سأل أحد الباحثين الاجتماعيين رجلا من الاسكيمو ما معنى هذه العادات؟ ولماذا تتمسكون بها رغم قساوتها؟ فأجابه الرجل إنني يا سيدي لا أرى من معنى لها ولكننا نتمسك بها كي لا ينهار العالم. إنه حال المسؤولين عندنا على قطاع التربية الذين يتمسكون بإعادة إنتاج الأزمة و التأسيس لثقافة الإقامة فيها، وفرض واقع يتنافى مع خطاب العقلانية و الحداثة وأسسه الديمقراطية، و ينسجم مع مسلكيات لا يمكن تصنيفها إلا في خانة التأسيس لثقافة متجذرة في الفساد، مما يرسخ معتقدات و ممارسات تصبح منهجا لهم عوض أن تتوفر فيهم كفاءات معينة بمعايير التأسيس لنموذج تربوي يضمن تكافؤ الفرص، إنه الابتعاد الدائم على ذلك النموذج الذي يجد جذوره في خطاب بيداغوجي معاصر أساسه النزعة الإنسانية، و قد تجددت توجهاته الفلسفية و الأيديولوجية بناء على تصورات واضحة ، لنجد أنفسنا أمام إدارة يشترط فيها الولاء لمزاجية بعيدة كل البعد عن مصلحة التلميذ، و بشرط ثان ومهم يفرض كفاءة تجعل من أصحابها- بعيدا عن كل محاسبة - أخصائيين لترقيع ما يمكن ترقيعه في أفق ترقيع شامل، إنهم مهندسو الأزمة الذين يقدمون خدماتهم بخبرة و تقنيات و معارف ... لكن للأسف بهدف جعل أدوار الإدارة محرفة، و إنتاج وضع بالتالي غامض تتناقض فيه الأهداف المصرح بها و المسلكيات التي تنبئ بنتائج أخرى عنوانها الإقصاء و التهميش و اللامساواة.. و يبقى التخمين هنا مشروعا ما إذا كان هؤلاء الأخصائيون يملكون ما يؤهلهم لاستشراف تبعات ذلك آنيا و مستقبليا على مصيرنا المجتمعي، لما لقصورهم في التفكير من آنية لا تتوفر على رؤية مستقبلية محورها الفلسفي أن يعيش أبناؤنا في ظروف أحسن من ظروفنا. و هو بعد فلسفي يحتم علينا مبدئيا القطع مع كل الممارسات و اللامبالاة التي تؤسس للفساد و جعله ثقافة متجذرة تستمر معها أزمة التربية خاصة و أزمة المجتمع عامة، مع العلم أن هذه الأخيرة تتعاظم كلما اختل ميزان توزيع المعرفة و القيم في مجتمع ما عبر نظام تربوي لا يرمي إلى إصلاح مجتمعي حقيقي يجعل مدخله الأساس ذلك البعد التنموي الشمولي الذي يهدف إلى التوزيع العادل للخيرات و السلط والمواقع والادوار الاجتماعية المختلفة .... إنه واقع نيابة "إفران" الذي يلخص أزمة العلاقة بين "نظامنا" التربوي و قيم الديمقراطية ببعدها الإنساني، و يضع موضع شك خياراتنا في جعل التربية الناجعة أساسا لمشروعنا المجتمعي غايته استثمار الرأسمال البشري وذلك بربط التربية بجميع تمفصلات الدينامية الاجتماعية قصد التحكم في مجراها بعيدا عن منطق إعادة الإنتاج لاستمرار التحكم و الهيمنة المادية و الرمزية في المجتمع بشكل عام . والعمل على جعل سلطة التربية المتفق حولها محركا للتدافعات الاجتماعية التي ستقلص من حجم الأزمة المجتمعية الخانقة التي أضحت أزمة بنيوية مركبة يمكن التكهن بنتائجها السلبية على مستوى المجتمع برمته. واقع استنفر الآباء و الشركاء و الفاعلين و المهتمين و الشغيلة و المسؤولين ( على رأسهم عامل الاقليم)... واقع خلق احتقانا بالإقليم تُطرح بسببه أسئلة بخصوص ماهية المدرسة و جدواها في مجتمعنا، خصوصا عند القرويين من الآباء الذين يضعون أبناءهم في شبكة طموحاتها المستقبلية للتعويض عن حيف زمنهم الجائر، واقع ضرب الشعارات عرض الحائط و أماط اللثام عن زيف الحقيقة التربوية كمدخل لبناء ديمقراطي، واقع يبرز أوجه العلاقة المفتقدة بين التربية و شعار الديمقراطية الذي نتغنى به و نوهم به المستضعفين من خلال خطابات رنانة نؤجل معها إصلاح مستقبل أبنائنا و ربما نورثهم مأساتنا و تعثراتنا... إنه واقع التدبير الذي يضرب في العمق كل المرتكزات الداعمة لجودة فعل تربوي يؤسس لمشروع مجتمعي هدفه انتقال ديمقراطي ننخرط فيه بكامل رأسمالنا البشري بكفاءة و فاعلية علّنا نجد لنا موطئ قدم في زمن تفرض فيه العولمة الجارفة ما تفرضه من إلغاء لكل من كان متهاونا و متواكلا و مفسدا... و جعله تابعا تتراكب هويته و تنجلي معالمها و يعيش مستلبا و مستهلكا يدور في فلك ثقافي لا يتبين معالمه و معالم وجوده. و لتبين معالم التدبير الإداري لما هو تربوي بالإقليم ü فإضافة لما كنا نقوله عبر مقالات بهذا المنبر منذ الموسم الماضي يكفي أن نذكر بطرق تدبير الموارد البشرية و منطق التواضعات و التوافقات و المحسوبية الذي يعتمد عليه، دون مراعاة المصلحة الفضلى للطفل، و يتضح حجم الاختلال عندما يصرح النائب الإقليمي بعدد الفائضين في لقاء بحضور فاعلين و شركاء آخرين للقطاع... ليدفع التلميذ ثمن راحة هؤلاء، كما هو حال مجموعة مدارس زاوية واد افران التي تحولت بنيتها بقدرة قادر بين الحركة الوطنية( دخول 3 أستاذات لتدارك الخصاص و خلق توازن البنية) و الحركة المحلية( فائض و ضرورة الترشيد خارج الجماعة) التي اعتمدت فيها النيابة "تدبيرا" يتبنى أشكالا من الأقسام المتعددة المستويات لا يمكن إيجاد أي تفسير لها على المستوى الفلسفي و التربوي و الاجتماعي و إيجاد حلول من خلال هذا الفائض المفتعل لمدارس أخرى... دون الاكتراث لمعاناة أستاذات التحقن( في إطار الحركة الانتقالية الوطنية بناء على تخطيطات النيابة ) بالمؤسسة من أجل الاستقرار ليجدن أنفسهن في وضع لا مستقر قد يستمر مع استمرار الارتجال...و نذكر مثالا آخر م/م المرابطين و قصتها الطويلة و المعقدة التي يصعب تلخيصها للقارئ لكون من أخرجها ووضع لها سينا يواتها هم أخصائيون من زمن آخر لم يعد للمشروع الجديد للتربية حاجة بهم، وما صمت المسؤول الاول عن التربية بالاقليم و عدم تدخله إلا مباركة ضمنية لضرب حق هؤلاء المتعلمين في التمدرس بشروط تخضع للمنطق العلمي و ليس لمزاجية و ترقيع يغلّب فيهما البعد الكمي على الكيفي، قصة هذه المدرسة يمكن تلخيصها في عنوان " من 9 أساتذة فائضين إلى خصاص (-2)يدفع ثمنه تلامذة لمدة سنة كاملة تقريبا" دون اكتراث لما يحدثنا عنه البعض بخصوص الدستور الجديد و دون اكتراث لخطابنا المستهلك بخصوص البناء و التحول ... و عناوين أخرى لنمطنا الديمقراطي الموهوم. أليس الضرب في حق تمدرس تلامذة أبرياء و فرض سنة بيضاء عليهم بسبب سوء التدبير جريمة لابد أن يعاقب عليها القانون؟ و عندما تغيب المسؤولية محليا أو ليس هؤلاء التلاميذ مواطنين قد نخسر الكثير إذا لم نعلمهم و للأسف لم يكن من منقذ لهم؟ كيف يمكن جبر الضرر الذي لحق بهم و بمستقبل المجتمع جراء هذا العبث فهل من منصف لهم؟ أو ليس ضربا لمفهوم المدرسة عندما تتناقل الألسن مثل هذه الحالات و تبررها بكون الجدّ أصبح لعبة بين أيدي المسئولين؟ ü ويبقى أن نزكي مرامي فلسفة النائب و طاقمه اتجاه أبناء ذنبهم الوحيد هو انتماء جغرافي يقع على هامش الرؤية و التخطيط و الطموح...، و نورد مستجدا في إطار قرارات النيابة التي تجعل تمدرس الطفل القروي صعبا، هو قرار إجراء امتحانات نيل الشهادة الابتدائية في يومين دون الاستشارة مع الأساتذة و المديرين و التبرير بكون القرار قد اتخذ باستشارة "المفتشين" بدعوى التطبيق الحرفي للمذكرات، دون مراعاة خصوصية هؤلاء و المتاعب التي سيسببها الانتقال ليومين إلى مركزية تبعد بأكثر من 16 إلى 20 كلم، مع العلم أن الانتقال سيكون على الدواب و بضرورة الحضور ساعة قبل موعد انطلاق الامتحانات و في وقت يتسارع فيه الآباء مع الزمن و مع التقلبات الجوية لجمع محاصيلهم الزراعية وهو ما يمنع مرافقتهم لأبنائهم، و مادامت التجارب تبين لنا أن اغلبهم ينتقل لوحده بين الجبال فهذا أمر لنا أن نتصور حجم مخاطره خصوصا عندما يتعلق الأمر بفتيات لم يتجاوز عمرهن 12او 13 سنة. إنه إذا كان هناك من إرادة فعلية لبناء مجتمع وفق قيم العدالة، فهو أمر موجب بالضرورة للاستماع لواقعها و القطع مع كل ما يؤسس لمسلكيات قد تعوق توفير مقومات و مستلزمات الإصلاح التربوي/المجتمعي المنشود، و هو أمر يستوجب إعادة النظر في مفهوم المدرسة و في طرق تدبير السلط بداخلها لتغليب البعد التربوي على المزاجية الإدارية المنفلتة من كل محاسبة، إنه الرهان على مقاربة مستقبلية تهدف إلى ربح رهان المواطنة و الديمقراطية. و لكن التساؤل الذي يقض مضجع الاستاذ على الدوام : كيف لمدرسة تضرب حقوق أبنائنا أن ترسخ ممارسة ديمقراطية في فضاءاتها لصناعة مواطن الغد المتشبع بالقيم الانسانية النبيلة؟ انه السؤال المؤرق للأستاذ و لكل غيور خصوصا عند تفحص العلاقة المأزمية بين مدرستنا و المجتمع و ما يفرضه ذلك من تفكير جدي في المقومات الواجب توفرها في كل مشروع مجتمعي للاصطلاح، و التي ستجعل من انخراط الكل في المدرسة التزاما أخلاقيا هو المحرك الأساس لتجديدها. ليتسلل التساؤل الأخر الى مخيلتنا و هو: كيف لهذا الهدف أن يتحقق مادام التدبير للمدرسة يتم وفق عقلية انفرادية متسلطة، منغلقة، وغير متواصلة .. ؟ المدرسة العمومية اليوم أضحت جهازا يشتغل في ظل دولة القانون و المساواة و تكافؤ الفرص... و هي بذلك تضع في أولوياتها و غاياتها مستقبل طفلنا بتزويده بثقافة المجتمع الجديدة و تشكل حياة مدرسية ينغمس فيها كفضاء روحي يحفزه ليؤسس من خلاله معنى الوجود المجتمعي و بنائه مهما كانت أصوله أوانتماءاته (قروي- حضري- امازيغي- عربي...)، فهل يا ترى تحقق المدرسة المغربية بالانطلاق من نموذج افران و غيره هذه الأهداف مع تلامذة العالم القروي؟ و هل " المقاسات الديمقراطية " التي يعتمدها مدبرو أمور التربية يستحضرون المبدأ المؤسس لمفهوم المدرسة المعاصرة و هو تعميم عادل للمعرفة لإنارة العقول مهما اختلفت أصولها و تباينت انتماءاتها؟ أليس من شروط البناء الديمقراطي دمقرطة عرضنا التربوي يتحمل فيه هؤلاء الاخصائيون في هذه الولادات التهميشية كامل المسؤولية و يضعون أنفسهم رهن التجديد الدائم لأطرهم المرجعية في التدبير و التسيير... حتى لا يتمسكوا بعاداتهم كي لا ينهار العالم كحال رجل الاسكيمو لكنه بفارق للأسف في كون هذا العالم ليس هو العالم الثقافي للإسكيمو الذي يجعلهم يتفانون في عيش حياتهم وفقه رغم قساوة الطبيعة، بل هو عالمهم الخاص، الضيق، النفعي و المصلحي... و للطفل القروي أن يؤجل أحلامه و ينتظر دمقرطة الفعل التربوي؟