ينتمي القاص المغربي المختار الغرباني إلى فئة الكتاب الذين لم يتمكنوا من إتمام مشاريعهم الأدبية، رحل في قمة النضج الإبداعي، مخلفا مجموعة قصصية وحيدة، وهي بمثابة الأثر الناقص الذي لا يمكن أن نستشف ملامحه، إنه الأثر الذي لم ينكتب، فانطلاقا من «بيضة الديك» الوحيدة التي تركها في محفل التلقي إلى جانب كتاب رحلوا أم لم يرحلوا، يمكن أن نصدر الملاحظات التالية حول أضمومته القصصية الوحيدة، وهي ملاحظات تنطوي فيما تتيحه القصص من كوة قرائية سنصطلح عليها بمفارقات الواقع. يقول تولستوي: «إن الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه في الشارع» (1 ). تتيح لنا هذه القولة إمكانية الوقوف عند القوة السردية للنصوص القصصية، التي لا يمكن إرجاعها دائما للبناء الفني للنص، وإنما للفكرة التي تم الاشتغال عليها، فقصص المختار الغرباني، في مجموعته «فتنة المساءات الباردة» (2) لا تمنح قيمتها الفنية للقارئ مباشرة، وإنما تجعل القارئ يستعيدها ويقول في نفسه: هكذا أفترض. إنها قصص قصيرة جيدة، ولكن ليس بمقدورنا أن نبدي فيها رأيا محددا، إلا أنه ما أن نستعيدها في أذهاننا حتى نود المضي في التفكير في وقائعها، وحينذاك ندرك العمق الوجودي الذي انكتبت به، وهو عمق مقرون برؤية الكاتب الثاقبة لظواهر الحياة اليومية والعادية، ومدى قدرته على تحويلها والاشتغال عليها صورا ولقطات، ولمحات عابرة ومحدودة إلى تجربة إنسانية مكثفة، ولكنها ثرية يكتنفها مزيج من الغموض والقلق والخيبة والتذمر، وتحكمها مفارقات مشهدية ولفظية مثيرة للسخرية المباشرة، ومواقف غير معقولة ومتنافرة مع الواقع، أو تتسامى عليه باشتباك أصحابها مع عادات وأحلام وهواجس وأفكار ذات نفحة أخلاقية عالية. يستهل الغرباني مجموعته بقصة قصيرة، وهي قصة «عروس المساء» توحي من أول سطر فيها أنها قصة ذات منحى (اعتقادي) فثمة طفل يفاجأ بصنيع جده وجدته اللذين قررا ذبح بقرة صفراء لطرد لشياطين من القرية، والتبرك بالسماء حتى تجود بمائها. وما إن ذُبحت البقرة حتى قرر والد الطفل الرحيل عن القرية تاركا زوجته وابنه في ذمة الجد. يقول الراوي: «هكذا ذُبحت البقرة الصفراء وما أمطرت السماء... وكذا السوداء وما حان اللقاء...وتلتها البيضاء...ومازلت أنا شبيه أبي..أُومن بالهجرة، سأزفها عروسا لي في المساء..!» (3) وهذه إحدى مفارقات النص القائمة على سذاجة الشخصيات، في ظرف لا يقتضي إلا استخدام العقل والتريث. فتنتهي القصة بتوالي ذبح الأبقار في زمن المجاعة والجفاف، وهكذا يتداخل في القصة المنحى الاعتقادي الخاطئ كما أوحت بداية القصة، مع منحى الشخصيات وسلوكها، وحوارها القليل والعنيف. بل حتى الوصف الذي يقوم به الراوي/الطفل يفتقر إلى المعقولية والمنطق، وكأن القصة كلها حلم مزعج لشخصية لا تثق في توابث الأجداد ولكنها محكومة باتباع الأب. لقد فسدت الثقة في القصة عبر رموز وإشارات عرفية يمكن استنطاقها أنتربولوجيا من خلال توالي ذبح الأبقار في زمن الجوع والجفاف، وفرار الأب من الأزمة ليشكل رحيله تعميقا جديدا لصورة الواقع على حافة الهاوية. تعددت الهزائم وتفاقمت حالة الأسرة على عدة أصعدة. ويبني الغرباني مفارقة قصته «خيبة/سفانكس» على هاجس الفشل الذي يساور الإنسان حينما تتقدم به الخطى إلى الخمارة، ونموذجه هنا رسام، ليس مريضا بغير مرض السُّكْر، إنه يواظب على الرسم في الخمارة، ولكنه سرعان مايشطب على الرسم أو يمزقه ويعبث به من حوله. وفي نهاية القصة نكتشف أن سعادة الفنان تتشخص في زحمة المفارقات الوجودية، ورغم أن المفارقة في هذه القصة تنطوي على فعلي الرسم وتمزيقه، فإنها تبلغ حد رسم البهاء الداخلي لشخصية الرسام، وهو عزاء لتثاقل الأحزان، وذلك ما يدفع القارئ إلى التعاطف مع القصة تعاطفا نابعا من القلب. يقول الراوي: «أنا فقط أرسم من حين لآخر بحثا عن البهاء الداخلي.. ذلك كلما تثاقلت أحزاني وجف قلبي(...) والفنان ينفجر وحده ضاحكا مرة، شاردا مرات هاهو يمزق أوراق الرسم ويُبعثر أشلاءه من حوله...أشعل سيجارة.. إحمرّت عيناه الغائرتان.. يُتمتم.. يُغمغم.. تهتز أطرافه لا شعوريا.. يُزار ضريح اللغة من تحته.. حبس ضحكة أوشكت أن تنفلت من بين أسنانه المُخزّزة.. تُعاوده الضحكة ثانية فلم يقدر على حصارها.. ربما رأى معشر السكارى تكبر أجسادهم كلما عتقوا الروح بعشق الخمارة» (4). تردنا هذه المفارقة إلى الإنسان المغترب في المجتمع الذي تسبب في اغترابه، وتردنا إلى نتاج وجود عليل ضيع الوجود الإنساني على نحو فقد كل جاذبية ستجعل الإنسان يلتذ به، بل إن الصورة التي يقدمها لنا الغرباني في هذه القصة، لا تعدو كونها مسخا لعالمين، عالم الفن وكيف تبدلت مقاصده الفنية الصرفة، وعالم الفنانين الحقيقيين الذين هُمِّشوا بشكل أو بآخر. من ثم انبنت القصة بفكرة بسيطة عكست لنا صورة مشوهة لحياة فنان جرفه إيقاع الحياة الزائفة، ويتميز دور الفنان هنا بالتمويه والالتباس، من هنا كانت فكرة القصة تتسم بالإيحاء المرادف لصدع يتم في قلب الوجود المستتب. ويرسم الغرباني في قصة «خليها على الله» صورة ساخرة لمعلم، حياته مغلقة بالأوهام والقناعات المعاكسة للواقع، حيث يزعجه التفكير في الواجبات، ولا يجد وقتا يخصصه لمهمته، وهو المشغول كليا بمعدلات حسابية لشراء ما يلزم العقيقة. كل ما جرى في حصة درس الرسم الحر يخبرنا به الراوي بضمير الغائب، في سياق معرفته الشاملة بما هو ظاهر وباطن في شخصية المعلم، حاضرها، أفكارها، وأوصافها. يقول الراوي: «رأس المعلم الملتحي تكاد تنفجر.نظراته أوشكت أن تذبل حين حطت على خنجر صدئ.. العقيقة.. الخنجر ملعون ذكره، الذبيحة.. الدمية.. أواني الفخار.. الحيوانات البلاستيكية.. الأجواء قائمة لاستحضار مقام الذبيح.. خيال المعلم الملتحي يُغرقه في جحيم. ربما قتل يوما زوجته السمينة التي تلد كالبطة. اِستحضر وجهها الخمري، مشيتها المخاتلة في سلم العمارة. لا شك أنها خائنة.. تذكر أنها كانت تضم المرأة إلى صدرها حين كانت حاملا في شهرها الرابع.» (5) يُركب الراوي، في هذا المقطع، جرعة السخرية في نسيج النص من مفارقة مركبة تتكون من ثلاثة مستويات؛ يكمن المستوى الأول فيما يضطلع به المعلم داخل الفصل، إذ بدل أن يقوم بمهمة شرح أصول الرسم للمتعلمين يزرع في قلوبهم الخوف والرعب، والمستوى الثاني يرتبط أكثر بالمعلم الذي انشغل ذهنه بحجم النفقات المادية التي تنتظره، والمستوى الثالث هو ما جاءت به القصة من أداء لفظي أُختير بعناية فائقة، وهو أداء يترجم ويصف مواقف القصة. سنسمي المستوى الأول بمفارقة خداع النفس، والمستوى الثاني بمفارقة الورطة، والمستوى الثالث بمفارقة لفظية، وهي تتضام كليا في مستوى قصصي يوحي بان هناك فصل دراسي ولكن من دون أجواء دراسية. وتأتي قصة «الزعيم» لا لتبعث مفارقة على السخرية، بل إنها تخفف من وقع المعاناة التي تلحق بنفسية البطل/قارئ النص. تتوصل الشخصية برسالة من رئيس جائزة ياقوت للإبداع، يطلب تقريرا عن نص إبداعي، تبدي الشخصية قلقا كبيرا وحيرة أمام حجم المسؤولية، وتتحصل المفارقة المقنعة من خلال تجنب الكشف عن هوية المرسل وحتى المرسل، وصاحب النص الإبداعي. «هكذا نطق النص.. بهذا أوصت الرسالة.. وعليَّ أن أُقرر.. أن أقرر، لا.. لا، علي أن أُعيد القراءة.. فالأمر في منتهى الجدية اللازمة.. من يكن هذا المؤلف؟ آه.. الرئاسة تعمدت ذلك.. (محمي اسم المؤلف للتحقيق من نزاهة الإقرار) ... ومع ذلك، علي أن أقرر.. علي أن .. أصبر حتى جنون الليل.. وعلى الشمس التي عانقت غروبها الآن أن تطردني نحو بيت العائلة...» (6) إن هذا التقنع المتحقق في النص، قد حقق للقصة توازنا كبيرا بين الجد والدهشة، وبين هول المسؤولية الملقاة على الشخصية، وبساطة الطلب الصادر عن رئيس تحرير جائزة ياقوت للإبداع. ورغم طول القصة نسبيا، فإنها استطاعت أن تتمثل تحولات الشخصية، وهي تحاول في اتجاهين؛ التخلي عن حجم المسؤولية، وتكريس الموضوعية. ولاشك أن ارتباط أحداث القصص بمفارقات الواقع، بما في ذلك صور الشخصيات ووضعياتهم داخل وسط اجتماعي، وإن كان ذلك لا يتم، في نظر الكاتب، إلا من خلال تصور قصصي وأداء لغوي يقوم وينمو داخل بنية تشكل لبناتها الأولى من فكرة القصة المرتبطة أساسا بالكاتب نفسه ف«لاشيء يحدث في حياة الكاتب ولا يمكن استخدامه في القصة». (7) فكل ما ورد على الكاتب من غريب أو صديق إلا وخصّه بالملاحظة والتفكير. وهو في اعتقادنا إيمان من القاص بفكرته القصصية التي لا تنفك عن معيشه. وتتوالى القصص باعتياد كتابي ناضج، يتمثل أشكال مفارقات الواقع، وبنحت عميق في الأفكار بطرح وجهات النظر، وتمتيع الشخصيات بما تتيحه نغمة الخيال القصصي الحر الذي يشد انتباه القارئ منذ البداية. الإحالات: 1- هالي بيرنت، كتابة القصة القصيرة، ترجمة: أحمد عمر شاهين، سلسلة كتاب الهلال عن دار الهلال- مصر،1996، ص. 32. 2- المختار الغرباني، فتنة المساءات الباردة- قصص، دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع- المغرب، 2009. 3- نفسه، ص. 9. 4- نفسه، ص. 23-24. 5- نفسه، ص. 14-15. 6- نفسه، ص. 42. 7- كتابة القصة القصيرة، م م، ص. 11.