme" حيث توجد الجماهير والذوبان في تنظيماتها ولو كانت "رجعية" و"إصلاحية"، هكذا أجد أن منهجية الحريف تقترب من التحليل التروتسكي بالعمل داخل الإطارات الجماهيرية وخاصة فكرة الجبهة الموحدة "front unique" والذي سبق أن اقترحته "لويزة حنون" زعيمة حزب العمال التروتسكي بالجزائر...والتي طالما دافعت عن عباس مدني وعلي بلحاج زعيمي جبهة الإنقاد الجزائرية المحظورة... فقلت مع نفسي أن "الماويين" يقتربون من "التروتسكيين"... ووجدت نفسي أقول وما دخلي أنا اليوم في التروتسكيين والماويين والماركسيين؟؟.. - أثار موقف "عبدالله الحريف" إعجابي وكذا شجاعته في البوح بما يخالج صدره وتفكيره وأنا الذي لا سابق معرفة لي به، إذ لم ألتقي به ولم أناقشه أبدا، سوى سلام وتحية يوما حين التقيته صدفة في الشارع العام هو لا يعرفني وأنا أعرفه لكون صوره تؤثث صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية، أما خليفته على رأس "النهج الديمقراطي" فأعرفه أيام النضال القاعدي الطلابي وخلال عملنا داخل نفس المركزية العمالية، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل... قلت آثار إعجابي موقف "الحريف" رغم اختلافي مع فكرة أخرى مهمة وأساسية جاءت ضمن نفس مقاله وتتعلق بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية... - يقول "عبدالله الحريف" ضمن تحليله للواقع السياسي المغربي ودور الأحزاب والتنظيمات السياسية أن »من الخطأ الرهان على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية... لبناء الحزب الاشتراكي الكبير« وأنه خاطئ من له »الوهم بتغيير الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من الداخل« وأن الحل هو »الانسحاب منه«. وأظن إن لم تخني الذاكرة أن الأستاذ "محمد الساسي" عبر عن نفس الفكرة بصيغة أخرى. إن موقفي على نقيض من هذا إذ ما زلت أعتبر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إطارا تاريخيا خُلِقَ في إطار الصراع المجتمعي والسياسي ولم يستنفذ مهامه بعد، بمعنى أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يمكن أن يلعب أدوارا مهمة لصالح قضية الديمقراطية، رغم كوني لم أعد منظما في صفوفه لما يزيد عن عشر سنوات بعد أن انخرطت في صفوفه سنة 1982 بتوجيه من فرع التنظيم التروتسكي المغربي وبقرار أممي وتزكية خاصة للقائد الاتحادي "الأستاذ محمد اليازغي"، رجل التنظيم القوي في ذاك الزمان... لكن مع الوقت اندثر التنظيم التروتسكي المغربي وتَغَيَّرْتُ أنا بفعل الواقع واتجهت نحو المواقف الإصلاحية وابتعدت عن الثورة المستمرة...ما لا يعرفه العديد من المغاربة هو كون "ليونيل جوسبان" القائد الاشتراكي والوزير الأول الفرنسي السابق و"جون ليك ميلينشون" الوزير الاشتراكي السابق وزعيم "جبهة اليسار" و"جون كريستوف كمبادليس" المقرب من "دومنيك ستراوس كان" وقادة اشتراكيين فرنسيين عديدين كانوا ينتمون لنفس التيار التروتسكي – جناح لامبير - والتحقوا بالحزب الاشتراكي الفرنسي في إطار "التقية" التروتسكية... وتلك حكاية أخرى... - إنني اليوم غير منخرط في تنظيم سياسي، مما يتيح لي هامشا من التفكير والحوار دون أن أتقيد ببرنامج حزبي أو مواقف سياسية، ويسمح لي بمناقشة مواقف الإسلامي والسلفي والاشتراكي والماركسي بحرية أكثر... هذا لا يعني أنني لا أتموقع داخل المشهد السياسي وليست لي مواقف... مثلا أنا من المتحمسين لفكرة "الكتلة التاريخية" للمفكر الماركسي الإيطالي "أنطونيو ݣرامشي" والتي حَيَنَّها على الطريقة المغربية أحد أعلام الوطن "محمد عابد الجابري" ودافع عنها السياسي المحنك "الفقيه البصري" – رحمهم الله - في آخر أيامه، كما فهمت حماسة "عبد الإله ابن كيران" وطلبه من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الالتحاق بأغلبيته من أجل "تسخين كتفيه..". كما أنني من الداعين للحوار ما بين الإسلامين واليساريين والليبرالين... كما أدافع عن فكرة التدافع من أجل إنهاء الصراع حول "الإسلام السياسي" موقعه ودوره وأعتقد أن "التجديد الديني" مطالب بإلحاح وأن المؤهلين للقيام به وتقديمه لعامة الناس حتى يتم قبوله هم الإسلاميين بمختلف اتجاهاتهم... كما أعتقد أن "ضغط" و"صمود" اليساريين والعلمانيين من شأنه المساهمة بطريقة ما في هذا التجديد وجعل القيم الكونية محط نقاش داخل الأوساط الإسلامية... إنها أفكار وآراء ومواقف تحتاج للمزيد من البحث والتمحيص وهو ما سأنكب عليه – إن شاء الله – في الأيام المقبلة وذلك بتناول موضوع الكتلة التاريخية، محورية دور الملكية وتطورها، الإسلامي المحصن والاشتراكي المستقل، مع طرح فكرة إعادة النظر في التحالفات داخل الأغلبية والمعارضة الحكومية من خلال فكرة التحاق حزب الاستقلال بصف المعارضة مع حزب الاتحاد الاشتراكي وتقوية أغلبية "ابن كيران" بأحزاب قريبة من القصر حتى تعم الثقة وتتمكن هذه الحكومة الملتحية بالقيام بجزء من مهامها وتمكين "الكتلة الديمقراطية" في صيغتها الجديدة من استرجاع نَفَسِها وأطرها وشعبيتها والاستعداد لخلق توازنات مجتمعية وسياسية... لكن هاجسي الكبير هو كيف السبيل لنهضة مغربية حضارية واقتصادية قوية تجعل من بلدنا قوة إقليمية فاعلة ووازنة...ينخرط في إنجاحها كل مكون من أبناء الوطن بمختلف مشاربهم وانطلاقا من أدوارهم المختلفة والمتناقضة... لخلق كما قال أنطونيو ݣرامشي "إرادة جماعية جديدة"... ولكل حادث حديث... عبدالحق الريكي إطار بنكي الرباط، 27 مارس 2013