صباحا .. حرص على أن يكون أول الواصلين إلى مقر المصلحة و لسان حاله يردد مبدأ تشربه من الصغر "إلي بغا يقضي غرضه .. يفيق بكري " تناول بضع لقيمات على عجل و خرج .. رتب بقية ملابسه و أفكاره و أوراقه في الطريق التي كانت خطواته تلتهمها كجائع لم يصدق أن تصل إلى يديه كسرة خبز صغيرة ،فانقض عليها يزدردها بنهم.. طيلة الطريق ظل يسابق من يمشون أمامه و كلما رأى احدهم مسرعا في نفس طريقه كان يردد بتحسر واضح..-"أويلي ..يا ويلي .. تعطلت ..سبقني".و كان يزيد من نهمه في التهام الطريق التي بدأت تبدو أطول على غير عادتها.وصل إلى باب المصلحة أخيرا،ووقف يلتقط أنفاسه تلفت حوله تأكد من انه من أوائل الواصلين فتنفس الصعداء –"الحمد لله ..لاباس بعدا". أعاد ترتيب نفسه ،و راجع أوراقه للمرة العاشرة ربما هذا الصباح كل شيء على ما يرام وقف على أهبة الاستعداد مقابل باب المصلحة الموصد وقف كجندي ينتظر أمرا معينا لينفذه.. إلى جانبه وقف شخص آخر فهتف – "السلامو عليكم".. لم يجبه الأخر بل ظل يلتقط أنفاسه و هو يراجع ملفه فحول نظره عنه إلى بقية المتقاطرين على المكان صاروا كالذباب الآن لكن لا يهم وصلت مع الأوائل خاطب نفسه .. بعد ساعة أو بضع الساعة استيقظ المكان من سباته و تحول رويدا رويدا إلى فضاء يمتلئ اصواتا و بشرا ..بدأ الموظفون في التوافد على المصلحة تسمر مع الكثيرين أمام الباب مباشرة و كلما مر به موظف كان يهمس: - "السلامو عليكم.." لكن لم يكن يتلقى أي جواب .. ما بهم هؤلاء البشر السلام ديال الله ...دلف مع أول الداخلين إلى المصلحة و ووقف بجانب الموظف الذي ظل للحظات يعالج بابا مهترئا بمفتاحه و هو يصر أسنانه غيظا صامتا و ردد – "السلامو.. عليكم" نفس الرد الذي طفق يتلقاه منذ الصباح .. صمت بحجم المسافات التي صارت تفصل بين هؤلاء البشر. صمت فتحه ذاك الصباح على الكثير من الوساوس .. ما إن فتح الباب حتى كان بملفه أمام المنضدة مباشرة - السلامو .. عليكم خويا هاد الوريقات بغيت ... ضاعت بقية الجملة في حلقه الموظف لم يكلف نفسه حتى رفع بصره إليه تنبه إلى أن صوته كان فارغا شفافا كأنه بلا صدى .. كأنه يخرج من جسد أخر .. بدا شك ما يخامره شيئا فشيئا –ماالذي يحدث هذا النهار .. اش واقع - حاول التنحنح و اعادة نفس الجملة لكن معالمها هذه المرة ضاعت في ضوضاء صوت اجش انبرى من خلف كتفه مباشرة - سي عبد العليم الله يسعد الصباح .. - صباح الخير .. رد الموظف وهو يرفع عينيه اخيرا عن بضعة اوراق تراكمت امامه ... اهلااا سي الحاج كي داير - مد يده ليصافح "اللقب" و للحظات فقط خيل لصاحبنا أن يد الموظف عبرته لتستقر في اليد الممدودة من خلفه ..كانه لا مرئي تماما كانه الوحيد الذي يعي وجوده .. تلفت يمنة و يسرة لعله يجد جوابا ما في أعين من يحيطون به لكن راعه أن يجد نظراتهم تائهة في مجالات ما حوله، بتاتا لم تستقر عينه في عين أي شخص منهم بالإضافة إلى أن نظراتهم عليه كانت شبه ساهمة بوجوم مريب يحيط بها بل أنها كانت تعبره ببساطة دون الوقوف عند المساحة التي يشغلها جسده .. -ما الذي يحدث ااش وااقع؟؟كأنني صرت لا مرئيا. تزايدت سرعة نبضات قلبه و غلى الدم في رأسه غيظا و هو يرى الأيادي تعبره الواحدة تلو الأخرى لتستقر في يد الموظف و هو واقف في مكانه فتنحنح و هو يدفع بملف أوراقه ليضعه على سطح المكتب لكن الجموع خلفه شرعت تبتلعه ببطء ..شرعت تمتصه لتلقي به إلى الخلف بعيد دقائق معدودات و جد نفسه في مؤخرة الرتل بملفه المنفوش ،حاول العودة جاهدا إلى مكانه في المقدمة لكن المناكب صارت تعلو و تعلو و الأجساد صارت أكثر تلاحما في فوضويتها الصاخبة و هي تعتصر المساحات الضيقة جدا بينها لتصير كتلة واحدة من الظهور و الروائح و الأصوات بدا كطفل صغير يحاول اختلاس النظر لمشاهدة "الحلقة" لكن الأجساد أمامه تسد عليه مجال الرؤيا تذكر طفولته و تلك اللحظة التي كانت تمتد فيها يد ما لترفعه إلى أعلى ليتفرج .. تمنى أن تمتد تلك اليد من جديد لترفعه لكن لا جدوى لا أمل .. -وا الإخوة راني جيت مع الأولين .. وا الخوت ...وااا ضاعت هذه الجملة أيضا كمثيلاتها في نفس الصخب تعرّقت جبهته و تهيجت أوداجه فشرع يقفز رافعا عقيرته بالصراخ–واسي عبد العليم و اا سي عبد العليم ...،ملوحا بملفه لكن جمله هذه المرة اختنقت في الفضاء الذي صاريعج بأصوات الدراهم و هي ترن و تطن متنقلة من جيب إلى يد و من يد إلى .. يد أخرى ..و صوت الأختام و هي تهوي بعصبية على الأوراق لتترك فيها بقعا حمراء قانية .. تأكدت كل مخاوفه دفعة واحدة وهو يردد بعد فشل جميع محاولاته -ويلي لقد صرت لامرئيا ..