رواية جديدة للكاتب اللبناني أمين معلوف: تخييل ذاتي عن انجلاء الأوْهام صدرت بتاريخ 5 شتنبر 2012 رواية جديدة للكاتب اللبناني أمين معلوف بعنوان «التائهون». وهي رواية تندرج فيما بات يعرف بالتخييل الذاتي، يستوحي أمين معلوف بشكل كبير مشاهد من طفولته وشبابه. لقد أمضى معلوف فترة شبابه مع عدد من أصدقائه كانوا يعتقدون في عالم أفضل. وعلى الرغم من أنّ شخوص الرواية لا تتطابق مع شخصيات واقعيّة، فإنها مع ذلك ليْست كلها تخييلية. إن أمين معلوف، بعبارة أخرى، يمتح عناصره التخييلية من أحلامه واستيهاماته وخيباته وذكرياته. معظم الشخوص عاش معهم، لكنهم تفرّقوا في دروب الحياة. غير أنهم سيلتقون لكوْن مراد، الذي بقي في بلده، رغب في رؤية صديق طفولته آدم قبل أنْ يموت. وعن طريق «طانيا، أرملة مراد، التي اتصلت بأدم، سوف يعيد الارتباط ببلده، مدة ستّة عشر يوما، من 20 أبريل إلى 5 ماي من سنة 2001. يعيش آدم في باريس مندمجا مع المجتمع الذي كان قد هاجر إليه زمان الحرب الأهلية، سنة 1976، التي أتت على كلّ شيء. سوف يعود ليس بحْثا عن هوّية وهمية أو اتصالا بجذور بدّدتها الحرب، بقدر ما سيعود ليؤكّد انجلاء الأوهام: « كنّا نعلن انتسابنا إلى مدرسة فولتير أو كامو أو سارتر أو نيتشه، أو إلى المدرسة السوريالية، غير أننا أصبحْنا اليوم مسيحيين أو مسلمين أو يهودا. وذلك تبعا لتوصيفات دقيقة». إنّ السؤال الذي ظلّ يورّق آدم، عند عودته إلى ذكرياته هو: هلْ يمكنُ للمرء أنْ يعيد المصالحة مع عالَم متوار ومفقود؟ هناك هوّة سحيقة انتصبتْ بين مَن هاجر وبين من بقي. صحيح أنّ زياراته، رفقة أصدقاء الماضي، إلى بعض الأمكنة، واستحضار بعض المواقف الجميلة والمضحكة، وإعادة حكْي بعض مقالب المراهقة، قدْ أوهمتهُم بقدرتهم العابرة على إعادة ربط الماضي بالحاضر، إلاّ أنهم سرعان ما لاحظوا بأنّ المثال الذي كانوا يعيشون عليه قد مات. مضت السنوات، ونجحت الحرب في اغتيال المستقبل المشترك الذي كانوا يحلمون به: «لقدْ مرّت الحرب من هنا. لم تترك أيّ بيت ولا أيّ تذكار، كلّ شيء تحوّل، الصداقة، الحبّ، التفاني، علاقات القرابة، العقيدة كما الوفاء. كل شيء مات. بلْ حتى الموت بدوره يبدو لي اليوم ممسوخا ومشوَّها». لمْ يذْكر السارد بلده الأصلي الذي عاد إليه، ولمْ يذكر الحرب مباشرة، وإنما يذكر نتائجها وما خلّفتْه من ندوب وشروخ إنسانية عميقة. كانوا رفاقا في الجامعة، يلتقون ويتناقشون ويحلمون ويتمتّعون في شرفة البيت القديم الجميل الذي كان يملكه صديقهم مراد من دون أن يكفّ عن دعوتهم إليه. كان مراد أكثر الساخطين على آدم الذي تخلَّى عن بلاده، بل نسيها تمامًا كما نسي أصدقاءه هناك في أعالي القمم الأوروبيَّة وأشهرها. يؤكد السارد، على لسان آدم، على الفرق بين الهوية والانتماء. الانتماء الحضاريّ بطبيعة الحال لا تقيِّده حدود الأمكنة والهويّات. لقد عاش آدم وأصدقاء الماضي شتاتا حقيقيا عبْر أرجاء العالم. فعائلة نعيم اليهوديَّة رتَّبت رحيلها إلى البرازيل بهدوء. وألبر الذي أنقذته عمليَّة خطفه من إقدامه على الانتحار، يمضي ساربًا إلى الولايات المتّحدة عاملا في مركز بحث من تلك المراكز التي لا تخرج من تحت خيمة البنتاغون. رامز وصديقه شبه التوأم رمزي، المتخرّجان من شعبة الهندسة، المتوثبان للعمل حيث استأجرا مباشرة مكتبًا في مبنى مطل على البحر حصدته القذائف في الليلة الأولى في حياتهما العمليَّة، قرّرا بعد بكاء ثمّ ضحك هستيري المغادرة فورًا، وفُتِحت لهُما أبواب النجاح في الخليج حيث ذاع صيتهما وأثريا إثراء فاحشًا، وانتشرت مكاتبهما في القارات، لكنّ رمزي المتسائل عن جدوى كلّ هذا الغمار انتهت به الأيّام إلى النسك واختيار العزلة في الوادي المقدَّس راهبًا، كأنّ الدنيا لم تعلق لديه ببال. المنافرة لبنانيَّة أيضًا بين آدم الذي لم تلوِّث يديه الحرب بل ظلّ راسخًا في تحصيل الثقافة، والاستزادة منها نمط حياة عمليَّة في أجواء تحرّر جسماني لا يلوك همّا، وبين مراد المتشبِّث بمفهوم التجذّر في الأرض الذي قاده، تحت وطأةِ نزاعٍ حول الإرث العقاري إلى الاحتماء ب»كسلينغ» وقوّات الاحتلال التي قتلت أحد خصومه ليبقى تحت الحاجة إلى حمايتهم، ولكن أيضًا، ليصير وزيرًا وقادرًا على شراء مصرف بمئات الملايين من الدولارات، ممّا عمّق خلافه حول المفاهيم والارتكابات بينه وبين آدم. وهي الخصومة الوحيدة البارزة بين أصدقاء العهد القديم التي ترسّخت بينهما من دون علم رفاقهما بالتفاصيل. لا جدوى من الإفاضة في إطالة اللائحة، لأنّ الروائي يرمي كلّ ذلك في المهبّ عينه الذي منه وُلِدت الرواية. أمّا الحرب فهي كلّية الحضور في الرواية، ولكن، ولا جملة كُتِبت عنها بشكل مباشَر، تاريخنا الأرضيّ مدجَّج بالحروب. و»كسلينغ» مصطلح استعملته مجلّة «تايم» في حينه للدلالة على المتعاملِين مع النازيّة، وكلّ جيش احتلال هو سلطة وصاية. هكذا، يريد معلوف لروايته أن تكون بلا «جذور»، هو يمتعض من دلالة هذه الكلمة، ثمّة أصول، نعم، ولكن نحن وُلِدنا «في العالم»، وغير مهمّ اسم المكان بالتحديد. لذلك، فإنّ المقاربة السهلة لا تعدو كونها شركًا ملتبسًا يُقحمك في الرؤية القلقة التي خرج بها معلوف من رحلة أوديسيَّة في بحار الأمكنة والثقافات وقراءة الكتب وتدبيجها بابًا لقراءة حقيقة العالم كما هو في الواقع. ورغْم الشعور العام بالخيبة وانجلاء الوهم والمرارة، التي يستشعرها الذّكور، فإن المرأة تحضر، في رواية «التائهون، لتمنح الكرم وحرارة الحياة: دولوريس، رفيقة آدم، سميراميس، حبّ شبابه، «سيّدة القصر» التي وفّرت له إقامتها، وفتحتْ قوْسا عاطفيا في حياته، طانيا زوجة مراد... عرف معلوف بحسّه السرديّ الجميل أن «يفخّخ» حكاية كلّ فرد من مجموعة الأصدقاء القدامى، الحالمين المحتفلين بالحياة، الذين رمتهم ظروف الحرب في سائر أنحاء المعمور متفرّقين، بأحداث هي في الآن عينه إشكاليّات عالمنا الذي بات «بلا وجهة». تقنيّة السرد هذه قادرة أن تمتصّ حسّ المؤرّخ والمثقّف والروائي والإنسان لتحكي مأساة العالم الآن. فالمؤرخ يدرك أن الزمن الذي عرفه شابّا يانعًا متوثّبًا بأحلامه وشغفه بالحياة هو زمن مضى، ليس بمعنى الوقت، بل بمعنى شكل العالم وروحه. والمثقف قادر الآن، بشَعره «الشبيه بأمواج البحر في الجزيرة الأطلسيّة» وقد خطّه الشيب برقّة، أن يتفرّس الفجوة الفاصلة بين الكتب التي رافقته مجمل حياته وحالة العالَم الآن. والروائي لا يتردّد باستثمار كلّ عدَّته في أن يستلهمَ سيرة حياته ذاتها، وحياة أصدقائه، وطاقة التخييل وقوَّة الحديث حين يكون حميمًا ومعبِّرًا وغائصًا في خبايا النفس وصندوق أسرارها. الإنسان الذي يجد روحه بنأي عن «الهويّات القاتلة» وأوهام العودة الوهمية إلى «جذور» مزعومة، ليستخدم المنطق وقوة الجدل ليرى الحقيقة وسع الطاقة، وليكتشف اضمحلال ما كان يتوهّمه حقائق في ما مضى من الزمان. فالهوية، كما يقول معلوف في كتاب يحمل العنوان ذاته: «لا تتجزأ، ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ولا تُصنف في خانات محددة ومنفصلة عن بعضها البعض. وأنا لا أملك هويات متعددة بل هوية واحدة مؤلفة من العناصر التي صنعتها وفقا « لجرعة « خاصة لا تتطابق مطلقا بين شخص وآخر». لقد استولت فكرة استدعاء الجمع من أماكن الشتات ليكون اجتماع، بعد القيام بواجب التعزية لتانيا أرملة مراد، يستذكر فيه الأصدقاء حكاياهم وانشغالاتهم وخيباتهم وأفكارهم بعدما عركوا الحياة وعركتهم. دعوة كانت حافزًا لفتح «الملف»، والكتابة إلى هذا وذاك، ما هيّأ مناسبة للبوح العميق. نعيم وقدر يهود الشرق بالرحيل بعدما صار وجودهم القديم في البلاد العربية مصدر خطر على حياتهم وأرزاقهم. وآدم ليقول إنّ وجود إسرائيل أخّر العرب، ومنع مصالحة الغرب والشرق، وولّد صراعًا أعاد الإنسانيّة إلى الوراء نحو التعصّب الفئويّ (هويّات)، والتعصب الديني وصراع الحضارات. ورامز الذي حقّق ثروة خياليّة وهو سعيد بذلك، لكنه حزين في العمق لأنّ «شعبي في قعر الجحيم. أعيش حضارة مهزومة. البترول نقمة على العرب. المال موفور بكثرة لكنّه خلّف وراءه جيش عبيد». ونضال الذي صار أصوليّا حاقدًا على غرب «استعمرنا وقتلنا وهيَّأ الظروف لاغتصاب فلسطين»، وآدم يحاول جاهدًا متعَبًا ولكن بإصرار لمحاججته بأنّ الخطأ ليس فقط من الآخرين، بقدر ما يرتبط بتخلّفنا وضعفنا واختلافاتنا أيضًا. طبعًا هذه عناوين، في حين أنّ الراوي يضمِّن سرده حوارات يشدّها عصب متوتّر وجدليّ يحاول فهم الذات كما الآخر بالقوّة نفسها. أمّا رمزي، المتنسّك، الذي خلّف وراءه صديق العمر وثروة وفيرة وصار اسمه باسيل، كان الصديق الذي توجب زيارته في الدير النائي. يقول آدم: «لمْ أجئ لأحاججه، جئت لأصغي إليه باحترام، دون مقاربة رعناء». وهي زيارة أتاحت لآدم حين عودته إلى غرفة الكتابة، تأمّلا في مفهومه للدين، وفي المسيحيّة الشرقيّة، وهو المؤرّخ الذي درس الحضارتين الرومانيّة والبيزنطيّة، واطلع على ظروف نشأة النظم الرهبانية. يقول: «لا أشعر بعدم إيماني إلا عند سماع الوعظ من رجل دين. في مأتم أرتجف وأشعر بحاجة لأن أرنّم. أنا بين الإيمان وعدمه كما أنا بين وطنَيّ». يعترف في مثل إحساس عميق بأنّ «عظمة المسيحية في أنها مجّدت رجلا ضعيفا، مُهزأ، مضطهَدًا، متألّمًا... وفوق هذا هو ليس مؤكّدًا من رحمة السماء» مستحضرًا العبارة المثيرة التي قالها معلّقا: «إلهي إلهي لم تركتني!» يشارك آدمُ الرهبانَ طعامهم حين يتحلَّقون حول المائدة بصمت؛ ويلقي بعض الكلمات محاولا الدخول في مشاعرهم. إنهم من بلدان مشرقيّة مختلفة، وهذه مناسبة لاستطلاع منابتهم من دون إلحاح في المحاولة. أقليّات مشرقيّة في مهبّ أقدار عواصف الشرق. يتناول آدم «تفّاحة كبيرة باردة» ويأكلها منهيًا طعامه. آدم أوّل الإنسانيّة...وآخرها؟ «أحمل في اسمي طراوة الإنسانيّة الأولى وينبوعها، لكنَني أنتمي إلى إنسانيّة آيلة إلى الركود والتكلّس»، عبارة قالها آدم في بداية الرواية، وتردّدت قبل نهايته بقليل. إنه نقيض آدم الآخر، «السماوي والقدسي» الذي خرج مطرودا من الجنّة نحو المجهول، أما آدم الرواية، «الأرضي والدنيوي» فالسارد هنا هو المؤرّخ العقلاني المتحرّر المثقّف «ابن العالَم» «ربيب إنسانية واعدة» الذي إن سقط سيسقط «كجذع واقف مردّدا: أنا الذي كنتُ على الحقّ، والتاريخ هو الخاطئ». كم يشبه آدم «التائهون» أمين «اختلال العالم» الّذي يجتاحه قلق عظيم. «قلق نصير للأنوار، يراها تترنّح؛ مولَع بالحرية، يشهد ارتسام ملامح عالَم لا مكان لها فيه؛ نصير للتنوّع المتناسق يجد نفسه مكرهًا على أن يشهد، عاجزًا، صعود التعصّب والعنف والنبذ واليأس؛ وقلق عاشقٍ للحياة، لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربّص بها.» أمين ذاك رأى العالم مركبًا ونحن على متنه، وهو الآن بات «هائمًا على وجهه، بلا طريق ولا مقصد ولا رؤية ولا بوصلة، في بحر هائج...» تمامًا. لذلك، لا ينفع السارد/الكاتب هنا أن يتنصّل من «هويّته» كما يبدو لنا في سهولة مقاربة الأمور. هو في الحقيقة لا يتنصّل، بل «يؤنسن» شهادته كما يستشعرها تمامًا من ناحية، وكما يؤكّد بها وفاءَه لجوهر رؤيته الإنسانية التي عبّر عنها بوجوه مختلفة في سياق حياة «هائمة» في الثقافات والأمكنة. «التائهون» شهادة عن زمن وحياة وعصر غارق في التيه، وفاقد للبوْصلة منذ الحرب العالميّة الأولى. هو عصر «الدخول في المذبحة الشاملة، وتصدّع الحلم الكبير».