من ليبيا إلى البحرين مرورا باليمن، تبدو قوى الثورة المضادة في حالة اهتياج، لقد شحذوا أسلحتهم بعناية، وقرروا الانقضاض على المواقع والمعاقل التي انتزعها الثوار بغالي التضحيات ونفيسها...العقيد القذافي أطلق العنان لطائراته وصواريخه مستفيداّ من التواطؤ العربي والنفاق الغربي...العقيد صالح يهاجم بموجات متعاقبة من البلطجية وقوات القمع، المعتصمين في ميدان التغيير وجامعة صنعاء...مارشالات قوات دفاع البحرين و"درع الجزيرة"، يهاجمون بكل قسوة المعتصمين في دوار اللؤلؤة وجامعة المنامة، ويطاردون الثوار إلى القرى التي لم نسمع بها من قبل، تماماً مثلما يحدث في شرق ليبيا وغربها...إنها الحرب في ربع الساعة الأخير، أنها المواجهة في المربع الأخير...إنها لحظة إعادة ترسيم خطوط التماس الحمراء. الثورة العربية الكبرى التي سجّلت في اندفاعاتها الأولى، انتصارات ساحقة ضد قوى الفساد والاستبداد في تونس ومصر وليبيا، وامتدت تأثيراتها إلى عشرات المدن والساحات، تنتقل الآن، إلى حالة دفاعية، شبّانها وشاباتها يستميتون في الدفاع عن مواقعهم ومكتسباتهم، الضحايا يسقطون بالمئات والألوف بين شهيد وجريح ومفقود...النظام العربي يكشّر عن أنيابه، ويكشف عن وجهه القبيح، لم يعد يخشى على صورته، فهو يريد الحفاظ على "الأصل" أما الصورة فيمكن ترميمها لاحقاً...لسان حاله يقول: ما نفع الصورة أن سقط الأصل ؟!. الغرب – الولاياتالمتحدة بخاصة - سقط أو يكاد يسقط في الامتحان...تردده في تأمين الحماية للشعب الليبي، فهم كضوء أخضر من قبل "العقيد"، فزمجر هدد وتوعّد، صعّد ودمّر وقتّل وشرّد، بعد أن ظهر على الشاشات عارياً كالفأر المذعور...الرسالة وصلت إلى "عقيد" صنعاء: لماذا لا أفعل ما يفعله القذافي، وهل يحق لمجنون ليبيا ما لا يحق لغيره، لحس وعوده بالإصلاح وأوامره لقوات بضبط النفس ونزل إلى الساحة بلباس الميدان...دعوات واشنطن لضبط النفس، لم توقف النظام في البحرين عن الاستنجاد بقوات خارجية (أجنبية كما تقول المعارضة)، لشن حروب التطويق وفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي أعطيت إسماً رومانسياً في البحرين: "السلامة الوطنية" ؟!....الرياض في معركة الدفاع عن "الداخل السعودي" لم تجد حاجة للتشاور مع واشنطن ولا حتى إبلاغها بنيتها دخول البحرين عسكرياً، الوقت يضغط بقوة، لا متسع لهذه اللياقات، المعركة تدور في غرفة الجلوس ولم يبق سوى أن تنتقل إلى غرف النوم. الثورة المضادة تعصف في كل مكان، جذرها في الرياض وفروعها تمتد إلى عدد من الدول والمجتمعات والعواصم...لكأن التاريخ يعيد نفسه...ألم تقد الرياض الثورة المضادة على عبد الناصر والحركات القومية واليسارية في خمسينييات القرن الفائت وستينيياته...لماذا لا تقود المملكة الآن الحرب على "صحوات الشعوب وثوراتها"...هي فعلت ذلك إنقاذا للرئيس مبارك ونظامه...ومن قبل حين استضافت الرئيس التونسي المخلوع ابن علي...وهي تصعد الآن دورها المساند للنظم القائمة في المنطقة، من نظام صنعاء إلى نظام المنامة وما بينهما. وحده العقيد القذافي استحق غضب السعودي، ولأسباب أنانية و"ثأرية" فقط، لا علاقة لها بإصلاح أو تحوّل ديمقراطي...استنفرت الدبلوماسية السعودية ضد نظام العقيد، استحصلت على قرار من دول مجلس التعاون يطلب فرض حظر جوي، أتبعته بقرار مماثل عن مجلس الجامعة...وثمة أنباء بأنها ستشارك في القوة التي ستفرض الحظر على ليبيا إن صارت طريق الحظر سالكة و"تشرعنت" بقرار من مجلس الأمن. لا يمكن أن تكون "إصلاحياً" في ليبيا ومناهضاً للإصلاح في بلدك...لا يمكن أن تلوم القذافي على قتل الإصلاحيين في بلده وأنت تصف إصلاحيي بلدك بالأشرار...لا يمكن أن تكون منافحاً عن حرية الرأي والتعبير وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وأن تمنع ذلك عن شعبك وشعب اليمن والبحرين و"الحبل ع الجرار". ليس مفهوما أبداً أن تحشد الدبلوماسية و"القوات" ضد ديكتاتور ليبيا من جهة...وأن تقوم بالحشد ذاته، ولكن ضد الشعب ولصالح النظامين في صنعاء والبحرين...لم يأخذ أحدٌ على محمل الجد "فزاعة" التدخل الإيراني في اليمن والبحرين...ولم يشتر أحد البضاعة الفاسدة التي يروجها "الناطقون باسم البترودولار وكتبتهم"، بالأخص غير السعوديين، عن تفاهم أمريكي – إيراني على اليمن من قبل والبحرين من بعد، هذه حجج وذرائع غبية وممجوجة، قد تنجح في تأجيج الغرائز المذهبية والدينية، بيد أنها لن تنجح في اختراق عقولنا وتسميم وعينا...حتى واشنطن، المتربص الأول بإيران، الدولة الأعظم والأقدر، نفت بالأمس أن تكون إيران حاضرة بقوة في صعدة واليمن، وهي تنفي اليوم وجودد أية مؤشرات ودلائل على تدخل إيراني في الشؤون البحرينية الداخلية. غريب وعجيب امر هؤلاء، لم يتركوا حجة إلا واسحضروها لتأبيد الفساد والاستبداد...وعندما أعيتهم الحجج واستنفذوا كل الذرائع لم يعد في جعبتهم سوى اتهام واشنطن، سيدتهم ومرجعيتهم، بأنها تتآمر عليهم، لكأنهم مرة أخرى، جياب وجيفارا وجمال عبد الناصر. أما حكاية الاتفاقات الأمنية الناظمة لعمل "درع الجزيرة"، فهي "حكاية ساقطة من أساسها وأوهى من خيوط العنكبوت، فلا شرعية لنظام يعتمد في بقائه على قوى خارجية، حتى وإن أبرم اتفاقات بهذه الصدد...و"درع الجزيرة" صُمم في الأصل لحماية الجزيرة من عدوان خارجي مفترض (إيران دائماً والعراق لاحقاً)، وليس لحماية الأنظمة من شعوبها، ولا شرعية لأي اتفاق يستقوي فيه الحاكم على المحكوم، بقوات تدخل سريع أجنبية، حتى وإن كانت من دولة جارة وشقيقة. الثورة المضادة تطل برأسها البشع من جديد، تعيدنا إلى أجواء الخمسينييات والستينييات، زمن الحرب العربية الباردة والساخنة، قبل أن ينقلب السادات على الناصرية، وقبل أن تدخل المنطقة برمتها في "العصر السعودي"، وقبل أن يملأ كثير من الكتاب والصحفيين وأشباه المثقفين أقلامهم بالنفط الأسود بدل الحبر الأزرق.