ساعي البريد...و\" الماء والزغاريد...\" طلع النهار على ساعي البريد...في الفيلاج أو عوينات كما يسميه أهل البلدة ،أو ″لوبوليو″ –المنظر الجميل– أي الضاحية كما كان يسميه المعمر الفرنساوي... رجل في التاسع والخمسين من عمره...وبعد بضعة شهور سيتقاعد...ومند أربعة وثلاثين سنة يمارس هذه المهنة بصفة رسمية...وقد مارسها من قبل سنتين بصفة مياوم...يساعد ساعي البريد في ترتيب الطرود والرسائل الراحلات والقادمات...وينوب عنه في التوزيع إذا تغيب ساعي البريد لسبب ما... محافظ على لياقته البدنية...بفعل نشاطه في العمل وصغر عقله ...و لا يبارح ركوب البسيكليتة في تنقلاته بين مختلف العناوين المعنية ببريد كل يوم...ويحفظ كل مساكن الفيلاج والمقيمين فيها واحدا واحدا...وفيما ٳذا كانوا من أهل البلدة أو من غيرها... وأصلهم وفصلهم وحرفهم... فهو من هذه الناحية موسوعة الفيلاج بدون منازع...وحتى منازل المناطق المجاورة التي لم تشملها بعد المصالح العمومية بتسمية الأزقة وترقيم المنازل بحجة عدم توفرها على الشروط اللازمة...فهناك زقاق مصنوع من ظهر بيت في الخلاء وسط حقول الخضراوات والشمندر وجه بابه إلى نصف ربع فدان يحافظ على كل مظاهر ″الزريبة″... ناهيك عن البيوت الأخرى المتفرقة بداخل عرصاة الزيتون ودوالي العنب والرمان والقصب...يضطر ساعي البريد للوصول إليها ٳذا قضت مراسلات اليوم ذلك إلى وضع دراجته الهوائية بعيدا لوصول البيوت راجلا بين مدارات الزيتون...وحقول الفلفل الأحمر... وهو هكذا يحافظ على لياقة الدراجة... ويزيد من لياقته أكثر ...يستفيد من استرجاع أنفاسه، والاستراحة من دواسة الدراجة الهوائية وذلك بالقيام بنزهة قصيرة على الأقدام قد يعثر فيها على رفقة قصيرة لمار من هنا وهناك يتبادل معه السلام والسؤال عن الحال والأحوال...ولا يكتفي بتوزيع البريد بل أحيانا يستوقفه المرسل إليه ″بالله عليك يا سي الفاكتور″ عند عتبة الدار ويلتمس منه أن يفك له رموز الخطاب...وهو يعرف هدا الصنف من السكان في كل مكان من البلدة حتى أن هده الرسائل يعرفها مسبقا ولا يوزعها إلا في آخر جولة التوزيع اذا كانت عادية...أو عند بداية التوزيع اذا كان الأمر يتطلب ذلك حسب تقديره... وعلى العموم صدر ساعي البريد هدا أوسع من البلدة...التي تتوفر بالإضافة إليه على تقني...وأعوان مكلفين بخدمات البريد الأخرى...وسكرتيرة في الاستقبال تلبي خدمات السكان في إرسال أو تسليم حوالات نقدية و إرسال طرود بالإضافة إلى رئيس المكتب وشؤون مكتب الضبط... وساعي البريد يتفرد بزعامتهم بدون تعيين رسمي...ولا انتخابات... فقط بأقدميته وتنوع علاقاته بين مختلف شرائح الفيلاج لكونه ابن البلدة... وطيبوبة وأي طيبوبة انه طيب لدرجة انه في بعض المواقف ي..كاد أن يصيبه الإفلاس بفعل طيبوبته...وأكثر من ذلك فهو من طينة تجعله متميزا بين طبيب البلدة والمعلمين فيها والصيدلي وأصحاب المتاجر الصغرى والحرفيين...والأعوان بملحقات إدارة الفلاحة بالمكان... والسلطات وأعوانها سواء بالزي المدني أو العسكري...و غير منحاز لأي فئة، خاصة... وخاصة ممثلي السلطات التي تعاقبت على الفيلاج فهو يعمل كل ما في وسعه لضمان اطول مسافة ممكنة بينه وبينها...ومحبوب كثيرا لدى الأطفال أما الذين يملكون دراجات هوائية خاصة التلاميذ وهم ذاهبون أو عائدون من المدرسة ٳذا حدث وصادفوا ساعي البريد فلابد أن يحيطون به ليشكلوا معه كوكبة فريدة من نوعها يصبح بينهم وكأنه مدربا حقيقيا لفريق فتيان في سباق الدراجات يقيم معهم تمريناته العادية...ويلاحظ عليهم وضعية دراجاتهم...وهو من هذا الجانب تحفة متحركة بالبلدة...وبمشاهد غزيرة يناديه السكان بالسي الفاكتور...والسي هي السيد كما اختزلتها العامية...والفاكتور كلمة فرنسية... يلقبه أصدقاؤه بأفلاطون...لأنه معجب يهذا الفيلسوف وكثيرا ما يستشهد به...و في بعض الأحيان يضع أفلاطون في مواقف لا علاقة لأفلاطون بها... وعلى درجة متقدمة في ثقافة المعلومات العامة...تعود على قراءة جرائد مدير مكتب البريد...أو صحبة صاحب كشك السجائر والجرائد والمجلات الذي اعتاد الجلوس معه كل صباح يوم السبت...ومخلص لسماع الراديو... ومستواه الدراسي حاصل الشهادة الإعدادية والابتدائية... ففي زمانه كانت الأسر تعلق هذه الشهادة الإبتدائية في إطار بالبيت...أما بشهادة الإعدادية في زمانه، يمكنك أن تصبح معلما في الابتدائي أو ممرضا أو دركيا وشرطي مرور أو موظفا متوسطا بالإدارة براتب محترم ليس في كمه ولكن محترما من قبل تكلفة العيش... وبفعل البركة كما يعتقد انها كانت سائدة في زمانه...والبركة هذه كانت سلوكا ومبادئ اجتماعية يمكن أن تجدها مثلا في رحمة الجار بالجار...والثقة المتبادلة بين صاحب المتجر والزبون...وقس على ذلك... أما الآن فهناك في البلدة مجازين وبمختلف التخصصات في القانون والأدب وبشهادات عليا في الطب والهندسة والمعمار، من شدة قسوة قساوسة البطالة يشتغلون أيتها شيء، إن شاء الله حتى نادلا في مقهى شعبي بالمدينة المجاورة...أو سائق سيارة أجرة ... أما تكلفة العيش الآن فإنها تدوس على الأخضر واليابس...فراتب الأجير يغطي مصارف الحاجيات اليومية العادية بنسبة أقل من الربع ناهيك إذا كان هذا الأجير متزوجا وله أطفال ... فبعضهم يقيم اتبه دون قيمة حبل يشتريه لشنق نفسه.. طلع النهار على ساعي البريد...كما النهارات التي مضت مند أربع سنوات خلت على وفاة زوجته...وحيدا في منزل،...في تجمع سكني شيده المستعمر آنذاك لموظفي مكتب البريد ولترجمان البلدة ورئيس المركز الفلاحي فالنصارى حين كانوا هنا كانوا يعيرون اهتماما بالغا لموظفي البريد والفلاحة والغابة...والمنزل مؤجر بثمن رمزي...لديه ثلاث بنات تزوجن مبكرا وأنجبن أطفالا...ومن قبل أن تموت الوالدة بسنين...يملئون عليه البيت مناسبة واحدة في السنة هي عيد الأضحى لا تتجاوز في الغالب أسبوعين... فهن يقمن مع أزواجهن بعيدا في مدن بالجنوب...وتتنافسن فيما بينهن على من يظفر بإقامة والدهن عند واحدة منهن بعد حصوله على التقاعد...ويكتفي بإقناعهن، أنه عندما يحصل على التقاعد لها ألف حلال وهو يعرف في قرارة نفسه انه لا مفر له من عشه...ولن يفرط في استعمال الزمن والإقامة في مكانه كيفما كان الحال... يحضر بنفسه طعام الفطور في بيته لزوجته ولأبنائه ولنفسه أيام العزوبية... وإذا حدث يوما و لأمر ما منعه من تحضير هذه الوجبة وكأن شيئا مألوفا اعتاد أن يأتيه كل صباح في نفس الموعد ولكنه تخلف عن الحضور...وإذا كان الشاي من صنع أي احد فهو شاي ليس ولابد... فالشاي يصنع بالأصول... وبدونها يسمونه أهل البلدة ″الماء والزغاريد″ يزين غرفة الجلوس بمنضدة وضع بنفسه رسمها للنجار...عبارة عن شبه صندوق في شكل مثلث من خشب العرعار في لونه الأصلي ومن غير طلاء و على مقاس الزاوية اليمنى للغرفة...تنتصب فوقها إطارات صغيرة ومتوسطة هي الأخرى من خشب وزجاج لا يعكس الضوء، لصور مختلفة بالأبيض والأسود وبالألوان له في الشغل مع الزملاء...ولزوجته والبنات وحفيديه...وسلطان البلاد بجلبابه الرمادي وطربوش أبيض،وأسفله راديو عتيق...مستطيل في حدود 80 سينتيمتر وعرض لا يتجاوز شبر ونصف...ومن الطراز الممتاز لو أمعنت النظر فيه لحسبته وجها إذاعيا لكل البرامج الممكنة أو محطة استقبال مخبأة في فمطر المنضدة لسبب من الأسباب...والراديو في حلة تمزج بين ثوب في لون حليب مع قليل من القهوة وزجاجة صغيرة في شكل مثلث في الزاوية اليسرى العليا يتقد فيها اللون الأخضر كلما كانت الموجة الملتقطة واضحة إذا كان الراديو شغالا...ومسطرة رمادية من البلاستيك المقوى لذاكرة مراجع الأمواج الإذاعية بمسارات ثلاث متوازية...مسار للموجات القصيرة... ومسارين للموجات المتوسطة والطويلة وهذة المسطرة هي الأخرى يتقد فيها اللون الأخضر ولو لم الراديو شغالا، تحدها من اليمين والشمال دواستين، على اليمين لضبط موجات الإذاعات وعلى الشمال للزيادة أو النقصان في الصوت... إنها لوحة قيادة حقيقية مؤطرة في صندوق بديع من الخشب والجلد في الأسفل... إذا حدث وجالست ساعي البريد في الليل والراديو شغال يصنع ضوء صندوقه الخلفي ظل وحدات صناعية كبيرة تشبه محطات استخراج النفط فلوحة قراءة الموجات المستقبلة والمثبتة خلف الراديو بداخل صندوقه منصبة عليها عبوات بمختلف الأشكال... وأكثر من ذلك يتوفر الراديو على جهاز استعمال الراديو المباشر ويتوفر لهذا الغرض على ميكرفون كبير يسمح بالاتصال مع أعضاء ″نادي الراديو المباشر″... وهو معطل أصلا منذ أن اقتناه ساعي البريد في شبابه من إحدى الأسواق المجاورة نهاية الأربعينات بثمن لا تقتني به الآن سوى لعبة بسيطة للأطفال من صنع بلاد الصين... وعندما تسأله عن هذا جهاز استعمال الراديو المباشر يجيبك كان ذلك عندما كان فيه ناس يعشقون الراديو العشق الكامل وساعي البريد هذا لو حدث وطلبت منه أن يبتاعك الجهاز بأي ثمن يطلبه يجيبك في الحال بالمستحيل ولا حظوا معي تموضع أفلاطون في الجواب ″ ولو يمت أفلاطون في عشقه للراديو ويعطونني مقابله جمهوريته لكي أحكم فيها البقية من حياتي ...″ فهدا الجهاز بالنسبة إليه رفيق العمر ينعش وحدته في المساء والزوال كما الصباح، يمسحه كل يوم وفي الصباح وبعدها يلمع الحداء...وكم يتأنى كثيرا في ضبط العقرب بإتقان على موجات الإذاعات التي يتنقل بين محطاتها... ″لندن″...و″صوت القاهرة″ ... و″الرباط″وكان يفضل إذاعة ″طنجة″ على هذه الأخيرة...ويصادف في بحثه إذاعات أخرى عربية في مختلف بلاد أوروبا وأمريكا وعلى ذكر أمريكا ف″هنا واشنطن″ كان دائما يحتاط من الأخبار التي تبثها وهو يستمع إليها عندما يقول المذيع ″هنا واشنطن″ يجيبه و″هنا لواشنطن بوسط لعوينات″ نسبة الى ″البوسطة″ أي مكتب البريد... كما يعثر أحيانا على موجة بغداد وبخصوصها يقول مشوش عليها كثيرا ولا تصلنا إلا بصعوبة...واه يا بغداد لو كنت استطيع أن أخلصك من التشويش ... وعندما يصادف أي راديو يفتخر بمذياعه ويقول أنه عندما يضبطه على موجة ٳذاعة لندن مثلا يقول بأنه يستمع إليها وكأنه في أستوديو الإذاعة...ولا تفوته بعض البرامج المسائية على غرار =سألني السائل من القائل وما المناسبة= =وندوة المستعمين= ولا تفوته اخبار الصباح...ويتتبع بعض التمثيليات التاريخية التي كانت مشهورة انذاك... قبالة مائدة الأكل خزانة بنية من خشب ومن الصنف الممتاز وبدون أبواب بواجهة مقمطرة الأشكال، مربع أو مستطيل، رتبت فيها مجموعة من الكتب...ودليل الهاتف الوطني... وساعة متوسطة الحجم بالأرقام الرومانية وتلفاز من الحجم المتوسط، لا يشغله إلا نادرا وغالبا بعد صلاة العشاء وكأنه مازال وفيا لعهده السالف أيام كانت برامج التلفزيون لا تبدأ بالبث إلا في الساعة السابعة مساء وتختم برامجها في الحادية عشرة والنصف قبل منتصف الليل...وبعض بطاقات التهاني المتوسطة الحجم وبأشكال مختلفة كان يتوصل بها من عند الفرنساويين الذين كانوا سابقا هنا ودلك بمناسبة أعياد الميلاد وأعياد رأس السنة فعندما تسأله عن واحدة منها يرد عليك، –″ ايه يا صاحبي تذكرني بهذه الفترة وقبل أن يحل العام الجديد بشهر وحتى بشهر ونصف كان النصارى يمطرون مكتب البريد بمئات وآلاف بطاقات التهاني المرسلة والواردة ولا ينسوا موظفي المكتب واحدا بواحد... لدي في الدولاب ما لا يحصى ولا يعد فقط هذه المثبتة بالخانة هي لبعضهم وكانت تربطني بهم علاقة خاصة وكانوا من مناهضي الإستعمار...خاصة رئيس المكتب كان مديرا لمصلحة البريد عندما كنت أشتغل بها مياوما وعمري أنداك 23 سنة...كان من بين القلائل الذين عودوني وبصفة منتظمة على التوصل منهم بهده البطاقات...وظل الاتصال بيننا قائما وأحيانا بالتلفون...إلى أن وافتهم المنية...″ وفي لحظة الجلوس إلى مائدة الإفطار، وعليها صينية الشاي بخمسة كؤوس وكأن زوجته وبناته الثلاث لازلن هنا بالبيت معه... عليها صحن مملوء بزيت عود الزيتون و صحن آخر للعسل... وطبق من القصب للخبز... في هذه اللحظة بالضبط تعتريه موجات مغناطيسية تطأطئ رأسه بالرغم منه ويستسلم بفعلها للغرق ... ففي هذه اللحظة بالذات كانت زوجته في حياتها حوامة على مائدة الإفطار تضيف إليها من هنا وهناك مستلزمات أخرى... زيتون أسود وجبنة ماعز جنان الأم تادلة... وتنادي البنات هيا يا مريم ويا زينب ويا خديجة... الإفطار جاهز... ولا تتردد في عتاب زوجها وهي تناديه يا سي جبور لقد نسيت الزيتون وبندق الشعير والبنات يحبون مربى التين...والمائدة جاهزة لا تتوانى عن استفساره ٳذا ما كان يلزمه شيئا...وهل تضيف إليه كأسا آخر من الشاي الساخن...يجيبها بأن تجلس في مكانها فالأخبار بالمذياع على وشك البداية...يستسلم في اللحظة ساعي البريد بشجون وصبر عميق فشتان مابين وهن معه ومابين وهن لسن معه... ،يستسلم رويدا رويدا للإفطار... بعدها يطفو من غرقه من بذله العمل الخاصة بفصل الشتاء، في لون زرقة الليل... ومن عنق قميص في لون زرقة السماء... ورباطة عنق عسلية يصنع عقدتها مباشرة على جيد القميص... انه يحب العسل كثيرا... ويموت في لون العسل...وحتى في الزواج ينصح بان تتزوجها عسلية في أهلها وفصلها...وسلوكها وان لم يكن فعلى الأقل يكون لون بشرتها عسليه فهدا اللون في النساء نادرا جدا جدا... يصوب القبعة على وجه المرآة بإتقان وهي آخر مرحلة قبل الخروج كأنه جنرال حكيم في وزارة البريد...وفي بلدة صغيرة... ولا يتردد بان يبادل وجهه في المرآة بابتسامة مستترة وبجدية يسلم على نفسه =صباح الخير يا سي جابر نهارك مبروك... هيا أين هي مفاتيح البيت... ينظر إلى حذائه الكل تمام ،إلى الأمام...= يخرج الدراجة الهوائية من فناء البيت بنشاط طفل سيتبارى مع أبناء الجيران في سباق الدراجات... ولا يركبها إلا بعد إن يروضها مسافة قليلة على الأقدام، وكأنها فرسا يعاشرها مند مدة... يحبها حبا جما ويتمهل ركوبها ليحادثها عن صباحها...وهل تشكو شيئا... ويسترق الإستماع إلى دوران العجلتين وهل الدواستين تلاحقهما فهذه علامة قياس توفر السلسلة على الزيت اللازم وكيف هو صوت عبور السلسلة بين العجلتين... وإذا ركبها يرن الجرس مرتين ولا ثالثة بعدهما ليتأكد من صلاحيته... فالجرس عنده مهم جدا كما يقول بنفسه وأكثر من الدراجة فإذا تعطلت الدراجة فانه يوزع البريد على القدمين وبالناقوس في اليد فهو يسهل ويزيد في سرعة التوزيع و بمثابة النشيد الرسمي ″للفاكتور″... لساعي البريد... فلا أحد يمكن أن يقف أمام بيتك ويرن بالناقوس رنتين غير ساعي البريد... يعلن بالرنتين وصول البريد إلى البيت...وقد يصادف طفلا يلعب بدراجته أمام البيت فالطفل ما إن يشاهد ساعي البريد حتى يسبقه في الرنتين وفي هذه الحالة يغضب عليه ساعي البريد غضبة الأطفال... −″رنين هاتف جرسك يا ولدي ليس ولا بد أن تكون اشتريته من الخردة...انظر إلى جرسك إنه من البلاستيك أما جرسي فهو من الإينوكس الحقيقي... اسمع الرنين، رنتين، ويستيقظ سكان البيت الأبيض في المريكان.. وأول شيء يفعله عند الركوب هو تصويب المراة المستديرة دات الايطار البلاستيكي الأسود مثبة فوق يسار المقود على قضيب بين ولو أنه غير سميك ودلك بالشكل االدي يسمح له مراقبة القادمين من الخلف...ويتفلسف مع المراة مخاطبا نفسه والله يا سي أفلاطون نظام الديمقراطية هدا نظام فاشل لأنه لا يستعمل في القيادة مراة تمكنه مرة مرة من قراء ة ما يجري في الخلف... عندما يبدأ السياقة ترى قدميه تلاطفا دواستي الدراجة ...يتمايل يمينا وشمالا فالمسلك امن الا نادرا بمرور عربة يجرها حصان كحيان و كمثل كل يوم يشتد شوقا لوصول مكتب البريد...ورغم ذلك فهو لا يستعجل الوصول فالوقت أمامه يكفيه جدا لولوج باب المكتب وقبل التوقيت الإداري المحدد رسميا وبنصف ساعة وأحيانا أكثر...ولا بد أن يعرج صوب مركز القيلاج حيث صاحبه وربما خله بالمعنى المجازي صاحب كشك القيلاج يقف عليه بدراجته دون النزول منها وعلى أقرب مسافة ممكنة فاللقاء هنا وكل صباح فرصة لا يضيعها ساعي البريد أبدا...لأنه مقر عمله الأصلي قبل أن يبدأ يمياوم في مصلحة البريد ولو لم ينجح في امتحان الترسيم كان سيرسم هنا...في هدا الكشك... صباحيات المكتب بسيطة وهادئة... يدخله كما العادة مبكرا عن دخول باقي الموظفين...بهو صغير للاستقبال ومكتبين ومكتب الرئيس...وممر في كواليس البهو لرفوف خشبية ترتب فيه الطرود والرسائل...يجد عند باب الممر كيسا للبريد القادم وقد وصل إلى البلدة عن طريق حافلة تعبرها بعد صلاة الفجر ويتكلف بهذه المهمة الحارس الليلي... يلقي ما بجوف الكيس فوق الطاولة...ثم يعود إدراجه إلى البريد الوارد من السكان في صندوق بريد المكتب المفتوح على الخارج ليسحب منه المودعات وهو يرتب الواردات من المرسلات عثر على رسالة واردة في اسم مدير المكتب وقد توقف عندها كثيرا لأنها واردة من الوزارة عن طريق المندوبية الجهوية لوزارة البريد تحمل الخاتم الرسمي للمندوبية الجهوية وعليها طوابع ثلاث حمراء كتب عليها تباعا مستجعل وسري وتستوجب الأعلام بالاستلام... ورغم انه فهم بسرعة أنها مراسلة إدارية تهم الشؤون الداخلية للمكتب إلا انه لم يبارحها... ينزلها جانبا ثم يعود للنظر إليها ويعيد رفعها مرددا بدواخله مستعجلة وسرية...وإذا بضجيج دخول الأعوان يتسلل إلى بهو المكتب وصوت فتح أقفال المكاتب...دخل عليه أبو سفيان المكلف بمخدعي الهاتف... –″صباح الخير يا عمي جابر... –″وأنت من أهل الخير ...من وصل؟ –″فاطمة الزهراء و السي حسن... –″والسي المدير وصل ... يبتسم أبو سفيان –″تسألني عن وصول المدير وأنت تعرف عمنا أن المدير وجميع المديرين الذين تعاقبوا على المكتب لا يصلون في الصباح إلا حوالي العاشرة وبعض الأحيان يستفسرون عن أحوال المكتب بالهاتف، ولا يأتون بالمرة حتى بعد صلاة العصر... –″ كل مرة تجيبني أسأل الله أن يعفو عليك من مثل هذه الأجوبة فأنا كلما سألتك ترد علي بمقالة صحفية... كان يستحسن لو كنت مراسلا لإحدى جرائد المعارضة... أنا أعرف ذلك يا سي أبو سفيان... فقط لأن اليوم وصلت رسالة من الوزارة مستعجلة وسرية وتستوجب الإعلام بالاستلام من يدري ربما تكون في علمه و قد أخبره صديق له في الوزارة أو المندوبية وقد يكون على علم بموضوعها مسبقا فالأخبار يا بني اليوم تصل قبل وصولها...وهي من أهداف الصحبة بين المسؤولين... −″ها أنت يا عمنا ألا ترى أن ردك لا يصلح فقط لمقالة صحفية في جرائد المعارضة بل لتدخل مستشار في البرلمان... –″انتهى الكلام خذ الرسالة وبلغه بها من يدك ليده...سأخرج بعد قليل لتوزيع البريد فأغلبه يهم الإدارات المحلية وإعدادية البلدة عندنا وقليل من السكان جلهم في مركز البلدة ولن أعود إلا بعد الزوال... لا تنسى يا أبو سفيان الرسالة...″ استحضر محفظته من الدولاب الخاص، ملئها بالمتحصلات من الرسائل وأضاف دفتري الإشعار بالاستلام...وطوابع الرسوم... وتأكد من وجود القلم ، ثم اندفع للخارج واختفى كالعادة بين أحياء المدينة...لكن سنصطحبه من بعيد واذا اقتضى الأمر نقترب من مكانه... كان طريقه على الممر الرئيسي للبلدة وليس شارعا رغم أن مصالح الشرطة الإدارية صنفته هكذا... ممكن أن يصبح شارعا في المستقبل وبعد عقود إن شاء الله وسمته الفداء...وساعي البريد الدراج بالممر لابد أن يبادل اصحاب المتاجر التحية ويتلقى شفويا دعوة التوقف لاحتساء القهوة ...يرد في الحال من بعد يا فلان جزآكم الله خيرا ويزيد الداعي ويؤكد عليه بان القهوة معطرة بالزنجبيل والقرفاء...ويرد متوقفا قليلا مائلا فوق دراجته مقسما انه لا يكره وانه سيشربها من بعد...وفيهم من من بعد السلام يسأله هل فيه رسالة يا سي جابر ويرد إن شاء الله نرن عليك رنتين قريبا... توقف عن باب صيدلي البلدة...بعد أن تبث دواسة الدراجة على حافة النحدر...دخل مستعجلا يسلم من الباب على عون الصيدلي −″هل السي الدكتور موجود... −″أهلا بك يا سي جابر فيه بريد؟...انتظر الصيدلي بالداخل أكلمه، لحظة... −″أهلا بك يا سي جابر تفضل أدخل... −″لا شكرا لدي اليوم مراسلات مستعجلة وأولها رسالتك قد لا تعجبك لكن ما على الرسول إلا البلاغ...وهو يسلمها له يسأله الصيدلي من أين وصلت الرسالة بالسلام −″انها من مصلحة الضرائب...عليها خاتم إنذار ثاني... يمسك الصيدلي الرسالة وقبل أن يطلع عليها ينحدر إلى أذن ساعي البريد ويهمس في أذنه −″آلا يصيبك الزكام يوما وتزورنا لأخذ الدواء والله ابتاعه لك مجانا... −″ ألا تعرف أن أفلاطون لا يصيبه الزكام ...السلام عليكم... −″إلى أين ذاهب إنني أمازحك فقط... −″أعرف ذلك ياسي الدكتور... أنا أيضا أمازحك... فمن أدراني بأفلاطون وعلاقته بالزكام ... المحطة الثانية إعدادية الفيلاج ما إن يرمقه مدير الإعدادية حتى يلمح على بوابه بأن بدهب إلى ساعي البريد الذي دخل إلى الإدارة وبلغه أن المدير يرغبه...بعد أن سلم طرود المؤسسة الى المسئول وهو بالباب وجد بواب المدير يباشره في تنفيذ وصية المدير ويجيبه ساعي البريد... –″يا سي ميمون رجال التعليم يعزون علي كثيرا وإذا قلت لك بلغ السي المدير أنني اليوم على حالة خاصة ...ثم يفكر قليلا ويضيف ما علينا دقيقتين حتى لا يؤول المدير ردي يستقبله المدير بباب المكتب بحفاوة ويستفضله أولا ولا يتردد ساعي البريد −″والله يا سي المدير مستعجل اليوم صحيح واعذرني لن أدخل −″ولم الاستعجال حتى البريد أراه اليوم قليلا...هل الأمور بخير...تفضل نشرب الشاي وندردش قليلا... −″استسمجك ياسي المدير والله أعذرني لكن المرة القريبة أنا الذي سأدخل مكتبك من دون أن تطلبني...السلام عليكم... توقف ساعي البريد قليلا عند باب الإعدادية يسأل نفسه ويجيبها...المدير معه حق وليس فقط المدير حتى الصيدلي... فلماذا أنا اليوم مستعجل هكذا...صارح نفسك... والله هذه الرسالة المعلومة التي وصلت هذا الصباح بأختام سري ومستعجل وتستوجب الإعلام بالاستلام هي سبب عجلتي لا أعرف لماذا اشتد الى معرفة محتواها وكأنها تعنيني...ومن قال لك أنها تعنيك؟ صحيح ولكنها قد تعنيني... فعندما لمست ظرفها وكأن ارتسامات وجهها تبدل...هيا يا جابر واصل العمل...لم بق إلا رسائل بعض السكان في التعاونية الفلاحية سأسلمها لمصلحة الأعمال الاجتماعية للتعاونية وتبقى رسالة الأم تادلة هي الأخيرة فتسليم هذه الرسالة يستوجب قراءتها للأم تادلة بالكلمة والنقطة والفاصلة والعودة في المساء لديباجة الجواب... وقد تخلص من رسائل التعاونية كانت الساعة تشير الى الحادية عشرة والنصف فقرر العودة الى مكتب البريد...للتخلص عنوة من محفظته ولمعرفة مآل توصل المدير بالرسالة المعلومة... وهو يلج المكتب اتجه مباشرة الى أبو سفيان بعد أن لاحظ أن مكتب المدير نصف بابه مفتوح...وقد اطمأن لوجود المدير...لكنه لم يجد أبو سفيان وجد عونا اخر مكانه −″السلام عليكم أين هو سي أبو سفيان؟... −″ أهلا بسي جابر... السي أبو سفيان راح للدار لغرض مستعجل −″هل سي المدير بمكتبه...؟ −″الله أعلم منذ قليل كان هنا... وهو يغادر استوقفه العون... −″هل الأمور بخير يا سي جابر هل في الأمر شيئا؟... −″ نعم بخير لماذا؟ −″لأنك غير سي جابر الذي أعرفه...وكأن أمرك فيه سؤال؟ −″ فعلا معك حق فأنا غير طبيعي هذا الصباح...السلام عليكم... وهو يقتحم بهو المكتب يتخذ اتجاها يسمح له بالاطلاع عن داخل مكتب المدير فيما ٳذا كان موجودا ثم يقترب من سكريتيرة الاستقبال...ويقف جنب طابور من أربعة زبناء جاؤوا لقضاء أغراضهم...والسكريتيرة دون أن تتوقف عن خدمة الطابور وعينيها الى الأوراق تسأله... −″أهلا بك يا سي جابر عدت هذا الصباح على غير عادتك؟ −″ نعم البريد قليل اليوم...هل سي المدير في المكتب؟ −″ربما كان للتو تفضل تحقق بنفسك؟ تنفس الصعداء وتقدم صوب الباب قرعه ولا من مجيب دفعه بهدوء ألقى بنظرة داخل المكتب ...المكان خال...ثم نظرة خاطفة فوق المنضدة وبسرعة شاهد الرسالة فوقها ... اقترب وتناولها ووجدها لم تفتح بعد... ثم عاد أدراجه الى السكرتيرة يرد عليها بأن المدير غير موجود...وزاد من همه وهم هذه الرسالة أنها لم تجبه فقد كانت في حوار مع آخر زبون...ثم انصرف إلى مخدع المراسلات وجلس فريدا ...في هذه اللحظة كان المدير يدخل بهو المكتب ويستفسرالسكريتيرة من بعيد فيما إذا كان قد سأل عنه أحدا...وترد عليه... −″فقط السي جابر؟ −″ هو هنا أين هو؟ −″للتو كان هنا...كنت مطأطئة رأسي لم أر أين اختفى... −″كلمي من فضلك السي أبو سفيان ؟ والسكريتيرة تنفذ وجدت ساعي البريد جالسا بمخدع المراسلات وكأنه في عالم آخر... −″اه السي جابر هنا المدير دخل؟ −″ المدير دخل؟ هب بسرعة من مكانه واستعجل الدخول لمكتب البريد... −″السي جابر أنت هنا على غير عادتك؟ −″ خلصت رسائل اليوم بقيت لي رسالة للأم تادلة أنت تعرفها يا سي المدير أن تسليمها يستوجب قراءتها فقط وصلت إلى هنا لأطمئن فيما إذا كان سي أبو سفيان قد سلمكم رسالة وصلت من المندوبية؟ −″نعم لقد تسلمتها...ووضعتها هنا... أين هي؟ أين هي؟ يشير إليها ساعي البريد بأصبعه حتى كاد يلامسها تفضل إنها هنا...يصطنع ساعي البريد الخروج ورئيس المكتب يستوقفه... −″تفضل سي جابر لنرى مضمون الرسالة...حتى تتكلف من فضلك بتسجيل وصولها في مكتب الضبط″ فتح المدير الرسالة وهو يستعجل قراءتها يبتسم ويزيد من عرض الإبتسامة... −″عجيب سي جابر كم عمرك؟... فقاطعه ساعي البريد −″ تسعة وخمسون سنة وستة أشهر... −″الرسالة تهمك يا سي جابر... تفضل خذ الرسالة وانسخ لك صورة وسجل وصولها بمكتب الضبط ولا تنس فاطمة الزهراء بالرد على بلاغ التسليم وعجل بإعداد المطلوب... −″خير يا سي المدير؟... −″إن شاء الله كل خير الرسالة... بين يديك تفضل واطلع عليها؟... وهو يغادر المكتب توقف بالبهو ونظر الى الرسالة عرفتك أيتها الرسالة منذ أن لامستك أنك تعنيني...تناول مكانا من كرسي المواطنين بالبهو والسكريتيرة ترمق كل حركاته ومن دون أن يشعر بها ولا بأي حركة أخرى...فتحها بين يديه... الرباط 22 شتنبر 1979 من وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية. إلى السيد المندوب الجهوي للمنطقة للوسطى.: الموضوع:ملف عدد 155666/م.م.ب المرجع :الظهير الشريف رقم أ.و.ع−25 الصادر بتاريخ 28 فبراير 1958 المرسوم رقم 350/ق.أ.و.ب.م.س.ل بتاريخ 15 أبريل 1928 سلام تام بوجود مولانا الإمام وبعد فعلاقة بالموضوع والمرجع أعلاه يشرفني أن أخبركم أن السيد جابر محمد جابر موظف بمكتب البريد رقم 155666 التابع لمندوبيتكم سيحال على التقاعد في 31 يناير من السنة المقبلة. وعليه يتعين عليكم تبليغ المعني بالأمر قصد تسوية وضعيته في الوضعية الجديدة وذلك قبل 31 دجنبر من السنة الجارية ويتعلق الأمر ب *نسخة من عقد الازدياد. *نسخة من الحياة الجماعية للأطفال دون 18 سنة. *نسخة من قرار التعين. *نسخة من آخر قرار الترقية. *البيان الأصلي للإلتزامات... والقائمة لم تنته... لم يكمل ساعي لبريد الرسالة... فلائحة الوثائق المطلوبة منه طويلة...طواها عرضا مرة واحدة واحتفظ بمرفقيه على ركبتيه...وإذا بالسكرتيرة تقترب منه ...بل تجلس إلى جنبه... −″مابك اعمي جابر منذ قليل وأنا أراقبك هل في الأمر شيئا...؟″ −″ ولا شيء يا ابنتي فقط توصلت برسالة، يخبرونني فيها بتقاعدي بعد أقل من ستة أشهر...تفضلي اذا سمحت خذي الرسالة وسجليها في الواردات واحتفظي لي بنسخة...ما زالت لدي رسالة الأم تادلة أنا ذاهب لتبليغها...وإذا احتجتم لي هذا الزوال أرسلي لي يحيا ″الحارس″ وساعي البريد يقطع البهو إلى الخارج...تذكره السكريتيرة، −″ والبسيكليتة يا عمي ألا تأخذها... −″ لا ليس هذه المرة... فمن الآن فصاعدا يجب أن أتعود على فراقها...وأنا اللحظة أشعر وكأن بمقدوري الذهاب إلى إسلام أباد على الأقدام... وقف ساعي البريد عند باب المكتب وعيناه إلى السماء...وقلبه على البسيكليتة... يخاطب نفسه ″ماعليهش يا سي جابر اشتر لك دراجة وإنساء الله أحسن منها أستغفر الله وهل أجد في هدا الزمان أحسن منها؟ أين مثل هده السلعة ...وهيا إلى الأم تادلة أكيد أنه سيكون لها كلاما اخر... وترى هل يمكن أن أجد هناك حفيدها...يارب أجده... راسلوني هكذا وبهدا الجفاف والجفاء وأنا الذي اشتغلت معهم نصف العمر وأكثر وخدمت في اليوم في بعض الأحيان ضعف ساعات النوم وأكثر وبدون الحصول حتى على إجازة واحدة وبهذا وكل هذه الوثائق المطلوبة وكأنهم لا يعرفونني... قرار التعيين يا الهي لقد اتاني القرار من عندكم...ونسخة من قرار الترقية ومند 15 سنة لم أستفد منكم ولو من نصف ربع ترقية... طز في وزارة البريد...وطز في الوزارة الأولى ...وطز في الحكومة كلها......″ حفيد الأم تادلة المصطفى الكرمي 11 يناير 2010