كنت قد اتخذت قراري بأن أكون آخر مواطن مغربي يغير بطاقته الوطنية، جاء هذا بعد أن تابعت لأيام، تعاملات شرطة أيت ملول اللا إنسانية مع المواطنين: انتظار وقمع ورشوة وتحرش بالنساء. غير أن نسياني لبطاقة الوطنية في جيب قميصي قبل تصبين هذا الأخير، جعل السيد القدر، مجسداً في مسحوق الغسيل، في إعطاء الإنطلاقة المبكرة لرحلة العذاب الرهيبة، من أجل استخراج شيء اسمه "البطاقة الوطنية الجديدة". عقود الإزدياد: إزدحام كبير وفوضى "خلاقة" وصلتني عقود الإزدياد عن طريق الحافلة، بعدما تكفلت عائلتي بأمر استخراجها وتحمل مشاق قطع مسافة 40 كيلومتراً نيابة عني. زيارتي للمقاطعة الحضرية الأولى بأكادير، من أجل المصادقة على وثائق شخصية، جعلتني أكتشف هول ما يعانيه المواطنون قبل استخراج عقود ازديادهم، حيث تابعت كيف أن رجال القوات المساعدة، الذين يفترض فيهم تنظيم الصفوف، هم من يسهر على خرق النظام عبر التوسط لمعارفهم ولكل من بدت عليه ملامح اليسر، أو من يعِدهم قائلاً "غانشوفك مازال"، أو "اللي حسبتي عليا نعطيها ليك".. فطن "كبير المخازنية"، إلى أنه أصبح موضوعاً للحوارات الثنائية، بعدما لاحظ أن شاباً في مقدمة الصف الطويل، يتهامس مع سيدة منتقداً ما يقع. اقترب بطلنا من الشاب فأمره "أن يعود إلى حيث أتى".. أي إلى مؤخرة الصف. احتج الشاب المسكين في البداية، غير أنه سرعان ما استسلم وعاد ضاحكاً بمرارة، بعدما تأكد له أنه سيُضيع مزيداً من الوقت إن هو أصر على موقفه. في مكتب سعادة الشيخ: الأمية في خدمة الداخلية وجدَتني الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، بعد ما يقارب الثلاث ساعات من الوقوف والجلوس، لا أزال أنتظر في "مقر" مكتب شيخ شيوخ أورير "الحاج بيجديكن"، إلى جانب حشدٍ غير يسير من المواطنين. غرفةٌ كئيبة عبارة عن مرآب يؤدي إلى مكتب مظلم. عند مدخل الباب مزهرية من بلاستيك تطل منها نبتة لم تُسق منذ أيام. في الزاوية علبة كارتونية مهترئة ممتلئة بالوثائق. "ملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف، ويا لها من تسلية أن تلاحظ الموظف من "جدية" مظهره وهو يؤدي عملاً تافهاً" على حد تعبير الرواية الشهيرة "ثرثرة فوق النيل". طال الإنتظار كثيراًَ فغادر مواطنون وجاء آخرون، لأقرر الرحيل. وبينما بدأت في جمع أوراقي وجريدتي، رمى أحدهم بعنف، على الأرضية الإسمنتية لمدخل الباب، بمجموعة من المظلات الشمسية. إنه الشيخ ، ففي كل مرة يأتي فيها يتأكد أن قدومه يجب أن لا يمر دون أن يثير الرهبة في قلوب المواطنين البسطاء. وقف الجميع تقريباً، إلا مني ومن بعض التلاميذ والطلبة الشبان الذين كانوا يلعنون الشيخ والحكومة وكل الوطن. أمرَ كاتبه بجمع المظلات، ودخل إلى مكتبه وهو يتحدث بصوت عال. كنت أول المنتظرين، لذلك نادى علي للدخول. يا كتليك بدل لا كارط، ما باقيش نصايب ليك شهادة السكنى. أنا كنسكن هنا. إيوا بدل لا كارط. داكشي علاش جيت. أوعلاش ما جيشتيش شحال هادي؟ يالاه ساليت، كنت خدام. بزعطة إيلا خدام. آش هاد الهضرا؟ إيوا نتا ما كاتسمع. دابا والله العظيم ويعجبني الحال ما تشدها. عادت إلي صور من الماضي: يوم مزق أوراق سيدة.. ويوم رفض لي انجاز شهادة السكنى كنت بأمس الحاجة إليها. يوم طرد سيدة من مكتبه. فلم أتمالك نفسي وتوعدته بأن أقدم شكاية في الموضوع. سير كتب اللي عجبك. كتب حتى الوالي. تأكد أني سأقوم بذلك، واعلم أن زمن ادريس البصري قد مضى. يَحكِي لي أحد الجيران: "ألا تعلم أن أخ الرجل برلماني من أثرياء المدينة؟ هذا الرجل، كان في العهد السابق، يجلُد المواطنين بالحزام في الشارع". أجبته: "ولهذا يجب أن نكون سعداء اليوم". مقر قيادة أورير: خلية نحل كنت سعيداً بتجاوزي الإمتحان الأول. ففي كثير من الأحيان يكون هو الأصعب. استرجعت أنفاسي، ودخلت مقر القيادة.. كانت الإجراءات سريعة، وكان الموظف الوحيد يتواصل بفعالية وأدب مع المواطنين ليتمكن المواطنون من دفع الوثائق في بضعة دقائق، قبل أن يعودوا لتسلمها بعد الزوال دون مشاكل تذكر، بعد توقيعها من طرف القائد، فتحية تقدير وتشجيع لكل أعضاء فريق قيادة أورير. مركز الدرك بتغازوت: مزاح طفولي، ومواقف هزلية كنا حوالي ثمانية أشخاص فقط، جالسين على كراسي خشبية عند مدخل الباب الذي ينتهي بمكتب خشبي صغير يجلس خلفه دركي شاب، ويجلس فوقه؛ فوق المكتب؛ دركي آخر من نفس عمر زميله. دركيان يتحدثان في الباب مع سائحين أمريكيين. الأربعة ظلوا يتواصلون بالإشارات أكثر من الكلمات. الدركيان الجالسان ظلا يتمازحان، حيث يقوم الجالس على الكرسي بمحاولة ضربه بآلة جمع الأوراق، فيما الثاني يبتعد هارباً بجسده لسنتيمترات، مديراً وجهه بنظرات لا تخلو من إغراء نحو السيدة الفرنسية التي تجلس قبالتي، والتي كانت الوحيدة المشغولة بيننا بمطالعة كتاب. بعد عشرة دقائق من دخوله، تساءل مواطن، دون أن ينتظر جواباً من أحد، وكأنه يسأل نفسه: إيمتا غايجي دابا هاد لاجودان. إيجب وقتما بغا. أجابه أحد الدركيين. بعد حوالي اربعين دقيقة قرر بعضهم بدء "العمل". آش عندك نتا؟ وقبل أن أن يجيبه الرجل، إلتفت إلى الآنسة الجميلة الواقفة غير بعيد منه: واش عندك نتي؟ فايت جيتي عندي ياك.. أجي معايا. غير تسنا نتا تما حتى يجي الشاف. هل بات الغش والخداع ماركة مغربية مسجلة؟ تركت الوثائق لدى رجال الدرك، ومن جديد طُلب مني العودة في الغد. رميت بجسدي داخل أول سيارة أجرى كبيرة. هنا أيضاً كان علينا الإنتظار فقد كنا خمسة الركاب، وفي بلادنا لازال هناك مكان شاغر لراكب في المقعد الأمامي، الذي لا يزال يتسع في المغرب لراكبين، حتى بعد إطلاق مدونة السير. جاء الراكب المحظوظ فأدار السائق محرك السيارة، وقبل أن ينطلق جاءت تجري سائحة فرنسية جميلة جدا في منتصف عقدها التالث. نظر السائق إليها حتى كاد يغرق، ثم نظر إلى الرجل الذي التحق أخيراً وكأنه يلعنه في داخله على قدومه قبل السائحة. وي ماضموزيل سي أورير، مي "سي فيني". سي كوا كيي فيني. لي بلاص ماضموزيل. وبإشارة من يده خارج النافذة أوقف "خطافاً" كان يمر: واهيا، أسي ختاد آر أورير، ستمنيا دراهم (خذ معك هذه السائحة حتى أورير بثماني دراهم). تساءل الرجل الملتحق مؤخراً متعجباً: 8 دراهم؟ إياه، 8 دراهم إيرومين (نعم، 8 دراهم "للنصارى"). شرطة أنزا: "شاهد ما شافش حاجة" استيقظت باكراً، وتسلمت شهادة السكنى من درك تغازوت، بعدما طلبت منهم تصحيح بعض الخطاء، فكان علي التوجه إلى مركز شرطة "أنزا" لدفع الملف كمرحلة أخيرة. أحد الجيران أخبرني قائلاً: "ستكون محظوظاً لأن الملك هنا هذه الأيام". كان المقر غاصًّا بالمواطنين بين واقف وجالس وشبه جالس. بعد حوالي 20 دقيقة لم يظهر شيء يوحي وجود أي نشاط، إلا من بعض رجال الشرطة الذين كانوا يتبادلون الأحاديث ببعض الكلمات التي لا تخلو من عنف أو قلة أدب. وكلما تحرك أحدهم فلتدخين سيجارة أمام الباب، أو لاستنشاق هواء. بعد لحظة خرج أحد الموظفين لينادي على اسم لم يكن صاحبه موجوداً. وما دمت لم أدفع أي وثيقة بإسمي ولم أتسلم أي رقم، بادرته بالسؤال: واش اللي جا كايدفع ويتسنا تعيطو عليه، أو كاتعطيوه نمرة؟ مابانوش ليك هاد الناس ياك؟ غير باش نفهم حيث إيلا بقيت هاكدا عمر نوبتي ما غاتجي. لا لا، دابا حنا غير كا نخربقو. أجي نتا نظم لينا.. ما فهمتينيش... دابا أشنو بغيتي؟ نشرح ليك آش درنا من الصباح؟ كان الحوار فاراغاً وأطول مما سردت. كنت أسأل في جهة ويجيب في جهة أخرى بشكل متعمد محاولاً تقويلي ما لم أقله. كنت متأكداً من شيء واحد، إما أني فقدت عقلي، أو أني أمام نظام أحمق. مجرد السؤال كان بالنسبة لرجال الأمن، لا وبل حتى لبعض المواطنين تمرداً وقلة احترام ل "الشاف". بالنسبة لهم حتى "أن تقول لصاحبك أنصت" لغو. بعد ما حدث في البداية، تيقنت أن عملية انتظاري لن تكون لها نهاية ولا بداية. لذلك غادرت متوجها إلى ولاية امن أكادير، ففي أكادير حسب الجالس منتظراً بقربي "يوجد الملك"، وحيث يوجد الملك يوجد النظام. لكن لماذا لا يذهب هو أيضاً إلى أكادير حيث يوجد النظام بسبب الملك؟ ربما يحب الإنتظار.. أو يكره النظام والإنتظام. ولاية أمن أكادير: "المزوق من برا، آش خبارك من الداخل" المكان جميل. أبيض ناصع وكراسي مرتبة للإنتظار، وملصق كبير يشرح بتبسيط المراحل التي سنمر منها: ندفع الملف، ونحصل على رقم، ثم ينادى علينا لأخذ البصمات. لقد كان كل شيء واضحاً. أو على الأقل حتى الآن، فبعد نصف ساعة فقط من الإنتظار بدأت أشاهد ما يكفي لتفنيد توقعاتي: شرطي وهو يتسلم ورقة نقدية من أحد "المواطنين"، وموظف شاب بربطة عنق وعينان خضراوان يدخل فتاة تلو أخرى قبل الجميع. كانت الفوضى عارمة رغم التجهزيات والمكاتب الخادعة. شاب في الثلاثين قال لي دون مقدمات: الله يعز "العينين الخضرين". لم يكن يقصد الموظف طبعاً. جاء دور هذا الشاب. وكالعادة كان أبسط شيء يكاد يؤدي إلى إشعال نزاع: وادير أصاحبي الفلوس فجوا. شحال؟ واش كاتحماق عليا. راك عارف شحال. شحال؟ راه ماعرفتش شحال. كان الموظف الأصلع غاضباً. وعندما تتأمل طريقة العمل تكتشف أن سبب غضبه ليس سوى نظام العمل. فقد كان زملاؤه يأتون ليدسوا له ملف أحد معارفهما أو "زبنائهما"، أو يقاطعونه كلما أتى أحدهم بفتاة، أو يشتتون تركيزه عندما يأتون من خلفه ليسألانه أو لأخذ بعض لوازمه المكتبية. بعد المرور عند الموظف الأصلع الرأس، يأتي دور الموظف "الأسمر"، لأن الأسود بات وصفاً عنصرياً، وهذا الرجل فينظري كارثة حقيقية، إذ لم يكن يفرق بين دوره كموظف أمن في خدمة المواطنين، وصفته الأمنية المرتبطة باستتباب الأمن ومكافحة الجريمة والمخالفات. لم ينطق بكلمة. كان يدخن بيد ويحك جهازه التناسلي بيد. أشار إلي بيده (لا داعي لتحديد أي من اليدين). كنت أحمل في يدي اليمنى وثيقة البصمات وفي يدي اليسرى الظرف البريدي. سلمته الوثيقة. أعاد نفس الحركة فسلمته الظرف. فغضب لأني لم أفهم انه "طلب يدي"، أو بالأحرى أصابعي. جرَّ يدي بحركة لا تخلو من عنف، وأخذ يدير أصابعي لطبع البصمات، فيما بقيت أتأمله وأتأمل الموقف بسخرية، بعد أن ذكّرني بشخصية "كريستيج" في القصة الألمانية الساخرة "نظرة ازدراء" والتي تحكي عن غباوة رجال الأمن في إحدى المدن. استمر موظف البصمات في إنزال قسوته على أصابعي فيما بقيت أنظر إلى وجهه محاولاً تخيل كيف ينظر لعمله.. ولما انتهى تركني دون أدري هل انتهى أم سيعود لإعطائي وثيقة، أو أخذ توقيع، أو ربما بصمات أصابع الأرجل. بعدما تعبت من الوقوف عدت إلى كراسي الإنتظار فجلست أنتظر من جديد. غادرَتْ كل الوجوه التي كانت موجودة حين وجودي، وتلتها تلك التي جاءت بعدي. اتجهت إلى الموظف الأصلع وقبل أن أُكمِل حديثي سلمني الوصْل، الذي كان جاهزاً على مكتبه، وعلى وجهه ابتسامة تقول "مبروك عليك العقوبة، في المرة المقبلة قل أمراً وطاعة ولا تكن متمرداً". رجال أمن يبعثون على الشفقة: غباء وكسل وتصرفات لا أخلاقية طابوران طويلان يخرجان من قاعة الإنتظار، ثم يلتفا كأفعى عبر ساحة الكوميسارية قبل أن يطلا من الباب الخارجي. واحدٌ للرجال وآخر للنساء. لا شيء يوحي بتحرك الواقفين في الصفوف. قهقهات تنبعث من المكتب. الموظف الشاب يخرج بزهو من حين لآخر وكأنه يقول للجميع "مصيركم بيدي، واعلموا أن للذكر مثل حظ الأنثيين من الإنتظار". بربكم، ماذا يعني أن تنتظر دورك في طابور طويل طوال اليوم، وعندما يأتي، يقول لك الموظف بأن بطاقتك غير جاهزة؟ وماذا يعني، في زمن تقنيات الإعلام والإتصال، وفي زمن البطاقة البيومترية الجديدة، أن لا يتم إنشاء موقع إلكتروني لأخذ المواعيد؟ فأن يعلم محمد، أن موعده يوم الأربعاء القادم من الساعة التاسعة إلى الساعة التاسعة، وأن تعلم خديجة أن موعدها هو يوم الأربعاء من الساعة التاسعة والربع إلى التاسعة والنصف، خير لخديجة ومحمد، وللموظف الذي سيستقبل مواطنين إثنين فقط في نصف ساعة وسيكون له كل الوقت لتدخين سيجارته وشرب قهوته. ماذا يعني أن تدخل لساعات وأيام في سباق صفوف يقود إلى المجهول؟ ألم يكن ممكنا تصميم موقع الكتروني يقوم من خلاله المواطن بإدخال رقم بطاقته والتأكد من جاهزيتها؟ وعلى مستوى الولاية، ألم يكن من باب الحكمة وتخفيف العبء على الموظفين قبل المواطنين تخصيص حاسوب للتأكد من وصول البطاقة أولا قبل أخذ الصف؟ لماذا يعتبر الوقت في وطننا أرخص من ممسحة حذاء؟ هناك احتمالان في نظري: الغباء أوالكسل، وهما الصفتان الغير المقبولتان من رجال الأمن. والإحتمال الثالث هو الإستفادة من الوضع. خلال الساعات الطويلة التي قضيتها في انتظار دوري شاهدت الكثير من الكسل والغباء والإستفادة من الوضع. فلو كان كل الموظفون يشتغلون 3 ساعات حقيقية في اليوم لاختفت الطوابير. ولو كانوا غارقين في شيء آخر غير الأحاديث الثنائية، وتصيد المال وتوزيع أرقام الهواتف على "المواطنات" لاختفت الطوابير. أليس قمة في الدناءة والإستهتار بمهنة في غاية الأهمية والحساسية، أن يحول بعض رجال الأمن محيط البناية إلى ملعب للتنافس والإيقاع بالفتيات والمراهقات والمومسات؟ وأي رجال أمن هؤلاء؟ "رجال أمن" يستغلون خوف البعض وجهل البعض الآخر، ويختزلون مهنتهم في نظارات سوداء وأحذية رياضية وسجائر شقراء. "رجال أمن" يتباهون بأجهزة التالكي والكي، ويتعمدون إظهار مسدساتهم من خلف ستراتهم الجلدية. "رجال أمن" بحاجة إلى إعادة تكوين في تقنيات التواصل، فعبارات من قبيل "ريح الأرض" و"آش داكشي نتا"، يجب أن تزول. مواطنو الدرجة الممتازة والخدمات المسائية لمصلحة البطائق الوطنية بعد أيام من الإنتظار قررت تصوير طوابير الإنتظار بالصوت والصورة. وبينما أنا متكئ على القضبان الحديدي للباب أنتظر اللحظة المناسبة لسحب آلة التصوير من جيبي، حطت يد ثقيلة على كتفي. آشنو عندك أشريف؟ واحد لاكارط ناصيونال. جي عندي مع الثلاثة. كوليهوم بغيت نشوف الكوميسير. شكراً. متشرفين. ثم التفت إلى امرأة كانت واقفة غير بعيد عني: ونتي ألا لا.. تساءلت ماذا يمكن أن يعنيه أن يأتيك رئيس أو مسؤول ليخبرك أنه سيحل مشكلتك أنت بالذات. ربما يعني ذلك أنك محظوظ. ربما يعني أيضاً اعترافاً ضمنياً من لدنه بوجود مشكلة. بعض الرؤساء من كثرة اشتغالهم في الظل يحسبهم المواطنين موظفين صغار، فتجد دخولهم لا يثير أدنى حركة (كما يفعل دخول المِظَلِّي الحاج شيخ أورير) فيتعمدون من حين لآخر الإقتراب من المواطنين وحل مشاكلهم التي خلقوها، مع خلق مشاكل لحلها في الغد. في المقهى بدأت أتساءل إن كان يجب أن أقبل المرور عبر الكوميسير من اجل استخراج بطاقتي. في النهاية قررت أن أفعل ذلك على أن ألتزم بنقل كل الحقيقة كتابة حتى وإن كانت تُدينني. جئت في الوقت المحدد، فأخبروني أن الكوميسير غير موجود. بقيت أنتظره، لأتابع جزءاً جديداً من المسلسل: قبيل الغروب،عندما تغلق كل الأبواب، وتختفي صفوف البؤس، يأتي مواطنون من الدرجة الممتازة لتسلم بطائقهم بسهولة كبيرة كمن يشتري الرغيف. ينادون على رجال الأمن بأسمائهم كما ينادَى على النادل في مقهى شعبي. آخرون يقومون بإجراءات الدفع ب"الشورط" بصحبة أبنائهم قبل المرور إلى المطعم لتناول عشاء. بقيت أيضاً أشاهد الموظف الأسمر وهو يتحرك رفقة امرأة في نهاية عقدها الثالث، بلباس وجمال صحراوي أخاذ. الرجل يكاد يفقد صوابه.. كمن يريد قضاء حاجة طارئة. كان يبحث عن مفاتيح أحد المكاتب قبل أن يضطر إلى الدخول متسللاً من الباب الخلفي، بعد أن بدأ زميلين له في الضحك منه. أية إدارة هذه؟ وأي رجال أمن هؤلاء؟ واعز الدين، عز الدين. ماشتيش عبد السلام أصاحبي؟ دابا شكون اللي عندو السوارت ديال هاد الباب. فوضى مطلقة، تجعلك تخال أنك في دار دعارة أو سوق خضر. انتباه: الإنتظار خير من المعارفة نوع "خ" التقيت المواطن ح.ش، الذي حكى لي قصته. حصل على توصيله منذ شهر غشت وبطاقته حتى اليوم غير جاهزة. أما المواطنة فاطمة.س فقد وقع لها خطأ في بطاقتها، وحكت لي كيف أن الموظف أجابها بفظاظة، عندما طلبت منه توجيهها: غير شدي لا كارط وخلي الروسي، ولا خلي لاكارط ودي الروسي. هاد الشي اللي كا نعرف أنا. في اليوم الخامس، تمكنت أخيراً من لقاء السيد الكوميسير، بعدما أخبرت رجل الأمن المرابط أمام الباب، أنه هو طلب مني المجيء. قادني رجل الأمن وصعدنا عبر الدرج الضيق، ثم أدخِلت المكتب. طلب مني السيد الكوميسير بأدب التفضل والجلوس، أخذ توصيلي، ثم أدار الهاتف، وأمد المجيب في الجهة الأخرى برقم بطاقتي: واش واجدا؟ جيبها ليا.. والا آش كاتخربق... المنصوري. آه.. تا مالك؟ 110 ماشي 1010، عاود النمرة. أقفل الكوميسير الخط، بحركة غاضبة. ثم وضع توصيلي على مكتبه وقال لي: خلي ليا التوصيل، جي عندي غدا مع العشرة. ولما قرأ على ملامحي ترددي بخصوص التوقيت، أضاف: ولا عرفتي أشنو، جي عندي فأي وقت. في الغد منعني رجل أمن يقف خلف قضبان الباب من الصعود: لا يمكنني السماح لك بالدخول، هذه هي التعليمات. لقد تركت لديه توصيلي، وطلب مني العودة اليوم. آسف. اتصل به عبر الهاتف وهو سيطلب مني مرافقتك. ابتعدت لأمتار لأستظل بشجرة، وبدأت أسترجع شريط حياتي لما يقارب الساعتين. ساعتين ستنضافان للساعات الطويلة التي ضاعت مني في انتظار البطاقة والشيخ والحافلة... سنوات من الإنتظار في وطن الإنتظار. لو كان الوقت عُملة، لكان المغرب أغنى بلد. أنا الآن بدون بطاقة وطنية وبدون توصيل. أنا؟ ومن أنا؟ من أنا بدون بطاقة هوية؟ وما الهوية؟ آه كم أود أن أغيرك أيها الوطن، وفي أسرع وقت، كما يغير فائز في القمار حذائه البالي. نزل الكوميسير من مكتبه وتوجه إلى سيارته. ودون شعور، كمن التقى وجهاً مألوفاً دون أن يتذكر أين، حييته بحركة من يدي ورد التحية، وبقيت في مكاني تاركاً إياه يغادر، دون أن أقترب منه لطلب بطاقتي أو توصيلي. تكفيني "صداقتكم" سيدي الكوميسير. وإليكم نكتة حتى تعلموا أي نوع من أنواع الصداقة أعني: يُحكى أن رجلاً ذهب لقضاء حاجته خلف سور أحد الأسواق. وبعد دقائق من جلوسه انتبه إلى وجود شخص آخر يقضي حاجته بدوره على بعد أمتار فقط منه. نظر الشخصان إلى بعضهما البعض، فتبادلا السلام بتحية من اليد فيما يشبه الهدنة والإتفاق على الإستمرار في قضاء حاجتهما دون أن يزعج أحدهما الآخر بنظراته. في الغد، وبينما كان الأول مع زوجته يسيران في الشارع، التقى بالثاني، فتبادلا السلام وسأل الواحد منهما الآخر عن أحواله. وبعدما افترقا، سألت الزوجة زوجها: فين كا تعرف هاد السيد؟ فين كا نعرفو.. فين كانعرفو.. عمرك سمعتي بالمعارفة ديال "الخ..."؟ إيوا هي هادي. فعذراً سيدي الكوميسير، ولك مني التحية والتقدير. www.srakzite.c.la