في سياق الغليان الذي تعيش على إيقاعه مجتمعات العالم، تطرح قضية الهوية كأولوية من أجل التشخيص والفهم، و ما يزكي هذا النزوح نحو خلخلة سؤال الانتماء هو خطاب الهيمنة التي تتداوله بعض النخب، والتي ترى في الانتماء الهوياتي مدخلا لتأكيد التفوق والهيمنة داخل النسق المجتمعي العام. واعتبارا لسيرورة هذا الصراع، تتبلور مجموعة من الأسئلة تسعى إلى تفكيك الثابت والمتغير في معطى الهوية، وتعيد إلى واجهة النقاش عنف الإيديولوجيات والرموز، فضلا عن باقي أشكال التموقعات التي تعتمل داخل المجتمع. في مستهل هذا التحليل، أرى أنه من الواجب تقديم شهادتين أثرتا في منهجية تناولي للموضوع؛ جاءت الشهادة الأولى على لسان الفنان الأمازيغي الراحل محمد رويشة، وذلك في حوار فجائي جمعني به فبل رحيله بأيام قليلة بمدينته المحبوبة خنيفرة. بينما ترتبط الشهادة الثانية بما ذكره الروائي والمفكر اللبناني أمين معلوف في مؤلفه " الهويات القاتلة – قراءة في الانتماء والعولمة" الصادر سنة 1999 وترجمه إلى العربية د نبيل محسن. فبعيدا عن صخب الحفلات والمهرجانات، وعن نغم الوتر الذي يدب في كل جزء من أجزاء منطقة الأطلس المتوسط، حصل اللقاء غير المنتظر مع الفنان الراحل محمد رويشة، حيث كانت فرصة للاقتراب من "هرم" تجاوز وتره حدود الأمازيغ، فغنى للغربة والوطن، كما غنى للأم والحب والحياة..في قربك من الراحل تكتشف الإنسان الهادئ، تستنتج المستور في شخصية مثقفة وتقدمية، يتكلم العربية بطلاقة ، محب للحوار، وينصت بأدب كما لو أنه ينصت لرنات وتره. هكذا انكشف لي الفنان الراحل محمد رويشة، فرغم شهرته التي فاقت الحدود، ظل وفيا لهويته ووطنه، وهو ما تأكد من خلال الحديث الذي دار بيننا؛ إذ بمجرد ما قدمت نفسي للراحل على أساس انتمائي المجالي، قاطعني بأدب موضحا أن المشترك الذي يجمعنا أكبر من الرموز والخصوصيات التي تفرقنا. وقد بين المرحوم المشترك الثابت - بعد أن لمس في عدم استيعابي لمضمون فكرته – في أن الوطن هو ما يوحدنا جميعا، إنه بمثابة الأم التي يتسع حضنها لجميع أبنائها، وبصيغة تلخص ما سبق قال باللفظ الدارج " حنا ولاد وطن واحد". مضت 3 سنوات على رحيل الفنان الكبير رويشة، لكن الهم الهوياتي الذي لازمه ظل حاضرا في مشروع التعايش بين الحضارات والثقافات والشعوب، خصوصا في ظل اضمحلال أطروحات القيم الإنسانية التي حطمتها قوى التعصب الملتحفة برداء الدين واللغة والثقافة والعرق.. وزيادة في الإيضاح ينكشف المعطى المركب لمسألة الهوية من خلال المضمون الفكري الذي يختزله مؤلف "الهويات القاتلة" للروائي الكبير أمين معلوف. ففقي مقدمة كتابه يعرض الروائي الكبير عناصر هويته التي تشكل الثابت في عملية تطابقه مع ذاته، وهي عناصر ساهمت في تبلور سؤال عميق صاحبه أينما حل وارتحل، إنه سؤال "ما هوية أمين معلوف الأصلية؟" لقد غادر أمين معلوف لبنان سنة 1976 ليستقر في فرنسا، وقبل ذلك عاش في بلده سبعة وعشرين عاما من عمره؛ فعرف أفراح طفولته فيها، ولعب في أريافها، وتلذذ بقصصها التي كان يرويها أهل قريته، وأتقن لغته "الأم" العربية.. لكنه من جهة أخرى يعيش على أرض فرنسا، ويشرب ماءها ونبيذها ويكتب أعماله بلغتها، وتلامس يداه أحجارها القديمة باستمرار.. فهل يمكن وصفه بأنه نصف لبناني ونصف فرنسي؟ أبدا، فالهوية لا تتجزأ، ولا تقبل الانشطار، لذلك فهو لا يملك هويات وإنما هوية واحدة بعناصر متعددة؛ بلدين، لغتين أو أكثر، العديد من الثقافات والتقاليد..بمعنى أن هويته الأصلية هي هذا وذاك في نفس الآن. في تأملنا للنموذجين أعلاه ينكشف السياق الصحيح للهوية باعتبارها معطى مركب لا يقبل التجزيئ، لأن قبول مبدأ الانتماء الخاص تحامل على المعنى الحقيقي للذات، بل تواطؤ في إشاعة ثقافة التطرف. والانحراف، وهذا جد مهم على اعتبار أن تعدد روافد الهوية يغني الذات ويفتحها على ممكنات شتى تزيد من رقعة سيطرتها على كل أشكال الهيمنة والتعصب. ورحم الله رويشة الذي قال في إحدى روائعه " الله جمع المومنين صليو على النبي كاملين".