عندما قرأت فتنة المساءات الباردة شعرت وكأن المرحوم المختار الغرباني وقع ومضته الأخيرة في هذه الدنيا ومضى. لم يكتب هذه الومضة ،لم يمسك القلم بأنامله الرفيعة ،ولم يسترسل في الكتابة، بل أغلق صفحة الحياة وعانق الموت بصمت،بلا حروف،بلا كلمات،فقد همس في مسامعنا جميعا وحملنا ثقل الكتابة ومسؤولية الكلمة المعبرة بإخلاص وصدق. عندما يحل بنا الموت تنتهي الإرادة،ينتهي التفكير،يجف المداد وتطوى الصحف،وتبقى سيرتنا خالدة عبر الزمن المهيب الرهيب،في شكل ومضات عابرة في سلسلة من قصص الحياة،وهكذا يموت الغرباني الإنسان حيث أسلم الروح لخالق الأكوان،لكن يبقى الغرباني على مدى التاريخ القريب و البعيد في ذاكرة الأجيال،ذاك المبدع المناضل الفنان. أحاول في هذه الورقة الوقوف على ما قاله المختار الغرباني عن الموت ،ولا أقف على ما قاله الموت عن الغرباني ،وبين القولين أجد نفسي حائرا منبهرا...حيث تحدث كثيرا عن موت الضمائر،موت القيم و المبادئ....... كان المختار الغرباني يموت كل يوم،يدق مسامير نعشه مسمارا مسمارا من خلال الكلمة الصادقة الكلمة المسؤولة،الكلمة الصادمة التي تخرج من القلب لتصل مباشرة إلى القلب،فالغرباني يعي معنى الرحيل وطرز مجمل قصصه التسع بحديثه عن الموت وعبثية الحياة وعدم جذواها إذا لم تكن ذات قيمة ليتساوى فيها الناس،حياة تصون كرامة الإنسان وتحفظ شرفه،وقد اتسمت هذه المجموعة القصصية بالواقعية وتطرقت إلى كثير من الظواهر الاجتماعية السلبية صاغها بأسلوب بعيد عن التكليف وظف فيها وسائل وتقنيات سردية مختلفة ،معتمدا في هذه القصص على مجموعة من البوابات: 1/الخرافة: وكانت قصة ‘عروس الماء' مثالا لهذا الاعتقاد الراسخ في أذهان عامة الناس،حيث بين فيها الغرباني سيطرة الموروث الثقافي و المتخيل الشعبي على أذهان عامة الناس،وقد بين في هذه القصة اعتقادهم عندما يعجزون عن تفسير الظواهر الطبيعية وخاصة عندما تجف السماء من المطر فإنهم يقدمون القرابين لسدنة السماء من أجل مدهم بأنابيب من الماء الزلال . وبهذه الخرافة يحاول الغرباني جاهدا تقويم الاعوجاج الحاصل في مخيال الناس، بل في عقيدتهم المسلمة منتقدا هذه السلوكيات المنحرفة التي تعبر عن عجز عقول الناس وتذبذب عقيدتهم الدينية،التي تحث على التنقل و الهجرة لكسب قوتهم اليومي(هكذا ذبحت البقرة الصفراء وما أمطرت السماء....وكذا السوداء وما حان اللقاء...وتلتها البيضاء..وما زلت أنا شبيه أبي...أومن بالهجرة سأزفها عروسا لي في المساء)ص9 2/السخرية: يسترسل دائما الغرباني في سرد وتتبع مجموعة من الانحرافات الخلقية و الاجتماعية، بعين القاص المتتبع لتصرفات فئة من الناس استغلت السلوك الفطري للشباب في المؤسسات التربوية التعليمية،ا هؤلاء الشباب الذين يحترمون الإنسان الذي يكبرهم ويسمعون كلامه،فكان المعلم الملتحي ميت القلب نموذج لهذه الفئة المنعدمة الضمير(دخل المعلم الملتحي ووقف الصبية جامدين...أمرهم بالجلوس فخروا ساجين)ص12 وبأسلوب يتصف بالسخرية يسترسل الغرباني في تتبع حركات المعلم الملتحي الذي انهال على “الروبيو”بوابل من الكلام الجارح لأنه أحضر كل الأدوات الهندسية غير أنه نسي المقص،فكان رد الروبيو(يرحم واليك ألسي....المقص عند والدي الحلاق...ما باليد حيلة يا أستاذ....)ص13 وكان هذا المبرر سببا في المزيد من السب و اللعنة(اخرج يا وجه اللعنة وإلا....اهتاج المعلم الملتحي ....أزبد فمه واحمرت عيناه...انفجر صوته زلزالا...اشتغلوا أيها العبيد....أمامكم رسم حر)ص13 وما يدفع هذا المعلم الملتحي إلى هذا الأسلوب القاسي مع التلاميذ هو شكه في زوجته التي أغرقته بالأولاد وبات يفكر دائما في العقيقة ومصاريف الولادة،وهذه إشارة أخرى إلى انعدام الوعي عند فئة هامة من فئات المجتمع التي من المفروض أن تساهم في تحديد النسل،و المعلم الملتحي نموذج من هذه الفئة المتعلمة التي لم تستفد أبدا من تعليمها،كما أن هذه المشاكل العائلية كان لها أثر سيئ في العطاء التربوي التعليمي فبدل انشغاله بالتدريس أصبح ينشغل بحركات وسكنات التلاميذ(اخرج أيها الملعون...اخرج تبولت وكسرت وضوئي..اخرج...)ص16 3/خيبة أمل المبدعين: مرة أخرى يعاودنا المختار الغرباني و يتدخل بمبضعه ليشق أجسام مختلفة في المجتمع مصابة بأمراض لابد من التدخل سريعا لاستئصالها ومن بين هذه الأمراض التي التقطها المرحوم الغرباني هي محاولة بعض المبدعين،ربط عملية الإبداع بأجواء شرب الخمر وسحب دخان السجائر،واعتبر أن الإبداع حالة نفسية لا ترتبط بمكان ولا زمان محددين،بل الإبداع حالة من السمو الروحي الذي يحضر في أي مكان وفي أي زمان،فكان الرسام الذي حاول رسم لوحته في الحانة وتحت تأثير الخمر، نموذجا لهذه الخيبة التي أثارت اهتمام النادل “فتاح” الذي استهان بهذا المبدع الفاشل لأن (السكارى أقزام في حجم الكؤوس في عين بعضهم البعض..تتشابه الكائنات في مشرب النوق و البعير)ص24 وبهذا المشهد الدرامي الذي التقطه بحسه القصصي يكون قد عكس حالة من الانحراف الشخصي عند بعض المبدعين،والموت السرسري الذي يعيشونه، لأنهم يربطون حالة الإبداع بدرجة معينة من النشوة التي تتولد عنها في اعتقادهم هذه الإبداعات ،وكانت النتيجة على لسان النادل الذي قال للمبدع بأن صاحب الحانة يريد تغيير لوحات أبي الهول وسفانكس بلوحات أخرى بشرط(أن يكون الفنان سكيرا بامتياز كبير ومن رواد سفانكس أن يتقاضى أجره مساء ..وبأثر رجعي،وبقياس كؤوس الخمر وليس بالنقد و العد)ص25 وفي ها إشارة واضحة من الغرباني إلى بعض الأقلام المستأجرة و الأقلام التي تشتغل تحت الطلب و التي تتقاضى أجورها بشكل عيني ،هذه الأقلام التي يستغلها كثير من دعاة الثقافة الذين يتسابقون على الجوائز في المحافل و الصالونات الأدبية الكبيرة،مستغلين إبداعات المبدعين ويعمدون إلى إضافة هذه الأعمال إلى أرشيفاتهم الفارغة 3/ الفساد السياسي : وهذا هو مربط الفرس عند الغرباني حيث إنه كان كثير الحراك السياسي و النضال الحزبي، وجاءت قصة الزعيم ليفضح بها سلوكيات كثير من زعماء الأحزاب السياسية،الذين يتشدقون بشعارات جوفاء تنطلي على فئة عريضة من الشعب لكنها لا تمر على الفئة المثقفة التي تحاول كشف أقاويل و ألاعيب هؤلاء الزعماء(حاولنا كثيرا تشويقه إلى نقاشاتنا بإخلاصنا للذاكرة،لكنه كان مصرا دوما على الاخلاص للذات)ص32 وقد عمم هذا السلوك على كثير من زعماء الأحزاب السياسية حيث اعتبرهم نسخا متشابهة( أنا مع فكرة استنساخ البشر...تصوروا معي أننا من نمط النسخة ولسنا أصلا في ذواتنا كما نعتقد...تصوروا معي أن شبيهي رقم واحد يحضر الآن اجتماعا حزبيا وشبيهي الثاني يتسكع في السوق الأسبوعي يختال بحذائه الأسود الجديد...وشبيهي الثالث يجري لاهتا وراء ضوء الحب الهارب وشبيهي الألف.. وشبيهي المليون...)ص33 بمعنى أن الغرباني يعطي إشارة إلى ضرورة توعية المواطن ورفع درجة اليقظة و الحس السياسي عنده من درجة الصفر إلى درجة اليقظة و الحذر،وعدم الانجراف وراء الخطب السياسية الرنانة التي يزول رنينها مباشرة بعد نهاية الحملات الانتخابية كما ينبغي التصدي لظاهرة استنساخ الزعيم الواحد،لأن ظاهرة الاستنساخ فيها خطورة على عرضنا وشرفنا ووحدة أمتنا وتتسبب في موت قلوبنا وضمائرنا ولذلك(قاطعه رضوان منفعلا كعادته،محتجا بالطرح المضاد....قل وماذا سيكون شأن زوجتك لو دق شبيهك رقم واحد،أو الرقم الألف باب شقتها ليلا أو نهارا ماذا لو استوى المسمار في ملمس الخشب...لو ..قل ألن يكون الأمر جد مفيد لرفاقي ورفاقك في الحزب)ص33 4/الفنطازية و الغرائبية: عند قراءة فتنة المساءات تشعر بنوع جديد من السرد القصصي الذي تجاوز الواقعية إلى خلق عوالم أخرى غرائبية،تنسجم مع مستويات التفكير عند المتلقي وخاصة عند المتلقي البسيط ،حيث إنه يكون مشدود الانتباه إلى الخطاب العجائبي الغرائبي،الذي تختلط فيه كائنات غريبة مع الجنس البشري. والهدف من استخدام هذا النوع من السرد هو تمرير وتزكية مجموعة من الحقائق العقلانية عبر بوابة الحكاية العجائبية الفنطازية(اقتربت منها أكثر،شرعت تتلمس لحاءها ثم تحسست أريجها وتذوقت أنفاسها،أحسست للتو أن كائنا غريبا ذات قرون متفرعة متشابكة ذات رؤوس حادة يحاصر امتداد أنوثتها بين ممرات الحديقة)ص61 إنه مشهد من مشاهد أفلام الرعب التي تبتكر وسائل متعددة تشد انتباه و اهتمام المشاهد،لكن الغرباني يشد اهتمام القارئ بهذه الكلمات المتناغمة التي تتصف بالبساطة و تقترب من مسامع القراء وتحثهم على الاسترسال في القراءة وتقليب الصفحات بحثا عن معنى ودلالة هذا الكائن الغرائبي الذي يلتهم البشر، مثلما يلتهم بازيليك في الدارالبيضاء ،كل رجل يمر بجانبه فيكون عرضة لنظراته الفاتنة و الساحرة،لكن هذا البازيليك الذي كان من المفروض أن يكون فاعلا يلتهم الرجال أصبح مفعولا به،حيث إنه دخل في علاقة غرامية مع كائن بشري،رجل فحل يعرف كيف يغازل المرأة ويجعلها تذوب في عشقه وتهيم في حبه(أحياني عليكم يا رجال آخر زمان كلكم على اختلافكم أحجاما وأسماء معدن واحد خالص كلكم تعبدون الجسد الندي الطري...وما سواه يبقى لشرارة النار..)ص60 . وهكذا يسترسل الغرباني في نقل صورا بشعة تعكس تدني المستوى الأخلاقي و القيمي لكثير من الناس الذين يستغلون سذاجة بعض النساء( تهاوت دموعها مطرا غزيرا...مد يده برفق حدثها بإطناب وبهتان كبيرين عن شأنها البالغ الأهمية في حياته هدأت كليا وقفزت من مرتعها تمرح في انتشاء دفين.)ص57 ولم يكتف برصد الواقع المحلي بل وسع دائرة اهتمامه بمتابعة الشأن العربي وخاصة القضية الفلسطسنية،التي حفرت جرحا عميقا في ذاكرته،لما ترسب فيها من مشاهد الدمار و القتل في أطفال وشيوخ ونساء فلسطين(الشرطي يحاصرها برشاشه..تتراجع الأم غاضبة ترشقه بكلمات عربية...صغيرها يصرخ يرتعد في حضنهاّ )ص70 في ضوء هذا الزخم الهائل من المعاناة النفسية المقلقة،كان من البديهي أن يكون الغرباني قويا صلبا،أعد نفسه لكل المفاجآت ،كان لايهتم بكلام الآخرين لا يحسب حسابا للمضايقات،يتحدى الخوف ويعانق الموت ومستعدا في أي وقت للرحيل،لأن معانقة الموت شيئ حتمي لامفر منه،لأنه مؤمن وصادق الإيمان بهذه الخاتمة لكن كان يمني نفسه أن تكون هذه الخاتمة بين أحضان القلم و الكلمة الصادقة(مرة واحدة انخطف ،انحبست أنفاسه خر رأسه متهاويا على مكتبه،انقطعت أنفاسهة مرة واحدة كما أجراس هاتفه التي استهلكت شحنة البطارية بإفراط)ص47 وفي هذا تشبيه الإنسان بالهاتف الذي يؤدي وظيفة أساسية في هذه الحياة،وهي وظيفة التواصل،ودق أجراس الخطر المتكررة التي تحدق بالمواطن من حين لآخر،لكن هذه الشحنة لابد لها وأن يأتي يوم وتخف قوتها،ويخفت صوتها. إن الألفاظ و التراكيب و التعابير التي أثث بها الغرباني فضاء قصصه كانت تحمل منطوقه،كانت تنهض من مستوى الصياغة/اللغة إلى الصياغة/التعبير، ينقل هذه الألفاظ من الحالة السكونية الثابتة إلى الحالة الحركية المتفاعلة مع المجتمع،التي تسمي الأشياء بمسمياتها وتعري المستور،وتكشفه للمتلقي من أجل إيجاد البديل الممكن. بمعنى أن الكتابة عند الغرباني تبعث على الكلام،وتفجر المكبوت و تدافع عن الحق المسلوب،وتساعد على الوصول إلى الهدف المرغوب،كتابة من هذا النوع تكون وليدة حرقة السؤال الذي يكسر الصمت فيقلب الصمت إلى وسيلة للتعبير عن الرفض. الكتابة عند الغرباني لا تؤمن بالترميز و التشفير بل هي وسيلة للتعبير المباشر،دون غطاء أو تزييف، إنها كتابة نارية متشظية توجه سهامها النارية إلى المعني بالأمر،دون خوف ولارهبة،كتابة في هذا المستوى ومن هذا النوع تحتاج إلى شخصية قوية،تتوفرعلى مخزون معرفي كبير،ومعجم دلالي زاخر بالمترادفات البليغة و البالغة إلى عمق المعنى. وتبقى الكلمة الصريحة الصادرة من الموقف الحي و المبدأ الأخلاقي هي السمة البارزة في كتابات الغرباني،بل هي الهم الكبير في حياته(وربما كانت الكتابة سببا فيما عليه من سقم وبلاء)ص44لما فيها من مشاهد متباينة بين الضحك و البكاء،بين الأمل و الألم،في وقت انتصر الألم على الأمل،عندما اختطفته المنون قبل تحقيق هذا الأمل،ليترك ظرف الرسالة مفتوحا ويسلمه لمحبي الكلمة الحرة الصادقة ويرحل في صمت،محبي الكلمة الملتزمة النابعة من الأعماق،و المرتبطة بالواقع المعيش،منبها إياهم من السفر في الأحلام،لأن هذا النوع من السفر هو في الحقيقة سفر المجانين، الذين يسافرون في المساءات الباردة التي تثبط العزائم وتشل الهمم،كما أن هذه المساءات الباردة تفصل الروح عن الجسد، وتسبب انفصاما في الشخصية.وفي المساءات الباردة يكثر الهم ويشتد السعال و المرض،ولهذا فإن المختار الغرباني يدعو إلى تحدي هذه المساءات الباردة في إشارة منه لململة الساكن و تحريكه،لخلق هذا الصراع وهذا الجدل الذي يساهم في تعدد الأصوات، وبتعدد الأصوات تتعدد الرؤى وتتكسر الحواجز وتتفتح الآفاق وينتشر الأمل،كما أن الغرباني بهذا الصوت القوي يترك بصمة قوية في طريق النضال الفكري و الجدال السياسي و الهم الأدبي و الإبداعي. *أديب وناقد مغربي المراجع فتنة المساءات الباردة.............المختار الغرباني في القول الشعري................يمنى العيد الدرجة الصفر للكتابة..........رولان بارث مقالة إلكترونية.............د.جميل الحمداوي