أخليت الشوارع مما خلف من ركام حملة انتخابية غير نظيفة بالكنس . وصدق التوقعات لم تكتمل مصداقيته بين حرث القرى و إضاءة المدن. الآن بين أيدينا النتائج الرسمية النهائية ، لكننا في هذا المقال لا نروم إلى قراءتها لا في توزيعها الخرائطي ولا في مناصبها التمثيلية لكل حزب، وإنما نسلك مسلك البحث عن الخلطة السياسية غير السوية التي أفقدت ثلة من الشعب المغربي الثقة في السياسة والسياسيين . لنقر جميعا أن الفكر السياسي المغربي يعيش تحولات باتساع قوس الدائرة الأكبر. تحولات أصابت المرجعيات المعرفية لأحزاب الحركة الوطنية كنظريات نضالية/ يسارية/ ثورية ... بمؤثرات داخلية وأخرى خارجية . لنعترف مسبقا أن الدولة لم ترفع يدها عن تدبير شباك حيتان الانتخابات بتاتا ، بل نقر أن "المخزن " بات اليوم بعد التطويع القسري التاريخي لرموز المعارضة (الجذرية ) لا يهاب من يمتلك الأغلبية ولو المطلقة من الأحزاب الطيعة التي قبلت منذ البدء بالتناوب أو التداول على السلطة ،والانخراط ضمن رقعة ضامة اللعبة السياسية الرسمية (بحكم دستور المملكة) . سلة المسلمات الأولية لن تنتهي إطلاقا إذا ما قمنا بالتنقيب فيها ، لكن صوت الدولة - "المخزن " – أصبح هو من ينادي بالديمقراطية وتخليق الحياة السياسية ، وتحديث الفعل السياسي الوطني . لن أحدثكم عن مصطلح "اللعبة السياسية "،لأننا بالمغرب سلكنا درب اللعب السياسي بالمد والجذب مع كبار رواد الحركة الوطنية الأوائل وتم تضيع نصف قرن بين أحزاب المد الثوري (اليسار الراديكالي ) وأبواب القصر الموصدة أمامهم بأقفال السلطة "المطلقة " المتمركزة بيد المخزن فقط .لكن لنعترف أولا وبإخلاص أن كل فجوة ديمقراطية مهما قلت مساحتها وضاقت أو أضحت فسيحة هي من صنيع جيل احترق شبابه لهذه اللحظة التاريخية التي نعيشها بالسلم الاجتماعي والأمن - (مقارنة مع دول الجوار ) - والانخراط السياسي التوافقي لمأسسة دولة الحق والقانون . الأمر الربيب الثاني الذي نستوثق منه في حياتنا الجماعية الوطنية بصدق ، وهو أننا نعيش لحظة تاريخية للتحولات السياسية والاجتماعية المكثفة بسرعة الأرقام القياسية المدرًة بدخل نتائجها النفعية على توطين الفعل الديمقراطي بقوة ، والسعي نحو تجربة جهوية متقدمة جنينية الإرساء . إنها التشكلات التحولية التي أربكت الساحة السياسة الوطنية وألقت بعصا موسى السحرية في أيدي أحزاب خبرت التسلل خلسة إلى قلوب الناس وأفكارهم ومنحتهم الأمل مرة ثانية في تنفس العدل والكرامة وحرية الاختيار، ومصافحة الأيادي البيضاء النظيفة ،وتجاوز وضعية شادة سكنت الفعل السياسي المغربي الحديث بنفعية الكراسي واحتلالها بالالتصاق، والتمتع باقتصاد الريع والنفوذ الاستبدادي . هنالك أسئلة كثيرة تتناسل بالتزاحم عندنا عن وضعية ملمح السياسية المغربية الراهنة والمستقبلية (الانتخابات التشريعية القادمة 2017)، وتدفعنا إلى نصب علامات استفهام محيرة بين انتكاس السياسة النضالية / المعيارية بأفول نجم أحزاب بعينها ، وبروز ثانية لسياسة الارتزاقية المبنية على العوائد المادية والمعنوية من محصلة العملية الانتخابية ، فيما الإضاءة القادمة حملتها الصناديق لزاما بالارتكان إلى منهل الدين وفرع القيم ، وخطاب التخليق السياسي بالالتزام والولاء التام للأمة والوطن . إذا ، لم تكن نكبة اليسار المغربي - (الترميز التاريخي ) - وما شاكله من أحزاب المعارضة التقليدية في انتخابات 04 شتنبر 2015 إلا محصلة مسلمة سدت فتحة حصالة الصناديق عن التصويت الجماهيري لهم ، فبدا واضحا أن الناخب المغربي يمارس حقه في العقاب العلني والتقية في التعبير عن رأيه (المقاطعة /العزوف). إن انكماش الكتلة الناخبة المتوجهة طوعا صوب صناديق الاقتراع بات يحرك فينا استعمال أدوات الاستفهام بتمامها ، فهل شاخت أحزاب الحركة الوطنية وهرمت ؟ ما هي الأحزاب البديلة التي أينع خطابها ؟ما هي انتظارات المواطين البسطاء حتى في أبعد نقطة من المغربي العميق من الانتخابات سواء المحلية أو الجهوية أو التشريعية ؟ كيف تتحدد الاختيارات الانتخابية عند الناخب ، وكيف تتشكل ؟ هل عملية الانتخابات ما هي إلا تسويق لمنتوج الديمقراطية المغربية خارجيا ؟ . هنا لا يسعفنا المنهج التحليلي بإصدار حكم قيمة كمسلمة بديهية أولية تُلحق أحزاب الحركة الوطنية المغربية إلى حكم الإرث التاريخي الوطني الجماعي ، بل نفطن مسبقا أن هذا الحكم ما هو إلا تضليل سياسي صادر من خصوم جدد خبروا سياسة احتلال مواقع ومعاقل الطبقات الشعبية . فيما أحقية منطق الجدلية - (بمعنى الإجابة ووضع الأسئلة وتوليد الحوار) – يحكم المسلك التحليلي ويفرض مرتكزات وسيطية تستدعي البسط بين عمومية الخطاب الاديولوجي /القديم والارتكاز على نقطة ظله الخافت الماضوي ، وبين إعادة بناء الخطاب الاديولوجي وتجديده بالحداثة التطورية ، ثم أخيرا بقراءة مغايرة تستحضر التحولات والتقلبات الدولية والوطنية ، والوضعية السياسية المغربية المتقدمة نحو إرساء النمذجة الديمقراطية - (لا نقول بالفريدة ) - بشمال إفريقيا وعموم الوطن العربي / الإسلامي . إن التشرذم الحزبي الحالي والانشطارات البركانية التي لا مبرر لها إلا التدافع السياسي النفعي /الوصولي الذي تعيشه الساحة السياسية المغربية بمتوالية " أنشق وأكون حزبا " أفقد فورة شعلة قوة أحزاب بعينها وطوح بها نحو هاوية عدم كسب حتى معدل العتبة المرجعية الاحتسابية . فالانقسامات واختلافات الرأي أنهكت ببينة مبيتة مجموعة من الأحزاب ذات الشعاع النضالي التاريخي . هي ذي الحقيقة النقدية التي يجب بسطها بين هياكل الأحزاب ذات المرجعية التاريخية سليلة الحركة الوطنية التحررية . حقيقة لا مناص من استحضارها الآن وليس غدا ، النقد الداخلي البناء الذي يعيد إصلاح الذات العليلة – (الهياكل التنظيمية / القاعدة الشعبية / الولاء التام للتنظيم ...) - للحزب ، والارتقاء بها نحو الهيكلة الإصلاحية الداخلية باعتبار الحزب ملك للجميع ، وحوض خطابه الاديولوجي السياسي بابه واحد ومتجدد من النبع الشعبي القاعدي . دستور المملكة 2011 يوحدنا جميعا ، فلا استئصال ولا متحف آثار. فالتفاضل الذي برز في آخر انتخابات هو في قوة الخطاب والإقناع والبرامج الانتخابية ، هو في الثقة بين الأجزاء المكونة للعبة السياسية (الناخب /المنتخب ) ، هو في القرب من المشاكل المعيشية للمواطن البسيط ومعالجتها بالتواصل والسماع والحلول الإرضائية ،هو في رشد الناخب وتمييزه بين من لوثت أيديهم بالفساد وبين من حافظ على الأيادي البيضاء . لكل انتخابات أعطاب مدوية ولو بالصمت ، لكن أعطاب الانتخابات المغربية كانت متنوعة ، وتتشكل من خليط يجمع بين ما هو تنظيمي قانوني وبين الفعل التنزيل الإجرائي . فيما الأعطاب الكبرى تكمن في العادات القديمة التي فطمت بها الانتخابات المغربية منذ الاستقلال بنزول مال التبييض ووجوه الأعيان (وكلاء اللوائح ) ومول الشكارة وسفسطائيي الانتخابات من شناقة وسمارة . ذ محسن الأكرمين / مكناس : [email protected]